الحركة الطلابية كظاهرة إجتماعية

الحركة الطلابية . / د.عصمت سيف الدولة .

د.عصمت سيف الدولة .

دراسة فكرية في الحركة الطلابية بمناسبة يوم الطلاب العالمي .

مجلة الشورى : العدد الأول 1974 .

الحركة الطلابية ظاهرة اجتماعية فرضت ذاتها على الصعيد العالمي منذ نهاية الحرب الأوروبية الثانية .. لم يعد أحد يستطيع إنكار وجودها كظاهرة اجتماعية .. الا أن التسليم بوجودها ، أي الاعتراف بالحركة الطلابية ، لم يكن نهاية المطاف بالنسبة الى ما تثيره من أسئلة وما تستدعيه من أجوبة .. كان الاعتراف بها بداية لمواجهة تلك الأسئلة مواجهة جدية ، ومحاولة الإجابة عليها إجابة علمية .. ومن الطبيعي أن يكون اتساع نطاق الأسئلة التي تطرحها الحركة الطلابية وعمق الإجابة عليها كان مواكبا تاريخيا للنمو المطرد للحركة الطلابية وعمق تأثيرها في الواقع الاجتماعي . ولقد تنامت الحركة الطلابية في العالم حتى كادت أن تتحول الى ظاهرة ثورية فأصبحت الأسئلة التي تطرحها على الفكر والممارسة هي ذات الأسئلة التي تطرحها الحركات الثورية .
من أي منطلق الى أي غاية ، ومن هي قوى الثورة ، من هي القوى المضادة … العنف أو الحوار الديمقراطي ؟.

1 ـ الحركة الطلابية انتصار للانسان ضد المثالية والمادية :

وتلك أسئلة لا تجيب عليها اجتهادات فردية ، بل المرجع في الإجابة عليها الى الإيديولوجيات التي تعكس النضال الجماهيري ، وتقود خطا المناضلين فيه .. وهكذا فرضت الحركة الطلابية على كل الإيديولوجيات المعاصرة أن تفرد لها مكانا فيها لتحدد موقفها من ظاهرة نامية ومتطورة ثوريا ..
وفي داخل الحركة الطلابية ذاتها ، تتردد أسئلة مشابهة يدور حولها حوار عنيف فيما بين الطلاب أنفسهم ، كنوع من الجدل الاجتماعي الذي يستهدف استكمال وتوحيد وعي الطلاب على حقيقة حركتهم ، وأبعادها الاجتماعية وعلاقتها بغيرها من الحركات الجماهيرية .. ومن خلال الحوار الفكري والممارسة الجماعية تتجه الحركة الطلابية بمعدل سرعة متزايد الى قمة نضجها ، أي الى ان تكون مفهومة فهما صحيحا من داخلها ومن خارجها .. ولا يتم هذا النضج بدون صراع .. فالجديد ينبت دائما من قلب القديم .. وبينما يحاول القديم أن يمد في عمره بمقاومة الجديد الناشئ ، يحاول الجديد دفن ركام القديم وكسر قيوده لينمو نموا حرا بدون عائق ..
ولقد نشأت الحركة الطلابية وفرضت وجودها وأثارت أسئلتها في عصر كاد يصل الى حد الركود الفكري .. فعندما تصل الأفكار الى حد التسليم الغبي بصحتها ، لا تثير بين الناس تلك المعارك الخلاقة التي تسهم في تحريك طاقة التقدم .. كذلك نشأت الحركة الطلابية لتواجه مجتمعا إنسانيا يجتر أفكار القرن التاسع عشر وما قبله من القرون ، ويكاد يسلم بأن طاقة الفكر الإنساني قد توقفت عن الإبداع ، ولم يعد أمامه إلا أن يختار بين ما هو موروث من السلف العبقري ، ” إما أن تكون مثاليا وإما أن تكون ماديا ” .
ذلك هو شعار القرن العشرين الذي يرمز الى تركته الغنية التي ورثها عمن سبقه ، وهو في الوقت ذاته علامة إفلاسه وعقمه الفكري .. ولقد نشأت الحركة الطلابية وما يزال الشعار مرفوعا كأنه نصب تذكاري لمتوفى عزيز ، ومترددا ببغاويا الى حد يثير الملل .. وعندما رفضت الحركة الطلابية أن تختار أسموها حركة رافضة وأدانها المثاليون كما أدانها الماديون .. أدانها المثاليون لأنها رفضت المثالية مع انها رفضت المادية أيضا ، واتهم كل منهما الحركة الطلابية بما هو من مصادر قوتها ، ونعني به ” الشبابية ” ..
وتجاهل الطرفان عامدين أن الحركة الطلابية ، من حيث هي قوة رافضة ، لا تقف موقفا سلبيا من القضايا الفكرية التي تطرحها المثالية والمادية ، ولكنها تتحدى القهر الفكري وترفض أن تملى عليها مقولات نهائية .. إنها لا ترفض التجربة الإنسانية السابقة عليها بكل ما تتضمنه تلك التجربة من تراث فكري وخبرات متراكمة ، إنما ترفض النزوع التقليدي الى فرض الماضي على المستقبل . ترفض قدسية عتيقة أفضتها مرحلة تاريخية سابقة على نماذج بشرية كانت في أيامها ممتازة مثل : فولتير وروسو وماركس وانجلز ..
إنها إذ ترفض أن تختار بين المادية والمثالية ، إنما ترفض حصر اختيارها بينهما وما يمثله هذا الحصر من جبرية فكرية مستبدة ..
ولما كانت الحركة الطلابية حركة شبابية فان نقطة انطلاقها الفكري والحركي هي احتياجات المستقبل ، تريد أن تحل مشكلاته مستعينة بخبرة الماضي .
هذا مفهوم كموقف صحيح ، لأن الشباب هم أصحاب المستقبل ، المسؤولون عن حل مشكلاته المتوقعة .. وهو اختيار سليم تماما لأن المستقبل هو المجال المفتوح للإبداع الإنساني . أما الماضي ، وما هو واقع فعلا ، فغير قابل للإلغاء . اتساقا مع هذا الموقف كان لا بد للحركة الطلابية أن ترفض محاولات فرض الماضي وخبراته على المستقبل وتحويله إلى امتداد فعلي متكرر للخبرات السابقة ، يخضع لذات المنطلقات ويستهدف ذات الغايات ويلتزم ذات الأساليب التي جربها التقليديون . والواقع أن الحركة الطلابية كانت أمام خيار حقيقي كامن وراء ما هو معروض عليها .. الإحراج الصوري الذي يقول : ” إما أن تكون ماديا أو تكون مثاليا ” يخفي وراءه : ” إما أن تختار القيود أو الحرية ” .. وقد اختارت الحركة الطلابية الحرية برفض العبودية الفكرية لمقولات تقليدية كانت يوما ثورية ويراد لها أن تظل ثورية الى الأبد .. كأن الخلود معقود لأي شيء في هذا الوجود .. والخلود كلمة فارغة ، فكل شيء متغير متطوّر ، حتى البشر وأفكارهم ..
هذا الموقف الطلابي التحرري هو أيضا موقف تقدمي لأنه منحاز الى المستقبل ضد موقف رجعي منحاز الى الماضي مهما رفع من شعارات تقدمية .. وليس في هذا الموقف الطلابي التقدمي ما يبرر تلك الاتهامات السخيفة التي تحاول أن تلصق بالحركة الطلابية إنكار اتصال سلسلة التطور الإنساني .. إذ أن عدم قبول إخضاع التطور المقبل للتجربة الماضية ، لا يعني على أي وجه إنكار قيمة التجربة وضرورة الاستفادة منها في بناء المستقبل ذاته . إن هذا يعرفه تماما ، أو لا بد أن يعرفه ، كل الذين يدينون الحركة الطلابية من منطلقات مثالية أو مادية .. فقد كانت تلك المنطلقات يوما رفضا لما قبلها دون أن تكون قطعا لسلسلة التطور الإنساني .. لا أحد يبدأ من الصفر ، ولا الحركة الطلابية ..
لماذا إذن هذا التحامل الذي يدين به المثاليون والماديون جميعا الحركة الطلابية ؟
لا يمكن أن يكون السبب هو جهل المثاليين والماديين ما تمثله الحركة الطلابية من دفع تقدمي ، لأنهم حتى من تاريخ فلسفاتهم ، يعرفون أن تجميد الواقع الاجتماعي أو إضفاء القدسية عليه هو موقف رجعي محافظ .. ألم يبدأ المثاليون برفض الفكر المادي ؟ .. ألم يبدأ الماديون برفض الفكر المثالي ؟..ألم يبدأ كل منهم مسيراته في التأثير الاجتماعي برفض ما صاغه الآخر من فلسفات اجتماعية ؟..
ولا يمكن أن يكون السبب هو تلك الاتهامات السخيفة التي تحاول أن تعبر عن إشفاق زائف ومنافق على الشباب ومستقبلهم .. تلك الاتهامات التي تترصد كل تغيير في أزياء الشباب وزينتهم وأسلوبهم في المخاطبة والسلوك ، الخ .. وتحتج عليه بقيم يراد لها أن تعيش أكثر مما تستحق اجتماعيا .. كأن الذي يطلق شعره أقل رجولة من الذي يجلس ساعات لدى ” الحلاق ” يقصقص شعره ويمشطه ” ويسبسبه ” ويعطره ويتأكد من ” جماله ” بمرآة من أمامه ومرآة من خلفه .. أو كأن الرجولة شرف يقابل عار الأنوثة .. ويقحمون الدين فيما ينافقون به أنفسهم وينسون ان محمدا ( صلعم ) أعظم الثائرين ، كان يطلق شعره ويفرقه ويظفره أيضا كما كان يفعل العرب في أيامه .. وان المسيح كان كما كان قومه .. وأن الثائرين حقا من أمثال الأفغاني وجيفارا لا يبددون طاقاتهم انتباها أو عراكا حول ما ينبغي ان تكون عليه أزياؤهم ، بل يعيشون مجتمعاتهم وهم يطوّرونها ثورة ..
إن تلك الاتهامات التافهة هي آخر محاولات التقليديين لإدانة الحركة الشبابية في العالم .. وهي ـ لأنها تافهة ـ تكشف عن عمق المأزق الذي وضع الشباب فيه أصحابها .. وتشير في الوقت ذاته الى أن ثمة أسبابا أكثر جدية يحاول المهزومون إخفاءها ..
والواقع أن الحركة الطلابية وضعت المثاليين والماديين معا في مأزق حرج .. وعلى محك الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية تفتت وانكشفت إيديولوجيات ونظريات كان أصحابها يظنون أنها أكثر صلابة من أي تجربة ..
ان ” متاجر” الإيديولوجيات المثالية والمادية جميعا مهدّدة بالإفلاس بفعل مقاطعة الشباب لمنتجاتها العتيقة ، والتجار ينافس بعضهم بعضا ولكنهم يقفون صفا واحدا ضد مقاطعة المستهلكين ..
هكذا يقف المثاليون والماديون موقفا معاديا واحدا ضد الحركة الطلابية التي تقود ـ على المستوى العالمي ـ حركة رفض بضاعتهم الإيديولوجية البائرة ..
هل بارت هذه الايدولوجيا لأن الحركة الشبابية بقيادة الحركة الطلابية تقاطعها ، أم أن الحركة الشبابية بقيادة الحركة الطلابية تقاطعها لأنها إيديولوجيا بائرة ؟..
هذا هو السؤال .. هل البوار الفكري متحقق موضوعيا فيما يرفضه الشباب ، أم أن الرفض موقف ذاتي من جانب الشباب لا يستند الى مبررات موضوعية ؟
السؤال صعب ومعقد برغم بساطة صياغته .. والإجابة عليه إجابة وافية أكثر صعوبة وتعقيدا .. وذلك لأنه بالرغم من البساطة الظاهرة في السؤال فان أية إجابة وافية عليه لا بد أن تشمل الأسس الفلسفية والقوانين المنهجية والمضامين النظرية والمنجزات الفعلية للمدارس المثالية والمادية المتعددة ثم مقارنة كل هذا بما تمثله الحركة الطلابية في كل مجتمع على حدة وعلى المستوى العالمي كله .. وهي إجابة لا توفي بها إلا دراسات متخصصة في مجلدات عديدة ..
لا بد إذن أن نختار من بين كل الأسئلة التي تطرحها الحركة الطلابية على الإيديولوجيات المثالية والمادية سؤالا واحدا ، نطرحه على نظرية مثالية واحدة .. ثم على نظرية مادية واحدة .. لنرى كيف تجيب كل واحدة عليه ، ونكتشف كم هي بالية تلك النظريات المثالية والمادية .. ولكي نقفل باب المغالطات الذي يفتحه الحوار حول الفرعيات والتفاصيل فإننا نختار سؤالا أساسيا ونطرحه على نظرية مثالية أساسية ثم نطرحه على نظرية مادية أساسية لنكشف أولا عن السبب الأساسي لعداء المثاليين والماديين للحركة الطلابية ، ونعرف ثانيا العيب الأساسي في الموقف المثالي والموقف المادي كليهما ..
أما السؤال الذي نختاره فهو : لماذا الحركة الطلابية ؟ لماذا وجدت كظاهرة اجتماعية ؟

  • أما النظرية المثالية التي سنطرح عليها السؤال فهي الليبرالية .
  • وأما النظرية المادية التي سنطرحه عليها فهي الماركسية .
    باختصار نريد أن نعرف هل تستطيع الليبرالية أو الماركسية أن تفسر ظاهرة الحركة الطلابية .. ؟ فإذا وجدنا أن أيا منهما عاجزة عن مجرد فهم ظاهرة اجتماعية قائمة في الواقع فسنعرف أن الظاهرة ذاتها قد أصبحت دليلا ظاهرا على فشل كل منهما في أن تكون دليلا لفهم الظواهر الاجتماعية .. وان هذا الفشل الذي يهدد بكشف إفلاس النظريتين هو الذي يخشاه الليبراليون والماركسيون معا ، فيدينون الحركة الطلابية ويحاولون تشويه سيرتها أو إيقافها .. إنهم في موقف دفاع عن أبنية فكرية ظلوا عشرات السنين يقيمونها ويشيدون بصلابتها ، وهاهم يرون أنها مهدّدة بأن تنهار ..

2ـ ولكن ماهي الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية ؟

إن الإجابة الصحيحة على هذا السؤال لازمة قبل أن ندخل في أي حوار حول تفسير الحركة الطلابية ، ذلك لأنه يلزم لكل حوار أن يستعمل لغة محددة الدلالة .. ولا جدوى من حوار يدور الحديث فيه عن الحركة الطلابية ـ مثلا ـ بينما يكون لهذا الاسم دلالة مختلفة في ذهن كل محاور .. بل إنها إجابة لازمة أيضا لقطع الطريق المؤدية الى المغالطات الفكرية ، عندما يحدّد كل صاحب نظرية ماهية الظاهرة الاجتماعية على الوجه الذي يسمح له فيما بعد بأن ينقدها .. وبعدما يفرضها علينا كما يريدها ينقدها كيفما يريد .. انه تكتيك في الحوار يتقنه الليبراليون والماركسيون جميعا .. فالليبراليون مثلا يبدأون بتعريف الاشتراكية بأنها نظرية ماركسية ، وأنه لا توجد اشتراكية الا ما يقوله الماركسيون .. ويحتجون ـ في هذه الجزئية فقط ـ بما يقوله الماركسيون من ان الماركسية هي الاشتراكية العلمية الوحيدة .. ولا يكون كل هذا من جانب الليبراليين تسليما بصحة ما يقوله الماركسيون ، بل تمهيدا لنقد الاشتراكية بما تنقد به الفلسفة الماركسية .
وإذ بالاشتراكية التي هي أرقى نظام لتوظيف الموارد المادية والبشرية لإشباع الحاجات المادية والثقافية المتزايدة أبدا طبقا لخطة اقتصادية شاملة .. تصبح عند الليبراليين مجرد نظام قائم على الإلحاد مثلا .
كذلك يفعل الماركسيون بالقومية مثلا آخر .. فالقومية حركة بورجوازية اخترعها الرأسماليون للسيطرة على السوق القومي .. يحتجون ـ في هذه الجزئية فقط ـ بما يقوله الليبراليون من ضرورة الوحدة القومية .. ولا يكون كل هذا من جانب الماركسيين تسليما بصحة ما يقوله الليبراليون بل تمهيدا لنقد القومية بما تنقد به الرأسمالية ..
وإذ بالقومية التي هي انتماء الى أمة يحدد للمنتمين الساحة الاجتماعية الواقعية لنضالهم من أجل الاشتراكية .. تصبح عند الماركسيين حركة بورجوازية مناهضة للاشتراكية .. وهكذا يفعلون جميعا بالحركة الطلابية …. يعرّفها كل منهم أولا على الوجه الذي يمكنه من إدانتها ثانيا .. وتصبح المسألة كلها مغالطات سفسطائية .. لا بد من إحباط هذا التكتيك السفسطائي إذا كنا نريد أن نصل الى فهم صحيح للحركة الطلابية .. ووسيلة هذا أن نحدد من الآن ما نعنيه بالحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية..

3ـ الحركة الطلابية جزء من الشعب ..

الطلاب هم جزء من الشعب في أي مجتمع .. جزء مشغول جزئيا أو كليا بتحصيل المعرفة في معاهد التعليم .. إنهم على هذا الوجه لا يكونون ظاهرة اجتماعية متميزة .. فمنذ أن وجد البشر ، وجد المعلمون وطلاب العلم .. وكل شخص تعلم ويتعلم شيئا من غيره في المعاهد أو المعامل أو المصانع أو المزارع ولا يكف الناس في كل مكان عن إنماء معرفتهم ولو من خلال التجربة .. أما كون الطلاب يتلقون العلم في معاهد معدة لهذا فهو لا يميزهم داخل مجتمعهم بشئ يصل الى حد أن يكونوا ظاهرة اجتماعية .. إنهم يسيرون في الدروب التي شقها مجتمعهم من قبل على ذات المراحل التي وضعت لهم ، ويتلقون العلوم المقررة عليهم ، ويجتازون معاهدهم بالشروط المفروضة عليهم .. إنهم في كل هذا جزء غير معزول أو منعزل أو ممتاز أو متميز من مجتمعهم أيا كان نوع الحياة في هذا المجتمع .. انهم جزء من ظاهرة اجتماعية شاملة هي مجتمعهم ذاته ..
على هذا المستوى العام لرؤية الطلاب يصح كل ما يقال من أنهم جزء لا يتجزأ من المجتمع يؤثرون فيه ويتأثرون به ، وتحكم اتجاهاتهم الفكرية والحركية ذات القواعد التي تحكم الاتجاهات الفكرية والحركية لكل الناس في المجتمع .. ويكذّب كل ما يقال من أن على الطلاب أن يحصّنوا أنفسهم ضد المؤثرات الاجتماعية خارج معاهدهم ، وأن يلتفتوا لدروسهم .. وعلى هذا المستوى العام لا يكون غريبا أن يتحرك الطلاب ضمن اية حركة اجتماعية .. لم يكن غريبا مثلا أن يشترك الطلاب مع باقي المواطنين في معارك التحرر وكقواعد للأحزاب التي تخوض الصراع الاجتماعي في مجتمعاتهم .. ذلك لأنهم جزء من الشعب لا يعزلهم عنه وعن قضاياه أنهم يتلقون العلم فترة من الفترات في معاهد معدة للتعليم .. ان هذا لا يلغي روابطهم الأسرية والاجتماعية والوطنية ..
باختصار إنهم ـ على هذا المستوى العام ـ مواطنون في المجتمع .. لهم حقوق المواطنين وعليهم مسؤولياتهم ، لا يحرمهم من حقوقهم ولا يعفيهم من مسؤولياتهم أنهم طلاب علم وليسو علماء أو عاملين ..
ولكنا ـ على هذا المستوى العام من الرؤية ـ لا نكون أمام ظاهرة طلابية .. نعني أن الطلاب الذين يتحركون ، وعندما يتحركون مع غيرهم في مجتمعهم ، إنما يفعلون هذا كمواطنين لا كطلاب .. فالظاهرة هنا ظاهرة اجتماعية عامة تضم الطلاب وغير الطلاب ، فهي إذن ليست ظاهرة طلابية .. إنما تكون ظاهرة طلابية عندما تكون مقصورة تكوينا وحركة على الطلاب حتى لو كانت مؤثرة ومتأثرة ومتفاعلة مع ظواهر اجتماعية أخرى..
ويصح القول ذاته بالنسبة الى الطلاب الذين يساهمون ، وعندما يساهمون في الحركة الشبابية في العالم أو في أي مجتمع على حدة .. أنهم عندئذ جزء من حركة أعم تشملهم .. ونكون عندئذ أمام ظاهرة شبابية وليس أمام ظاهرة طلابية .. ويصح بالنسبة الى الطلاب ـ الشباب ـ كل ما يصح تفسيرا لحركة الشباب سواء كانوا طلابا أو لم يكونوا .. ولكنه ان كان صحيحا بالنسبة الى الشباب عامة لا يكفي لتفسير حركة الطلاب دون غيرهم من الشباب .. أعني ما يكون مقصورا عليهم لا يشاركهم فيه شباب العمال والفلاحين مثلا .. النظرة الشبابية الى الحركة الطلابية هي أيضا نظرة عامة .. عامة بالنسبة الى الحركة الطلابية تفسر القدر المشترك بين الشباب جميعا ، ولكن لا تفسر القدر الخاص بالطلاب فكرا أو حركة ..
الانتباه الى أننا على هذين المستويين العامين ، الاجتماعي والشبابي ، لا نكون أمام ظاهرة طلابية ، يفيدنا في تجنب خطأ الخلط بين العام والخاص ، أو توهم التناقض بينهما .. العام أشمل من الخاص ، ويتضمنه ولكن لا يلغيه .. ومن هنا ، فكما أنه من الخطأ رفض التفسيرات العامة للحركة الطلابية ، تلك التفسيرات التي تصح بالنسبة الى المجتمع عامة أو الشباب عامة ، من الخطأ أيضا الاكتفاء بتلك التفسيرات في خصوص ما يميز الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية .. وهي لا تكون ظاهرة اجتماعية طلابية إلا بما يميزها وفي حدوده ..
هل ثمة ما يميز الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية ؟
لو لم يكن ثمة ما يميز شباب الجامعات كطلاب في الحركة الاجتماعية أو الشبابية الى ” حركة طلابية ” لما كان ثمة محل للخلاف الذي يدور لتفسير الحركة الطلابية ..
إن التصدي لتفسير الحركة الطلابية واتخاذ موقف منها ، معها أو ضدها ، يعني ويفترض أن هناك ظاهرة اجتماعية متميزة بأنها طلابية موجودة في الواقع وتحتاج الى تفسير .. فما الذي يميزها ؟
لا يمكن القول بأن ما يميزها يقع على المستوى الفكري ، إذ ليس هناك فلسفة طلابية خاصة بهم ومقصورة عليهم .. ولا يمكن ان يكون للطلاب فلسفة طلابية خاصة بهم ومقصورة عليهم .. ذلك لأن المعرفة الفلسفية أو غير الفلسفية ذات طابع إنساني شامل ، بمعنى أنها غير مقصورة على أحد حتى لو كان الذين يبدعونها أفرادا ممتازون فكريا .. الفكر الإنساني مطروح على الكافة ويدعو الكافة الى الانتماء إليه حتى لو لم ينتم إليه إلا جماعات مفرزة .. لم تعد الفلسفة وكل أنواع المعرفة الإنسانية مقصورة على طائفة بعينها كما كان السحر مقصورا على الكهنة في العهود القبلية المتخلفة ..
إذا كانت الحركة الطلابية لا تجد ما يميزها فكريا ، فقد تكون ـ كحركة ـ مؤشرا لصعود فلسفة إنسانية متميزة .. وسنرى فيما بعد مدى صحة هذا الفرض ، فقط ما يشغلنا الآن تحديد الخاصية أو الخصائص التي حولت تحرك الطلاب في مجتمعاتهم الى ” حركة طلابية ” .. وقد عرفنا أن ليس ثمة فلسفة أو فكر طلابي خاص بهم مقصور عليهم ، فلا ينبغي إلا ان نبحث عما يميزهم في حركتهم ذاتها ..
وسنجد أنه هنا ـ على وجه التحديد ـ نتعرف على حركة طلابية متميزة عن حركة الشباب وان كانت منها ، ومتميزة عن حركة المجتمع وان كانت تنتمي إليه .. أي نتعرف على الخاص في نطاق العام .. ومصدر معرفتنا لا يمكن أن يكون إلا الواقع الذي يختلف الناس في تفسيره ولكن لا ينكر أحد وجوده .. انه ذلك الواقع الذي فرض ذاته على حركة التطور الاجتماعي بعد الحرب الأوروبية الثانية خاصة ..
الظاهرة محل الدراسة هي أن الطلاب يتحركون معا كقوة اجتماعية مفرزة ومقصورة عليهم .. انهم يحاولون أن يلعبوا دورا سلميا أو ثوريا في تطوير مجتمعهم لا بصفتهم امتداد في داخل المعاهد العلمية لقوى اجتماعية خارجية ، ولكن بصفتهم قوة مستقلة بذاتها موازية للقوى الأخرى .. وينتمي الى الطلاب طلاب جدد ، ويخرج من صفوفهم الخريجون ، ولكن تبقى تلك الكتلة البشرية المميزة بأنها ” طلاب ” ، متصدية لدور اجتماعي تقوم به بدون توقف على حركة القوى الاجتماعية الأخرى .. ان هذا الالتحام المستقل في قوة نشيطة واحدة هو الذي حول نشاط الطلاب كأفراد ومواطنين الى حركة طلابية كقوة اجتماعية .. أي حولهم الى ظاهرة اجتماعية ..
وبالرغم من أن الظاهرة قد نشأت أولا في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة ، إلا أنها تتبلور كظاهرة وتستقر كقوة اجتماعية في المجتمعات النامية والمتخلفة .. ففي هذه المجتمعات على وجه خاص أصبحت كل القوى الاجتماعية تقيم وزنا وتحسب حسابا جادا للحركات الطلابية ..
وفي هذه المجتمعات تؤدي الحركات الطلابية دورا تقدميا خلاقا .. وبالرغم من كل العنف الثوري الذي قامت به الحركة الطلابية في فرنسا واليابان ـ مثلا ـ فان الحركة الطلابية لم تفجر ثورة وتقودها وتنجزها الا في الصين النامية .. وما تزال الحركة الطلابية في الوطن العربي ـ بالرغم من تمزقها بين الدول المتعددة ـ تمثل قوة طليعية في معارك التحرر والوحدة والاشتراكية .. وبينما تتعثر الحركات الطلابية في شباك التضليل الرأسمالي في المجتمعات المتقدمة اقتصاديا كالولايات المتحدة الأمريكية ، ويتمكن الرأسماليون من تخريبها داخليا وإفساد اتجاهاتها الاجتماعية وتحويل معظمها الى قوة رفض سلبي ، تتصدى الحركات الطلابية في المجتمعات النامية لدور البناء الاجتماعي الجاد مبتدئة من مبدأ الرفض ذاته ولكن غير متوقفة عنده .. ويرجع هذا الاختلاف الى التأثير المتبادل بين الظواهر الاجتماعية في كل مجتمع على حدة .. فمن ناحية ، لا تكون الحركات الطلابية في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة الا واحدة من قوى اجتماعية نشيطة وقد لا تكون أكثرها مقدرة على النشاط ، بينما في المجتمعات النامية حيث التخلف الثقافي يشمل حركة الجماهير العريضة ، تبرز الحركة الطلابية كواحدة من أقوى وأنشط القوى المحدودة المناضلة من أجل التقدم الاجتماعي .. ومن ناحية أخرى ففي المجتمعات المتقدمة حيث حُلت أغلب المشكلات القومية ومشكلات التنمية الاقتصادية وأصبح الصراع الاجتماعي يدور حول توزيع الإنتاج الاستهلاكي بصفة أساسية ، وحيث القوى الرأسمالية عاتية ، يسهل تمييع أو تخريب الحركة الطلابية ودفعها الى مسالك منحرفة . أما في المجتمعات النامية حيث مشكلات التحرر القومي والتنمية الاقتصادية مشكلات ملحة وحادة ، وحيث الرأسمالية ما تزال ضعيفة الجذور ، تتعرف الحركة الطلابية بسهولة ووضوح على مشكلات مجتمعها وتكون أمنع من أن تنالها القوى الرأسمالية بالتخريب ..
لهذا كله نتعرف على الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية واضحة المعالم والحركة في الدول النامية .. ونتعرف عليها مختلطة بظواهر أخرى في الدول المتقدمة ولكنها ـ في الحالتين ـ موجودة .. في الحالتين ، وفي كل المجتمعات في العالم تبرز الحركات الطلابية كقوى مقصورة ـ بشريا ـ على الطلاب ، ومستقلة ـ حركيا ـ عن القوى الأخرى .. في كل المجتمعات ـ وبعد الحرب الأوروبية الثانية بوجه خاص ـ لم تعد حركة الطلاب ومساهمتهم في النشاط القومي والاجتماعي متوقفة أو تابعة على ما تصدره الأحزاب السياسية من تعليمات على قواعدها ، ولا متوقفة وتابعة لحركة قوى اجتماعية أخرى ينتمي إليها كل طالب على حدة ..
في كل المجتمعات في العالم ـ إذن ـ يثور الطلبة ولو منفردين ويتصدون لقيادة شعوبهم الى ما يريدون ، ولا يكفون عن الحركة حتى لو كف عنها الناس جميعا .. في كل المجتمعات الآن هناك حركة اجتماعية نشيطة وهي حركة طلابية ، ومع ذلك فليس مصدر نموها كقوة ولا مجال نشاطها كحركة هو تلقي العلم .. بل التصدي لمشكلات المجتمع والعمل على حلها..
فكيف نفسر هذه الظاهرة ؟
قبل ان نختبر الإيديولوجيات المثالية والمادية في الإجابة على هذا السؤال ، نريد أن نضع حدين لما قلناه عن الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية ..

الحد الأول :

هو الحد الديمقراطي .
إن الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية تبرز وتتضح وتؤثر ، أو تبقى كامنة ، تبعا لتوافر أو عدم توافر الديمقراطية في كل مجتمع .. ففي مجتمع لا تفرض الديكتاتورية فيه قيودا على التفاعل الحر بين الناس تنشأ الظواهر الاجتماعية وتنمو طبقا للقوانين الاجتماعية التي تحكم التطور الاجتماعي ، وبقدر حاجة هذا التطور للظاهرة ذاتها .. ولكن الديكتاتورية في أي مجتمع تعوق حركة التطور الاجتماعي ، وتحاول شل قوانينه الاجتماعية بما تفرضه من قوانين وضعية .. فلا تكون الظواهر الاجتماعية واضحة الوجود والحركة ..
إلا أن الديكتاتورية إذ تحاول بالقوة الوضعية تعطيل القوانين الاجتماعية تفشل . لأن القوانين الاجتماعية ذات حتمية تحول دون تعطيلها نهائيا وان كان يمكن للاستبداد الوضعي تعويق حركتها .. ولما كانت الديكتاتورية تجسيدا للجهل المطبق بقوانين التطور الاجتماعي ، فان غباء المستبدين يحول عادة دون معرفتهم أين وكيف تعبّر الظاهرة التي ظنوا أنها ألغيت عن وجودها .. وتكون تلك هي الثغرة القاتلة في موقفهم الغبي .. إذ لا تلبث الظاهرة الاجتماعية ان تعبّر عن حتمية وجودها بأساليب متعددة متبعة في ذلك الثغرات التي قد تكون في النظام الوضعي .. في مثل هذه الحالة قد لا نتعرف على الحركة الطلابية ظاهرة في صبغتها الأصيلة كحركة جماهيرية تناضل من اجل التطور ، بل نتعرف عليها معبرة عن وجودها وفاعليتها في النشاطات الثقافية أو الرياضية أو حتى في المواقف السلبية والتهكمية .. وللطلاب بوجه خاص آلاف الأساليب للتعبير عن حركتهم .. كل هذا الى حين .. فمن حين الى آخر ، وفي أول فرصة تتاح لها ، تبرز كحركة طلابية متكاملة ونشيطة في ميدانها الأصيل ، الى أن تُضرب ، فتتجه الى مسالك خفية حتى تحين فرصة أخرى ، وهكذا ..
فعندما نفتقد حركة طلابية ظاهرة ، أو نجد حركة طلابية راكدة في مجتمع ما ، أو نرى الطلاب مشغولين في أوجه من النشاط ” البريء ” ، يكون من الخطأ الظن بأنها غير موجودة أو أنها لن تعود الى فرض تأثيرها كحركة طلابية .. كما أنه من الخطأ دائما توهم إمكان سحق الظواهر الاجتماعية وإلغاءها بالقوة الوضعية ..
إن أشكالا متعددة من الصراع تدور علنا او خفية بين الظواهر الاجتماعية التي لا تخضع حركتها إلا لقوانينها الحتمية وبين القيود المفروضة عليها بالقوانين الوضعية .. ولا بد من أن تنتصر الظواهر التقدمية في النهاية .. لأن التطور التقدمي حتمي ، قد يعوقه الاستبداد ، ولكنه لا يستطيع أن يلغيه ..

الحد الثاني :

هو أننا نتحدث عن الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية ولا نتحدث عن المواقف الفردية لواحد أو أكثر من الطلاب .. ففي كل الظواهر الاجتماعية يتطلب الانتماء إليها والالتزام بحركتها حدا أدنى من الوعي .. الوعي بالظاهرة ذاتها وبعلاقتها بالواقع الاجتماعي .. لهذا لا يقدح في وجود الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية أن أفرادا من الطلاب يقفون من حركتها موقفا سلبيا أو معاديا ، إما لعجز في الوعي أو لعجز عن الحركة وإما انفلاتا انتهازيا ينحازون به إلى قوى أخرى موازية أو معادية للحركة الطلابية ..
العبرة هنا ليس بالمواقف الفردية ، ولكن بمواقف الكتلة الطلابية النشيطة..
إذن ، فان انتقاء أمثلة محدودة من هذا المجتمع أو ذاك ، من موقف هذا الطالب أو ذاك ، لا ينال مما هو مسلم به على المستوى العالمي من أن ثمة حركة طلابية نشيطة في كل المجتمعات المعاصرة ، سواء كان نشاطها علنيا أو سريا .. وذلك ما نريد أن نختبر في تفسيره الليبرالية كنموذج للنظريات المثالية ، والماركسية كنموذج للنظريات المادية ..

4 ـ الحركة الطلابية وموقف الليبرالية :

ان الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية تمثل فضيحة للفكر الليبرالي .. ولا يرى الليبراليون في الحركة الطلابية إلا دليلا على انحطاط الأجيال الجديدة ونقصا في التربية المنزلية وفسادا وشذوذا … الخ .. ذلك أن الفكر الليبرالي قائم على أساس أن التطور الاجتماعي محكوم ” بقانون طبيعي ” مؤداه أن مصلحة المجتمع تتحقق حتما من خلال محاولة كل فرد تحقيق مصلحته الخاصة .
ومن هنا فان إطلاق المنافسة الحرة بين البشر ، أي بدون تنظيم اجتماعي ، هو النظام الأمثل الذي يسمح لكل فرد بأن يحقق مصالحه الفردية بدون قيود .. وفي ميدان المنافسة الحرة يحصل كل فرد على ما يستحقه فعلا .. و” كل واحد وشطارته ” .. على هذا الأساس أقامت الليبرالية نظامها الاقتصادي ” الرأسمالية ” ، وعلى هذا الأساس تقيس الظواهر الاجتماعية وتقيّمها وتأخذ منها موقفا معاديا أو مصالحا .. فالطلاب ـ في منطق الليبراليين ـ يتنافسون في ميدانهم على السبق العلمي .. وعلى كل طالب أن يفهم ألا شأن له إلا بأن يحاول التفوق على غيره من الطلاب ، ومقياس تفوقه أن يحصل على أكبر قدر من الدرجات في اختبارات نهاية العام ” تمثل الدرجات هنا الربح الذي يتنافس عليه الرأسماليون في السوق الاقتصادي ” .. أما كيف يحصل على الدرجات فلا يهم الليبراليين حتى لو لم يفهم شيئا و ” صم ” الكتب المقررة ، فالعبرة بالدرجات لا بالمعرفة ..
أما إذا لم يحصل على الدرجات لأنه أفقر من أن يشتري الكتب مثلا ، أو أن ظروفه العائلية المزدحمة في حجرة واحدة لا تسمح له بالاستذكار الطويل ، أو لأن مظهره لا يقربه من الأساتذة ، أو لأنه لا بد أن يعمل في غير أوقات الدراسة ليعول نفسه أو أهله .. الخ .. كل هذه من ” شؤونه الخاصة ” فلا تهم الليبراليين في شئ حتى لو كانت معوقات في طريق ذهنيات عبقرية .. ذلك أن الليبراليين لا يفهمون إلا المصالح الفردية والنجاح الفردي والمنافسة الفردية والرسوب الفردي .. ” وكل واحد ذنبه على جنبه ” .. لهذا يندهش الليبراليون من ظواهر ” آخر الزمن ” : اهتمام الأفراد بالتطور الاجتماعي بدلا من اهتمامهم بالتفوق الفردي .. اهتمام الأفراد بمصالح الغير بدلا من انتهاز فرصة تخلف الغير لسبقه أو سحقه .. يندهشون من الاهتمام بالمجتمع ومشكلاته سواء كان المهتمون طلابا أو غير طلاب .. وتزيد دهشتهم عندما يرون ” الأولاد ” أو ” العيال ” يبذلون جهدهم ، وفي بعض الأوقات دماءهم ، من أجل قضايا اجتماعية ” غير مقررة عليهم ” .. انه عندهم ” خسارة ” كبيرة ، فان الوالدين ينفقون على أولادهم ليتعلموا لا ليهتموا بمجتمعهم ويشاركوا في تطويره .. يا ” خسارة ” الأموال التي ينفقها الآباء دون عائد .. انه فساد .. مجرد فساد .. والأجيال الجديدة كلها فاسدة .. فالمسؤولون ـ بدون شك ـ هم أولائك الذين سمّموا عقول الشباب بالأفكار المستوردة وعلموهم ذلك الكلام الفارغ عن المجتمع والتطور والاشتراكية .. الخ ..
بصرف النظر عما إذا كانت الحركة الطلابية في نظركم فسادا في جيل كامل ، فلماذا يفسد جيل كامل ؟
ما هي أسباب رفض الطلاب للمواقف الفردية التي تشيدون بها واهتمامهم بقضايا مجتمعهم ..؟
إنكم قبل أن تجيبوا على هذا السؤال لا يحق لكم أن تدينوا حركة اجتماعية تجري تحت أنوفكم برغم كل مواعظكم المنافقة .. والليبراليون لا يستطيعون الإجابة لأن نظريتهم الفردية لا تستطيع أن تفسر الظواهر الاجتماعية الجماعية .. إذا رأوا الطلاب يتنافسون على التفوق العلمي فيما بينهم ولكنهم يتحركون معا من أجل القضايا الاجتماعية يفهمون الأولى ولا يفهمون الثانية .. إنهم يندهشون منها ويسبون ويشتمون وتجري الظواهر على قوانينها غير عابئة بصياح الليبراليين ، ومعلنة في الوقت ذاته إفلاس الليبرالية ..

5 ـ الحركة الطلابية وموقف الماركسية :

ثم نأتي الى الماركسية .. ولقد فتكت الحركات الطلابية بالماركسية وشتت صفوف مفكريها ، وأشعلت المعارك الفكرية فيما بينهم حول تفسير الحركات الطلابية كظواهر اجتماعية وحول الموقف منها .. وهو أمر عادي بالنسبة الى الماركسيين .. نعني أن في الماركسية ذاتها ما يفسر ويبرر تلك ” الظاهرة ” الماركسية ” : انشقاق الماركسيين وإدانة بعضهم البعض الآخر بالارتداد والانحراف .. ثم مزيد من الانشقاق .. الخ .. وليس هذا الموقع الذي نكشف فيه عن جرثومة الانشقاق الكامنة في الفلسفة الماركسية ذاتها ، والتي تمزق صفوفهم كل يوم .. ولسنا حكاما فيما بين الماركسيين لنقول من منهم المنحرف ومن المستقيم .. إنما نحن نضع نظريتهم على محك ظاهرة اجتماعية لنرى الى إي مدى تستطيع النظرية أن تفسرها وأن تكون ـ بالتالي ـ دليلا لاتخاذ موقف منها ..
تقوم الماركسية على أساس أن أسلوب الحياة المادية هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي حتما .. وأن كل فرد يأخذ من التطور الاجتماعي الموقف الذي يتفق مع موقعه من علاقات الإنتاج .. وطبقا لهذا أقامت الماركسية صرح النظرية الشهيرة .. نظرية الطبقات والصراع الطبقية .. وأفرزت القوى الاجتماعية في المجتمعات ” غير الاشتراكية ” الى طبقتين إحداهما تملك أدوات الانتهاج ملكية خاصة ، والأخرى تعمل على أدوات الإنتاج ولا تملكها بل تبيع قوة عملها لمن يملكها .. وألزمت كل واحد الانتماء الى طبقته .. وإلا فهو ” خائن ” .. ولما كان الناس يعكسون ما يدور في أسلوب الإنتاج فان التناقض بين أدوات الإنتاج وعلاقاته تنعكس على مواقف الناس في شكل تناقض طبقي .. ولما كان التناقض لا بد أن يحل من خلال الصراع فانه لا بد من الصراع الطبقي الى أن يحل طفرة بالثورة … الخ .
كل هذا جميل ومحكم الصياغة لدرجة تستهوي الشباب خاصة ويفرح بها الذين يريدون أن يقال أن عندهم نظرية .. ولكن ما رأيكم دام فضلكم في أن ثمة ظاهرة اجتماعية يقال لها ” الحركات الطلابية ” ينتمي إليها طلاب العلم في المعاهد الى حد التصدي لقيادة التطور الاجتماعي ، ومع ذلك فان أيا من المنتمين إليها النشيطين فيها لا يملك أدوات إنتاج وليس طرفا في أي علاقة إنتاج .. لسبب بسيط ، أنهم ما زالوا يعدون أنفسهم للعمل ولا يستطيع أي واحد منهم أن يعرف مقدما في أي مكان سيعمل . وهل سيكون مالكا أو عاملا ؟ وبالرغم من هذا فإنهم لا ينتظرون الى أن تتحدد مواقعهم من علاقات الإنتاج لتتحدد مواقعهم الطبقية ، بل يتصدون لحل مشكلات التطور الاجتماعي وهم ما يزالون طلابا ؟
ما الذي انعكس في رؤوسهم فركبوها وأصبحوا ثائرين ؟ كيف اختاروا لأنفسهم دورا اجتماعيا وسياسيا وحركيا من قبل أن تختاره لهم مواقعهم من أسلوب إنتاج الحياة المادية ؟
ان الأطفال والشيوخ والعجزة وكثيرا من النساء أولائك الذين لا يعملون فلا موقع لهم من علاقات الإنتاج ، مثلهم في هذا مثل الطلاب ، ينتظرون إجابتكم ليعرفوا هم أيضا كيف يحددون مواقفهم من مشكلات مجتمعهم مع أنهم لا يعملون .
لا نبالغ إذا قلنا أن الماركسية لم تقابل في تاريخها الطويل تحديا مثل هذا السؤال الذي طرحته عليها الحركة الطلابية .. ويزيد من مقدرته على التحدي وخطورة الإجابة عليه أن كثيرا من أنشط العناصر في الحركة الطلابية يرفعون على مواقفهم شعارات ماركسية ويتداولون تعبيرات ماركسية .. فهم في داخل الحركة الطلابية ويواجهون في الوقت ذاته تحديها لما ينسبونه الى أنفسهم ، أو ينسبون أنفسهم إليه من فكر ماركسي .. أما وجه الخطورة بالنسبة الى هؤلاء بالذات فمرجعه الى ما قلناه من إن الطلاب على المستوى العام ينتمون الى مجتمعهم وقد يكون من بينهم من ينتمي فكرا أو حركة الى قوى اجتماعية خارج الحركة الطلابية ، ” أحزاب مثلا ” ، ولكنهم على المستوى الخاص حركة طلابية متميزة ومستقلة .. من هنا يواجه الذين ينشطون في الحركة الطلابية تحت لافتات ماركسية سؤالا خطيرا :
هل الحركة الطلابية ساحة ينشطون فيها لحساب قوى خارجية عنها ، أم أنهم جزء منها يلتزمون خططها وأهدافها ؟
الإجابة على هذا السؤال متوقفة على ما إذا كانت النظرية الماركسية تبرر وتفسر الحركة الطلابية أم لا : فان كانت تبررها وتفسرها يسقط السؤال ، إذ لا يكون ثمة تناقض بين أن يكون الطالب ماركسيا ومنتميا الى الحركة الطلابية بدلا من الحزب الشيوعي مثلا .. وان كانت لا تبررها ولا تفسرها ، فلا نقول الا أنه على كل طالب أن يلقيه على نفسه ويتأمله ويحاول الإجابة عليه ليبقى مسلكه في حركته تجسيدا أمينا لفكره .
اذا تجاوزنا ما يقوله الماركسيون (المرتدون) الذين انحازوا الى الحركة الطلابية وأدانوا عجز الماركسية عن تفسيرها ، فان للماركسيين اجتهادات كثيرة في محاولة تبرير وتفسير الحركة الطلابية ..

  • الاجتهاد الأول :

يلوذ بما هوعام ويتجاهل ما هو خاص بالنسبة الى الحركة الطلابية . فالطلاب عنده جزء من المجتمع وامتداد له داخل معاهد التعليم ، وهم هناك لا يفعلون ـ بالإضافة الى الدراسة ـ إلا ممارسة الصراع الطبقي كما هو واقع في مجتمعهم . فالحركة الطلابية أو ما يسمى ” بالحركة الطلابية ” هي الطبقات في صراعها الطبقي في ساحة خاصة من ساحات الصراع ، ويدللون على صحة هذا التفسير بكل ما نعرفه من أن الطلاب ليسوا غرباء عن مجتمعهم وأنهم جزء منه وأنهم يخضعون معه لقوانين حركته ويخوضون صراعاته ويحددون مواقفهم الطبقية تبعا للتناقض القائم في المجتمع ذاته .. الخ .. فاذا قيل لهم أن هذا التفسير يلغي الظاهرة الاجتماعية ذاتها ، إذ أنه قد يصلح تفسيرا لحركة الناس جميعا سواء كانوا طلابا أو غير طلاب ، وبالتالي فهو لا يفسر الحركة الطلابية كظاهرة . أليس الخاص يستحق فهما خاصا حتى في نطاق العام ؟ إذا قيل لهم هذا تقدم الرد الثاني للرد .

  • الاجتهاد الثاني :

يقول أن تلك الظاهرة المسماة حركة طلابية ليست في الواقع الا تجمعا جبهويا بين قوى لا تتفق مواقفها الطبقية أصلا .. ان كل طالب ينتمي الى طبقة اجتماعية ويصارع مع طبقة ضد الطبقة الأخرى ، وهو لا يستطيع أن يفعل غير هذا .. وعندما يلتقي الطرفان في ساحات المعاهد العلمية يوحدان جهودهما معا لمواجهة قوة ثالثة تمثل بالنسبة إليهما عدوا مشتركا . عندئذ يتحرك الطلبة حركة موحدة مع بقاء التناقض والصراع بينهما قائما طبقا لقانون الصراع من خلال الوحدة . وتكون حقيقة ما نسميه حركة طلابية أنه تحالف مرحلي بين شرائح طلابية منتمية الى قوى اجتماعية متحالفة مرحليا في جبهة . ولهذا ـ هكذا يقول الماركسيون ـ ان نجاح الجبهة في صراعها ضد العدو الرئيسي مرهون بأن تتولى قيادتها أكثر العناصر ثورية ، وأكثر العناصر ثورية هي العناصر المنتمية الى أكثر الطبقات ثورية ( البروليتاريا ) المسلحة بنظرية الماركسية اليينينية ، ويكون الموقف ” العلمي ” الصحيح أولا أن من حق الماركسيين أن يقودوا النشاط الجبهوي المسمى حركة طلابية ، وثانيا أنهم اذا لم يقودوها فهي حركة فاشلة .
طيب . سؤال آخر تكميلي . ما هو مضمون الصراع الطبقي الذي يخوضه الطلاب في جبهتهم المسماة حركة طلابية ؟ وما هي المصالح الخاصة التي حددت لكل منهم طبقته فانتمى إليها ؟ إن أحدا منهم ليس عاملا ولا مالكا لأدوات الإنتاج . إنهم بعد ليسوا أطرافا في علاقات إنتاج . وعلى حسب الموقع من علاقات الإنتاج يتحدد الانتماء الطبقي . هكذا تقول النظرية .. وعلى حسب التناقض في أسلوب الإنتاج يتحدد الصراع الطبقي .. هكذا تقول النظرية .. فأين الطلاب من كل هذا ؟ وكيف يكونون منتمين طبقيا بدون علاقات إنتاج ، ومتصارعين طبقيا بدون مصالح اقتصادية خاصة ؟
يصدم هذا السؤال كثيرا من الماركسيين فيفقدهم هدوءهم وتتحول إجاباتهم الى مشاحنات وسباب ، ذلك أن مثل هذا السؤال قد وجه إليهم بالنسبة الى المثقفين ( من غير العمال ) الذين قادوا الثورات الاشتراكية مع أنهم بورجوازيون ، أو أنهم على الأقل بورجوازيون صغار ـ بالمقياس الماركسي ـ مثل ماركس وانجلز وبليخانوف ولينين وتروتسكي وماوتسي تونغ وكاستروا وجيفارا .. الخ .. وكان الرد دائما أن هؤلاء استثناء من القاعدة .
انهم مثقفون خانوا طبقتهم وانظموا الى الطبقة العاملة . ولأنهم استثناء فلا يجوز الاحتجاج بهم على صحة القاعدة . والقاعدة أن كل واحد ينتمي طبقيا حسب موقعه من علاقات الإنتاج . ثم تأتي الحركة الطلابية التي تنتمي ـ ماركسيا ـ الى البورجوازية الصغيرة فتخون جملة موقعها الطبقي ( التابع ماركسيا للبورجوازية الكبيرة ) وتتصدى لدور قيادي وأصيل وتقدمي ومعاد في أغلب المجتمعات الى النظام البورجوازي .. ملايين الطلاب يقفون هذا الموقف ، فهل هم استثناء أيضا ؟
إنهم ان يكونوا استثناء من قاعدة فان قياس حركة الطلاب ونشاطهم الى حركة العمال ونشاطهم في المجتمعات النامية خاصة ، يجعل من الاستثناء قاعدة ومن القاعدة استثناء .. أي لا تصح به النظرية إلا لما يعد استثناء من القواعد التي تحكم الصراع الاجتماعي وتحدد قواه في المجتمع ..
ثم انه إذا كانت النظرية ـ أية نظرية ـ تبلغ من ( الفضفضة ) وعدم الإحكام ما يسمح بان ترد عليها استثناءات بمثل هذه الضخامة في القوى والفاعلية في الأثر فإنها تفقد قيمتها كنظرية نضالية . اذ أن فائدة النظرية أن تكون ضابطا لفرز القوى والقوى المضادة ودليلا لاتخاذ المواقف النضالية . ، لا بد إذن من اجتهاد ثالث ..

  • الاجتهاد الثالث :

أن الطلاب لا ينتمون مباشرة الى أية طبقة اجتماعية بحكم أن مواقعهم من علاقات الإنتاج غير محددة ، ولكنهم ينتمون بالتبعية الى الطبقات التي ينتمي إليها آباؤهم . أو أن الطلاب يحددون مواقفهم النضالية تبعا ” لمنابعهم ” الطبقية ..
عندما يصل الاجتهاد الماركسي في تفسير الحركة الطلابية الى أن يصبح الموقف الطبقي ” ميراثا ” يكون قد أعلن عن إفلاس النظرية في التفسير والتبرير .. ذلك لأنه مجرد التسليم بأن علاقة الأبوة أو البنوة ذات اثر مباشر في تحديد الموقف من الصراع الاجتماعي بحيث ينحاز كل واحد الى طبقة آبيه يهدم نظرية الطبقات والصراع الطبقي من أساسها . لا يمكن القول بعد هذا أن موقف كل واحد من الصراع الطبقي يتحدد طبقا لموقعه من علاقات الإنتاج ..
فإذا لاحظنا أن طلاب الجامعات والمعاهد العليا يعملون بمساعدة آبائهم على أن يكونوا صالحين لآداء وظائف اجتماعية ليس من بينها العمل على أدوات الإنتاج كعمال في المصانع ، فان هذا النزوع ” العائلي ” للإفلات من المواقع الطبقية للآباء ( إن كانوا عمالا ) يدحض كل أوهام الميراث الطبقي . لا يوجد عامل أو فلاح واحد اقتطع من قوته ما ينفقه للوصول بولده الى مراحل التعليم الجامعي ليعود بعد التخرج فيشغل مكان والده في علاقات الإنتاج وبالتالي موقعه من طبقته . نرجو أن يتأمل أبناء الفلاحين والعمال من طلاب الجامعة هذا الذي قلناه . ان شقاء الآباء والأمهات لا ينسى ولكن اثره على الأبناء يختلف ، فكما يكون محرضا على الثورة التقدمية ، يكون مبررا للانتهازية لتعويض أيام المذلة والفقر ..
ثم نعود لعرض هذا الاجتهاد المتهافت على محك مضمون الصراع الطبقي . لو أن المواقف الطبقية تورث من الآباء الى الأبناء ، ولو أن الطلاب امتداد في المعاهد العلمية للطبقات التي ينتمي إليها آباؤهم لكان الطلاب من أبناء العمال امتدادا للطبقة العاملة يناضلون في معاهدهم من اجل زيادة الأجور في المصانع وتقليل ساعات العمل … الخ .. ولكان الطلاب من أبناء الفلاحين امتدادا لطبقة الفلاحين يناضلون في معاهدهم من أجل الإصلاح الزراعي والجمعيات التعاونية وتوزيع السماد … الخ .. ولكان الطلاب من أبناء المهنيين والموظفين ( لا شيء ) لأن آباءهم لا ينتمون الى طبقة بل يخدمون طبقات أخرى .. الخ ..
لو صح هذا ـ وهو غير صحيح ـ لكان علينا ان نفسر ظاهرة الصراع بين الطلاب وليس ظاهرة الحركة الطلابية . أي لألغينا الظاهرة الاجتماعية عن طريق محاولة تفسيرها ..
والواقع أن هذا هو ما يفعله الماركسيون . انهم على أي وجه فسروا الحركة الطلابية ، ألغوها وتحدثوا عن شيء آخر .. ولما كانت الظاهرة واقعا اجتماعيا ملموسا غير قابل للإلغاء ، فان الاجتهادات الماركسية كلها تنتهي ـ في جورها ـ الى محاولة استبعادها بدلا من تفسيرها . لهذا يكون أكثر المواقف اتساقا مع النظرية الماركسية هو ما يقول به بعض الماركسيين من أن الحركة الطلابية ليست الا اختراعا جديدا من اختراعات البورجوازية تريد بها أن تطمس معالم الفرز الطبقي ، وأن تجهض أو تميع الصراع الطبقي عن طريق تضليل الشباب ودفعهم الى مواقف غير علمية .. وهنا يلتقي الماركسيون مع الليبراليون في ادانتهم لظاهرة اجتماعية تلعب في المجتمعات دورا تقدميا .. هذا لأن الليبرالية والماركسية كلتيهما عاجزتان عن تفسير الظاهرة ..
وبعد ، فهل للحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية تفسير آخر ؟
نعم ..

6 ـ تفسير ظاهرة الحركة الطلابية :

قبل أن نجتهد في تفسير ظاهرة الحركة الطلابية يجب أن نعرف بأن ثمة تفسيرا علميا لها ، سواء كان اجتهادنا صحيحا أو غير صحيح . ذلك لأن الظواهر الاجتماعية معطيات موضوعية . إنكارها لا يجدي شيئا ، أما تفسيرها فقد يصيب وقد يخيب تبعا لصحة المنهج الذي يُستعمل في هذا التفسير ولصحة استعماله ، بالإضافة الى صحة معرفة الواقع الموضوعي ذاته . أما إدانتها أو قبولها فهو موقف تال لتفسيرها . لهذا يكون من الخطأ الفاحش إنكار ظاهرة اجتماعية لا نستطيع أن نفهمها .. ان العيب هنا في نظريتنا التي نتخذها دليلا للفهم وليس في الظاهرة ذاتها .. وأكثر من هذا خطأ أن ننكر ظاهرة اجتماعية لا تعجبنا .. ان هذا هروب من مواجهة المجتمع وظواهره ، وكلها مواقف غير علمية ، وبالتالي مواقف فاشلة .. ينكر من ينكر ، ويدين من يدين ، ويهرب من يهرب ، وتبقى الظاهرة قائمة مؤدية دورها في حركة المجتمع ..
إذن فان فشل محاولات فهم الحركة الطلابية على ضوء نظرية مثالية نموذجية ( الليبرالية ) ونظرية مادية نموذجية ( الماركسية ) ، يجب أن يكون محرّضا على مزيد من البحث العلمي لفهم الظاهرة ، واغناء معرفتنا بما تفرزه مجتمعاتنا من ظواهر بدلا من التعصب الجاهل لنظريات فاشلة ..
وقد يكون المدخل الصحيح لأية محاولة جديدة لتفسير الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية هو معرفة لماذا فشلت الإيديولوجيات المثالية ، واخترنا الماركسية كنموذج طريق لاكتشاف القصور الفكري أن نهتدي الى الفكرة القادرة على تفسير ما نريد تفسيره ..
ولقد قلنا من قبل أننا قد اخترنا الليبرالية كنموذج للايدولوجيا المثالية ، واخترنا الماركسية كنموذج للايدولوجيا المادية ، ومعنى هذا أن العيب في كل منهما قد يكون في المثالية والمادية وليس في كل أو بعض المقولات التي تتضمنها الليبرالية والماركسية . فلكل نظرية منهما مقولات مركبة وليس من اللازم ـ علميا ـ أن تكون خاطئتين في كل مقولاتهما . وفي خصوصية دراستنا نعتقد أن قصور كل منهما راجع الى أصولهما الفلسفية الخاطئة .
فالمثالية ترجع الحركة الاجتماعية الى فكرة خارج الإنسان تسميها القانون الطبيعي ، وعندما تحاول أن تفسر حركة الإنسان لا ترجع إليه ، ولكن تطرحه على قوة خارجة لتفسر لها حركته ..
والمادية ترجع الحركة الاجتماعية الى واقع مادي خارج الإنسان تسميه أدوات الإنتاج ، وعندما تحاول أن تفسر حركة الإنسان لا ترجع إليه ، ولكن تطرحه على قوة خارجة لتفسر لها حركته ..
أما لماذا اختارت كل منهما الفكرة أو المادة لتفرضها على الإنسان فان هذا يرجع الى منطلقاتها الميتافيزيقية .. إذ كل من المثالية والمادية نظرية قائمة على أسس فلسفية ميتافيزيقية ..
ففي المثالية يكون الفكر هو القائد المحرك الذي يتحكم في حركة التطور لأن الفكر قد وجد قبل المادة .. وفي المادية تكون المادة هي القائد المحرك الذي يتحكم في حركة التطور لأن المادة قد وجدت قبل الفكر .. من هو الذي وجد أولا ؟ .. هذا هو السؤال الميتافيزيقي الذي يتنازع الإجابة عليه كل من المثاليين والماديين ، ويدعي كل منهم أنه أصح إجابة . ولكن أحدا منهم لا يستطيع أن يقدم دليلا علميا على صحة إجابته ، ولا دليلا علميا على خطأ الرأي الآخر .. لأن الدليل العلمي الذي يخضع للتجربة والاختبار لا يردّ على المقولات الميتافيزيقية .. ولأن الفكر وجد أولا أصبح هو القائد في المثالية ، ولأن المادة وجدت أولا أصبحت هي القائدة في المادية .. وتحول الزعم الميتافيزيقي بأولوية الوجود الى فرض ميتافيزيقي أيضا لقيادة التطور الاجتماعي .. أما الإنسان فهو في المادية والمثالية كليهما مقود دائما ، خاضعا دائما لما يقوده سواه كان فكرة أو مادة ..
لهذا تمثل المادية والمثالية كلاهما جبرية عاتية تفرض على الإنسان مصيره سواء أراده أم لم يرده ، وتحيله الى شيء لا إرادة له ولا حرية ..
هذه الجبرية نشأت في أوروبا وسادت فكرها كله ، وعليها قامت كل الفلسفات الأوروبية ، كما قام سرح الحضارة الأوروبية .. فهناك سواء كانوا ماركسيين ( ماديين ) أو ليبراليين ( مثاليين ) ، يتحدثون عن التطور الاجتماعي وقوانينه وتاريخه ومصيره وهم يعنون ( المجتمع ) .. والمجتمع عندهم ليس جمعا من البشر يعيشون في ظروف مشتركة ، ولكن شيء غير الناس الذين يعيشونه ..
فالإنسان ، في المجتمع ، لا شيء مثاليا وماديا ، وعليه أن يندفع مع حركة مجتمعه ( القطيع ) كما تحركه الأفكار المثالية أو أدوات الإنتاج . ان كل منهما فلسفة غير إنسانية في جوهرها ، وميتافيزيقية غير علمية فيما تزعمه من تبعية الإنسان للمادة أو للفكر .
باختصار ان البشر في الحضارة الأوروبية القائمة على أسس مثالية أو مادية عبارة عن قطع غيار لماكينات ضخمة اسمها المجتمعات ، إما أن تتسق حركتها مع حركة الماكينة ، وإما أن تُلفظ أو تسحق أو تُستبدل ..
غير أن الإنسان لا يقهر الى الأبد ، وهو يتعلم جيدا من خبرته كيف يثور ضد قاهريه .. وإذ بالإنسان يرى بعينه ويلمس في شواء جسده كيف أهلكت تلك الفلسفات الجبرية وحضارتها ملايين من البشر ، في المستعمرات أولا ، ثم في حربين متتاليتين في ربع قرن ، وبدأ التساؤل بعد الحرب الأوروبية الثانية : هل البشرية على الطريق الصحيح ؟ وكان الواقع غير الإنساني الذي تعيشه الشعوب اجابة حية .
ان في المسيرة الحضارية كلها خطأ لا يمكن تجاهله .. ان ضحايا الجبرية المثالية والمادية لا يمكن أن يذهبوا هدرا .. وعلى مستوى العالم كله كان لا بد من حركة تمرد إنساني ضد الاستهانة بالإنسان وإرادته .. كان لا بد من ثورة تحررية إنسانية ضد الجبرية مثالية كانت أو مادية ..
وقد بدأ التمرّد على المستوى الفكري بمحاولة لم تنجح من الوجودية . فالوجودية لم تكن الا رد الفعل المتطرف في الحرية للجبرية المتطرفة . إنها تركيز قوي على الفرد وتجاهل كامل للمجتمع . وكأي رد فعل لم تصل الى غايتها بأن تكون فعلا بديلا وان كانت قد حركت رياح التمرد في العالم كله بعد الحرب العالمية الثانية وفي أوساط الشباب خاصة الى أن كادت تكون دعوة فوضوية .. وما يزال سارتر يرممها ويحاول تحريرها من سمات رد الفعل ..
أما على المستوى البشري فكان لا بد للتمرد من أن يأتي من جانب أكثر القطاعات البشرية تحررا من عبودية الحضارة الأوروبية . ان الآباء والأمهات والإخوة الكبار واقعون نهائيا في قبضة النظم ” الجبرية ” كقادة أو موظفين أو عاملين .. إنهم مربوطون الى العجلة الدائرة من أمعائهم فبرزت حركة التمرّد في أكثر قطاعات الشعوب استقلالا عن مصادر القهر وهم الطلبة .. وهكذا نشأت الحركة الطلابية طلائع ثورة عالمية ترفض أولا صنع الحياة التي لا تقيم وزنا لحرية الإنسان وإرادته وتحيله شيئا تتحكم فيه المثالية أو المادية . ثم تحاول أن تصوغ الحياة في المجتمعات مستفيدة بخبرة الماضي ولكن بشرط أساسي هو الإبقاء على حرية الإنسان وإرادته في الاختيار والبناء ..
لهذا لا يكون غريبا أن نرى الحركة الطلابية نشيطة في كل مجتمع تقريبا حيث يمكن أن تنشط بصرف النظر عن نوع النظام الاجتماعي أو السياسي القائم في تلك المجتمعات .. ذلك لأن كل تلك المجتمعات تمثل ـ بدرجات متفاوتة ـ تجسيدا لحضارة غير إنسانية أول مميزاتها تجاهل الإنسان وإرادته .. وفي كل مجتمع في هذا العصر قيود مفروضة على الإنسان وان اختلفت أشكالها ..
هكذا تنتصر الحركة الطلابية في كل مكان للإنسان ضد المثالية والمادية . فهل الانتصار للإنسان ضدهما موقف صحيح علميا ؟

7 ـ نعم .. انتصار للانسان ..

لو تجاهلنا البحث في البداية الميتافيزيقية وكففنا عن الاختلاف على ما الذي وجد أولا ، الفكر أو المادة ، لوجدنا أولا ـ أن المجتمعات قد نشأت لأول مرة بوجود الإنسان وذلك بعد ملايين ملايين السنين من بداية الوجود الذي يبحثون في كيف وجد . ولوجدنا ثانيا ـ أنه منذ أن وجد الإنسان واجه ظروفه المادية . ووجدنا ثالثا ـ أنه يقوم منذ أن وجد بتطويع وتطوير هذه الظروف المادية لتشبع حاجته المتجددة أبدا . ووجدنا رابعا ـ أنه من خلال هذه الحركة الجدلية بين الإنسان وظروفه صنع تقدمه وطوّر مجتمعاته . ولوجدنا خامسا ـ أنه في نطاق التأثير المتبادل بينه وبين ظروفه يتولى هو اختيار مستقبله وتحقيقه في الواقع . فالإنسان منذ وجوده هو قائد حركة التطور الاجتماعي ، لا الفكرة المثالية ولا الظروف المادية .
تلك هي خلاصة تاريخ الإنسان ببساطة . انه الإنسان الخلاق الذي يمارس قيادته للظروف المادية والاجتماعية بالرغم من كل محاولات إخضاعه لما هو فوقه أو لما هو تحته .. وعندما يتمرد الإنسان على محاولات إخضاعه فانه يضع قدمه على أول طريق صحيح يصحح به مسيرة خاطئة . وإذا كانت الحركات الطلابية هي أول تمرد أنساني ضد الجبرية فأنهم طلائع الثورة الإنسانية الكبرى التي تحتاج إليها الإنسانية في هذا العصر غير الإنساني .. وغدا وبعد غد سينظم إليهم كل المقهورين . ولن يخدعنا عن رؤية هذا المستقبل الإنساني أن الحركة الطلابية ما تزال ناشئة تتعثر خاصة على المستوى الفكري .. فغدا أو بعد غد ستتضح وتكسب كل أبعادها الفكرية الإنسانية .. والطلاب بعد ليسوا سوى طلائع ، ومن هنا فان إنضاج الثورة ليس واجبا على الحركة الطلابية وحدها ، بل هي واجب على كل الذين يتطلعون الى مستقبل أنساني يبقي على التقدم المادي ويضيف إليه إنسانيته ليكون التقدم المادي في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمته ..
ولعل أول واجب على غير المنتمين إلى الحركة الطلابية أن يرفعوا أيديهم عنها . أن يتركوها تتفاعل وتنضج وتؤدي دورها التاريخي من خلال تأثيرها الحر في مجتمعها . إنهم إن يكبتوها لا يلغوها ولكن يعطلوا نضوجها ، فهي ـ أرادوا أم لم يريدوا ـ واصلة الى غايتها التقدمية .
ثم يبقى المعول عليه في نضج الحركة الطلابية ومعدل سرعة هذا النضج على الطلاب أنفسهم . فحتى الظواهر الاجتماعية لا تنضج تلقائيا ، بل لا بد من جهد بشري لإنضاجها ..
عليهم أولا أن يحتفظوا بحركتهم وأن يحافظوا عليها . إن هذا أول شروط تطويرها ، إذ أن الوجود شرط أول للتطور .. إن التزامهم بالإبقاء على حركتهم مع اختلافهم فكريا سيملي عليهم قبول الحوار الديمقراطي فيما بينهم بقصد تجاوز الخلاف الى الوحدة الفكرية .
إن أية محاولة لإملاء فكر بعينه على الحركة الطلابية هو تخريب لها من الداخل ، لن تكون له نتيجة إلا تمكين أعداء الحركة الطلابية من تمزيقها . ان الديمقراطية ومزيد من الديمقراطية في إطار وحدة الحركة الطلابية هو مصدر قوتها الأساسي لمقاومة الفتك بها . وليس للطلاب عذر في رفض الحوار الديمقراطي .
إنهم .. بعد دور الإعداد العلمي والفكري أيضا ، فان كل الأفكار معروضة عليهم ليدرسوها وهم بعد في أول مراحل الحياة الطويلة ، فعليهم أن يتوقعوا ثراء متلاحقا في معرفتهم من خلال الدراسة أو التجربة ..
ان التعصب الفكري في الحركة الطلابية ليس الا تمردا على الحركة الطلابية ذاتها ، وهو تمرد عقيم ، اذ ستلفظ الحركة الطلابية المتمردين لتبقى هي ..

8 ـ الحركة الطلابية وتجربة الأجيال :

ثم ان على الحركات الطلابية أن تستفيد من تجارب الأجيال التي سبقتها .. إنها تجربة ثورية جديدة .. تبدأ رافضة ولكنها مطالبة بان تبقى كما هي .. لا انقطاعا في سلسلة التطور الاجتماعي .. ولكن مرحلة جديدة أكثر تقدمية .. والعبرة في النهاية بمقدرتها على الاستفادة من التراث حتى الذي ترفضه ..
ان المواعظ هنا لا تنفع أحدا . فلسنا نستطيع أن نقول للحركات الطلابية عليكم بكذا .. هذه وصاية مفروضة عن جهل . فان الحركات الطلابية هي طلائع متمردة ضد الوصاية على البشر بالذات . ومع ذلك فاننا نستمر في الحديث عما نراه مستقبلا للحركة الطلابية يتفق مع نشأتها ، ومسيرتها . انه توقع أكثر منه دعوة . ان صح فقد كسبت الحركة الطلابية زمنا كان يمكن أن تبدده في التجربة الى أن تهتدي إليه .. وان لم يصح فانه رأي يحمل أملا لا تصيب الخيبة إلا صاحبه ولا تعوق الحركة الطلابية عن شئ..

9 ـ الحركة الطلابية والحوار الديمقراطي :

ستنجح الحركة الطلابية إذا استطاعت عن طريق الحوار الديمقراطي أن تنتهي الى وحدة فكرية ، ليست أية وحدة فكرية ، بل وحدة فكرية ذات معالم تتفق مع طبيعة الحركة الطلابية ذاتها . وقد رأينا كيف أن الإيديولوجيات المثالية والمادية قد فشلت في تفسير الحركة الطلابية .. فلسنا نعرف كيف يمكن أن تتم الوحدة الفكرية بين الطلاب في حركتهم إذا ظلوا مترددين بين هذا الثنائي المخرب : ” إما أن تكون ماديا وإما أن تكون مثاليا ” . أنهم إن قبلوا واحدة يكونوا قد أنكروا أنفسهم كحركة .
” الفلسفة الإنسانية ” التي تبدأ بالإنسان منطلقا وتنتهي بالإنسان غاية هي إذن التي تتفق مع طبيعة الحركة الطلابية .. بل ان الحركة الطلابية ذاتها ليست إلا ممثلا لها .. لهذا ستتحقق الوحدة الفكرية في الحركة الطلابية إذا استطاعت عن طريق الحوار الديمقراطي أن ترفض المادية والمثالية كلتيهما وتجتمع على فلسفة إنسانية ..

  • هذا على المستوى الفلسفي .
  • أما على مستوى مناهج التطور فلا محيص للحركة الطلابية من ان تهتدي الى ” الجدل ” قانونا للتطور تكتشفه وتعترف به وتستخدمه في حركتها . ذلك لان الجدل وحده هو الذي يفسر حركتها المتطورة المطورة .. وكل قانون ميكانيكي أو ميتافيزيقي سيعجز عن تفسير حركتها وتطورها الذي يخلق كل يوم جديدا ، ويحل المتناقضات في الواقع . والجدل هو التأثير المتبادل والحركة والتغير والصراع بين المتناقضات . ثم يبقى عليها أن تحدد من بين كل العناصر المؤثرة المتأثرة المتفاعلة في المجتمع ذلك العنصر القائد لحركة التطور .. عندئذ ستهتدي بفلسفتها الإنسانية لتختار الإنسان قائدا للتطور الاجتماعي .. عندئذ تكون متسقة مع ذاتها كحركة لا يتناقض وجودها مع فكرها فتتسق حركتها وتصبح أكثر فاعلية..
  • أما على مستوى النظرية ، أي الحلول الفكرية للمشكلات الاجتماعية ، فان كل حركة طلابية في كل مجتمع ستواجه مشكلات مجتمعها كما يطرحها الواقع وبدون تزييف .. غير أنها ـ لكي تقوم بدورها الطليعي ـ لا بد لها من أن تحتفظ في كل المجتمعات بسمتها الأساسية وهي أنها حركة تحررية ..
    التحرر من الاستعمار ، التحرر من القهر السياسي ، التحرر من القهر الاقتصادي ، تلك أهداف لا تملك الحركة الطلابية أن تتجاهلها أو أن تنكص عن النضال من أجلها وإلا أنكرت وجودها وشوهت مسيرتها .. إن كل حركة طلابية لا بد لها من أن تكون تحررية اشتراكية سواء وعت هذا أو لم تعه .. فالحرية والاشتراكية (نظام التحرر من القهر الاقتصادي والاستغلال) هدفان متصلان بجوهر الحركة الطلابية ذاتها .. قد لا يدركه بعض الطلبة ولكنهم عاجلا أو آجلا سيدركونه .. ان لم يدركوه فكريا فسيدركونه من خلال الممارسة .. ولم يكن عبثا أن تنشأ الحركات الطلابية ابتداء في المجتمعات الرأسمالية .. اذ من هم الطلبة في المجتمع الرأسمالي ..؟
    أنهم أولئك البشر الناشئون الذين يعدون في المعاهد العلمية ليصبحوا بعد تخرجهم ” خدما ” للرأسماليين .. يبيعون طاقاتهم الفكرية وكفاءاتهم العلمية لمن يدفع الثمن في سوق البشر التي يتحكم فيها أصحاب المؤسسات الرأسمالية .. ويبذلون طاقاتهم إرضاء لسادتهم خوفا من فصلهم .. ولا يتقدمون إلا بقدر ما يحوزون رضا هؤلاء السادة ، وهم لا يحوزون رضاهم إلا بقدر ما يوفرون لهم من ” ربح ” على حساب إخوتهم وآبائهم وأمهاتهم العاملين أو المستهلكين .. ولقد كان من العبث وسيبقى من العبث أن يقال للجيل الطلابي الناشئ انتبه الى دروسك وتفوق لتحصل على وظيفة لدى ” شركة فلان ” .. انه يباع مقدما ، وقد يدفع المشترون العربون عندما توفد الشركات والمؤسسات الرأسمالية الطلاب في بعثات بعقود تلزمهم بأن يعملوا لديها سنين محدودة في مقابل العربون الذي دفع ..
    إن المعاهد العلمية في المجتمعات الرأسمالية ليست أكثر من معالف يربى فيها البشر ويسمنون ويهجنون ويدربون ليصلحوا لركوب الرأسماليين أو لجر عرباتهم .. ولقد كانت الحركات الطلابية وما تزال على حق في أن ترفض عناء التعليم لمجرد أن يصبح الطلاب عبيدا للرأسماليين .. ولما كان التعليم ضرورة إنسانية للرقي فان الطلاب لا يستطيعون أن يرفضوا العلم ولو كانوا يعرفون أن الرأسمالية تجهزهم لخدمتها .. ! وهكذا كان رفض النظام الرأسمالي جملة وتفصيلا بكل ما فيه ومن فيه من قهر من جانب السادة ومن منافسة بين العبيد ، هو الحل الذي اختارته الحركة الطلابية .. والتي يجب أن تتمسك به دائما لتؤدي دورها العظيم ..
    هل اختارت الحركات الطلابية النظام الاشتراكي بديلا عن الرأسمالية التي رفضتها ؟ لا نستطيع أن نقول أنها فعلت هذا في جميع الحركات الطلابية .. بل كثير منها رفضت وما تزال عند مرحلة الرفض ولكن كثير منها اختارت الاشتراكية ..
    ويرجع هذا الموقف المتردد أو الذي لم ينضج بعد ، الى الخلط الذي يؤكده الماركسيون بين الاشتراكية وبين الماركسية .. وقد عرفنا من قبل كيف ينظم الرأسماليون الى الماركسيين في تأكيد الخلط بين الماركسية والاشتراكية ..
    ولما كانت النظرية الماركسية نظرية مادية جبرية ، فان الاشتراكية الماركسية تصد الحركات الطلابية التي هي تحررية ديمقراطية أصلا عن تبنيها خوفا من أن تكون الدعوة الى الاشتراكية مدخل اغراء للوقوع في مواطن الديكتاتورية تفقد الحركة الطلابية القدرة على الحركة كما هي عادتها في كثير من المجتمعات الماركسية ..
    ولكن الاشتراكية ليست هي الماركسية . لقد كان لماركس فضل فضح النظام الرأسمالي وبيان ما فيه من عبودية .. ولكن ليس في كل التراث الماركسي منذ ماركس حتى لينين كلمة واحدة تبين ماهية النظام الاشتراكي الذي يقوم في المجتمع بعد إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج .. إن هذا الإلغاء هو ما تعرفه الماركسية ، وهو اجراء سلبي .. وقد كان هذا القصور النظري محل ملاحظة لينين بعد قيام الثورة البلشيفية سنة 1917 .. وفشلت الماركسية في التطبيق لما سمي شيوعية الغرب ، وتراجع لينين عن النظرية ، فدخل الاتحاد السوفياتي مرحلة بناء الاشتراكية بمنهج تجريبي ، ثم استقرت التجربة على قواعد ، وعرف العالم ما هو النظام الاشتراكي ..
    وبعد ان كان ماركس وانجلز يلعنان الاشتراكية والاشتراكيين باعتبارهم بورجوازيين مضللين ، ويرفعان شعار الشيوعية ، تراجع الفكر الماركسي وقبل النظام الاشتراكي تحت إلحاح ضرورات التقدم وقال عنه انه مرحلة انتقالية .. وما يزال منذ ستين عاما مرحلة انتقالية ..
    ليس العيب إذن في النظام الاشتراكي إنما العيب فيه عندما يلصق بالماركسية ، والماركسية وحدها ، وهو ما يريده الماركسيون والليبراليون معا ، انه يحمل معه جرثومة المادية ( الجبرية ) فتصبح الاشتراكية مقترنة بالديكتاتورية .. وكل أعداء الاشتراكية وخاصة الرأسماليين لا يريدون إلا تأكيد هذه التهمة غير الإنسانية .. ويناضل الاشتراكيون الديمقراطيون في كل مكان ضد هذه الدعوة التي تحالف عليها أعداء الاشتراكية من ماركسيين وليبراليين ..
    بمجرد التحرر من المادية تصبح الاشتراكية أكثر النظم حرية وديمقراطية .. إنها إذ تحرر الإنسان من القهر الاقتصادي تضيف الى الحرية السياسية ما يكملها ويعطيها مضمونها الايجابي فلا تبقى حرية شكلية كما يريد الليبراليون ..
    ولما كانت الحركة الطلابية حركة تحررية في جوهرها ، فإنها لن تخذل جوهرها وتختار الديكتاتورية سواء كانت ديكتاتورية رأسمالية (فاشية) أو ديكتاتورية اشتراكية (ماركسية) .. وهكذا تحدد للحركة الوطنية نظام اجتماعي يتفق مع جوهرها التحرري سياسيا واقتصاديا وهو الاشتراكية الديمقراطية ..
    ولسنا نستطيع أن نحدد المشكلات الاجتماعية التي تصادف أو قد تصادف الحركات الطلابية في كل مجتمع على حدة .. ففي المجتمعات المستعمرة مثلا لا تتسق الحركة الطلابية مع طبيعتها إلا إذا كانت طليعة ثورية ضد الاستعمار والتبعية .. وفي المجتمعات المتخلفة تتسق حركتها مع طبيعتها عندما تقود النضال من أجل التنمية وتقف بصلابة ضد الانحراف والتبذير والمظهرية الاستهلاكية وهكذا ..
    قياسا على كل ما سبق نستطيع أن نقول أن الحركة الطلابية في الوطن العربي ستكون تائهة وفاشلة أيضا إذا لم تكن حركة موحدة قوميا .. حركة طلابية عربية واحدة .. إذ ما هو الأثر الفعلي للموقف الإنساني الذي تمثله الحركة الطلابية ؟ .. نعني الحركة الطلابية التي تريد أن تكون متسقة مع ذاتها منضبطة مع مبررات وجودها .. انه يتحدد في سؤال أول يطرحه الطلاب على حركتهم ..
    ما دامت العبرة في قيادة التطور بالإنسان ، فمن نحن ؟ ما هو حجمنا .. على أي ارض نقيم ، ما هي مساحة حركتنا ، ما هي مدى مسؤوليتنا ، باختصار ما هو مجتمعنا ؟ .. عندئذ ستجد الحركة الطلابية وهي تحاول أن تجيب على هذا السؤال الأول في الوطن العربي أنها أمام خيار غير معروض على أي حركة طلابية في العالم ، ما عدا ألمانيا وكوريا وفيتنام .. إما أن تختار مجتمعها كما حدده التطور التاريخي اجتماعيا ، أو تختار مجتمعها السياسي المفروض .. إما أن تختار الدولة أو تختار الأمة العربية .. إما ان تختار القومية أو تختار الإقليمية .. ولما كانت الإقليمية مفروضة بالبطش الاستعماري والقهر السياسي والاستغلال الاقتصادي على الجماهير العربية ، فان الطبيعة التحررية للحركة الطلابية ـ بالإضافة الى المعرفة العلمية ـ ستحدد لها ما تختار ، وستختار مجتمعها القومي متحررا من التجزئة التي صنعها المستعمرون ..
    عندئذ ستكون قد اختارت ـ في الوطن العربي ـ الحرية والوحدة والاشتراكية ، وأصبح هدفها الذي يتفق مع طبيعتها كطليعة ثورية إنسانية هو إقامة دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .

تنويه : ( وردت بعض الكلمات الغير واضحة من المصدر ( نسخة قديمة من مجلة الشورى العدد الاول سنة 1974 ) ، اجتهدنا في توضيحها أو تعويضها حسب السياق للمحافظة على استرسال الكلام دون انقطاع ، وتركناها بلون مغاير حتى يعرفها القارئ ( واحدة في الفقرة 3 واثنتان في الفقرة 9 ) .

الإخوان ورقة دائمة في يد المخابرات الأمريكية : سامي شرف

شهاده هااامة من الفريق سامي شرف: افيقوا يا سادة واعلنوها صراحة…..((الاخوان المسلمين)) جماعة ارهابية وورقة دائمة في يد الاستخبارات الاميركية؟؟؟؟؟

الفريق سامى شرف…وزير شئون رئاسة الجمهورية الأسبق..وسكرتير الرئيس جمال عبد الناصر للمعلومات..في شهادة تاريخية عن الاخوان المسلمين بوصفهم جماعة ارهابية دموية عميلة للمخابرات الامريكية:

يبدأ سامي شرف شهادته عن علاقة الزعيم جمال عبد الناصر بجماعة ((الاخوان المسلمين)) التي يصفها شرف الذي واكب نشاطاتها السياسية والعسكرية بأنها جماعة ارهابية يشاركها في مخططاتها قوى دولية ابرزها حلف بغداد بتنسيق مع الموساد الاسرائيلي وفي التفاصيل.

هذا ما حدث سنة 1956، اما ما حدث سنة 1965 فكانت الصورة اعنف وأشد ضراوة من جانب الجهاز السري للإخوان المسلمين – وهي قصة اخرى – وكانت الاعتقالات حوالى خمسة آلاف فرد اخذاً بالاحوط، لأن الصورة كانت غير واضحة من حيث نوايا وقدرات المتآمرين، وخصوصاً ان هذه المؤامرة اكتشفت بواسطة التنظيم الطليعي وليس بواسطة اجهزة الامن.

لم يكن اسلوب الرئيس عبدالناصر هو تصفية الحسابات مع خصومه، ولكنه كان يرفض وبإصرار تصفية البشر عزوفاً منه عن سفك الدماء باسم الثورة او حتى طلباً لحمايتها، وكان في الوقت نفسه يتصرف كإنسان، يخطىء ويصيب ومن اول يوم للثورة وقف ضد إعدام الملك فاروق ورفض منذ البداية الديكتاتورية العسكرية.

وفي عام 1960 اصدر الرئيس جمال عبدالناصر قراراً بالافراج ايضاً عن كل المسجونين من الذين كانت قد صدرت ضدهم احكام من الاخوان المسلمين، وتم صرف جميع مستحقاتهم بأثر رجعي بموجب قانون جرى استصداره من مجلس الامة ينص على ان تعاد لجميع المفرج عنهم حقوقهم كاملة، وان يعودوا الى وظائفهم بمن فيهم اساتذة الجامعات الذين يملكون حرية الاتصال والتوجيه للنشء الجديد.. هذا هو جمال عبد الناصر الانسان والقائد والزعيم.

خرج الاخوان المسلمون من السجون بفكر ارهابي مبني على تكفير الحكم، وضعه سيد قطب في كتابه ((معالم على الطريق)) وأمكن بواسطته ان يجذب اليه العديد من العناصر التي كانت بالسجن معه، كما وجدوا في انتظارهم مجموعة موازية على قدر عال من التنظيم ويعملون على نشر فكر الجماعة في مختلف المحافظات، وخاصة في الدقهلية والاسكندرية والبحيرة ودمياط، وكان على رأس هؤلاء علي عشماوي وعبد الفتاح اسماعيل وعوض عبدالعال ومحمد عبدالفتاح شريف وغيرهم، وتوفر لهم تمويل خارجي كان الشيخ عشماوي سليمان هو حلقة الاتصال المسؤول عن توصيل هذا التمويل الى الداخل.

والتفت المجموعات المختلفة من الاخوان حول فكرة واحدة هي تكفير الرئيس عبدالناصر ومن ثم استباحة اغتياله، كما اتضح فيما بعد كما كان مقرراً ان تشمل عملية الاغتيالات عدداً كبيراً من رجال الدولة والكتّاب والادباء والصحافيين والفنانين وأساتذة في الجامعات وغيرهم رجالاً ونساء، وبيان تفاصيل هذا الامر محفوظ في ارشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكري، وأرشيف المباحث العامة وأرشيف الاستخبارات الحربية.

خطط هؤلاء لإدخال بعض عناصرهم في القوات المسلحة عن طريق الالتحاق بالكلية الحربية، كما حاولوا اختراق الشرطة ايضاً بالاسلوب نفسه، يضاف الى ذلك تجنيد عدد لا بأس به من شباب الجماعات خاصة في الكليات العملية، وبالذات كليتا العلوم والهندسة التي يمكن لعناصرهم فيها ان يتمكنوا من اعداد المتفجرات بأيسر الطرق، كما كان داخل التنظيم قسم لتجميع المعلومات يتولى مسؤوليته احمد عبد المجيد الموظف بإدارة كاتم اسرار حربية بوزارة الحربية، كما أجمعت قيادات التنظيم على اختيار سيد قطب لتولي رئاسة هذا التنظيم الجديد، وتم الاتصال به داخل السجن وأعرب عن موافقته، وقدم لهم كتابه ((معالم على الطريق))، ونشط في بناء التنظيم وتوسيع بنائه وقواعده بعد خروجه من السجن.

في 7 اغسطس/آب 1965 كان الرئيس جمال عبد الناصر يتحدث الى الطلبة العرب في موسكو خلال زيارة كان يقوم بها للاتحاد السوفياتي، وأعلن في هذا الحديث عن ضبط مؤامرة جديدة للإخوان المسلمين فقال:

((بعد ان رفعنا الاحكام العرفية منذ سنة وصفينا المعتقلات، وأصدرنا قانوناً لكي يعودوا الى اعمالهم نضبط مؤامرة وسلاحاً وأموالاً وصلت اليهم من الخارج، وهذا دليل على ان الاستعمار والرجعية بيشتغلوا من الداخل)).

وتوالى بعد ذلك كشف تفاصيل المؤامرة..

كانت نقطة البداية في الكشف عن التنظيم الاخواني هي رصد بعض مجموعات التنظيم الطليعي في محافظة الدقهلية نشاطاً لعناصر من الاخوان اخذ شكل جمع تبرعات قيل انها لعائلات غير القادرين منهم، لكن اتضح ان هذه التبرعات بعد متابعة هذا النشاط كانت تستهدف تجنيد عناصر جديدة ليس لها تاريخ سابق في جماعة الاخوان المسلمين او في سجلات اجهزة الامن، وتبين بعد ذلك ان هذا النشاط لا يقتصر على محافظة الدقهلية وحدها، بل تبعه الى عدد من المحافظات الاخرى.

والحقيقة ان الرئيس عبد الناصر عندما تلقى معلومات التنظيم الطليعي، طلب تأكيدها عن طريق اجهزة الامن التي لم يكن لديها بعد مؤشرات عن هذا النشاط، وبناء على ذلك شكلت مجموعة عمل خاصة من شعراوي جمعة وسامي شرف وحسن طلعت لتلقي المعلومات وتحليلها، كما تم التنسيق مع شمس بدران فيما يتعلق بالقوات المسلحة.

وبعد إجراءات التنسيق التي تولت المتابعة بشكل جدي ودقيق ورصد كل تفصيلاته، وكان كتاب سيد قطب ((معالم على الطريق)) قد صدر، لكن مشيخة الازهر الشريف طلبت مصادرة الكتاب لما يحويه من أفكار جديدة مستوردة ومستوحاة من تعاليم ابو الاعلى المودودي الباكستاني، وبعبارات مختصرة فقد قام فكره على تكفير الحاكم والمجتمع وتغريبه بما يشمل استباحة التخلص من الانظمة التي لا تتماشى في الحكم مع هذه التعاليم والمبادىء، وبعد إطلاع الرئيس عبدالناصر على الكتاب طلب السماح بطبعه وتداوله في سوق الكتاب مع المتابعة بالنسبة لتوزيعه، وقد ثبت ان الكتاب قد اعيد طبعه في اربع طبعات على مدى قصير وبدون إعلان او دعاية للكتاب، وعندما قدم التقرير الى الرئيس كان قراره وتحليله انه مع تزايد التوزيع وإعادة الطباعة فهذا يعني شيئاً واحداً فقط هو انه هناك تنظيم وراء هذا العمل، وبدأت اجهزة الامن تتابع هذا النشاط بالنسبة للمشترين والموزعين ومن يحصلون على الكتاب.. الخ، وكان هناك ايضاً وفي الوقت نفسه تكليفات للتنظيم الطليعي بمتابعة هذا الموضوع جماهيرياً وسياسياً وكانت كل البيانات تجمع وتعرض على اللجنة الخاصة التي تولت تحليلها.

وحدث انه اثناء قيام الرئيس جمال عبد الناصر بزيارة الجامع الازهر في شهر اغسطس/آب 1965 اكتشفت وجود شخص يحمل مسدساً ويندس بين صفوف المصلين، وكان ذلك قبل وصول الرئيس فقبض عليه وبدأ التحقيق معه.

كذلك افادت المعلومات عن نشاط مكثف يقوم به سعيد رمضان وهو من قادة الاخوان المسلمين، وكان هارباً ومقيماً في المانيا، وأنه دائم التنقل بين مقر اقامته وبيروت وجدة وطهران – ايران الشاه – وبعض العواصم الاوروبية الاخرى وكان وقتها يحمل جواز سفر دبلوماسياً اردنياً.

وكانت جماعة مصر الحرة التي يقودها احمد ابو الفتح – من زعماء حزب الوفد في مصر والذي كان يقيم متنقلاً بين سويسرا وفرنسا – قد حصلت على مبلغ مائتين وخمسين الف جنيه استرليني ووقع خلاف بين هذه الجماعة من جانب، وبين سعيد رمضان من جانب آخر على اسلوب اقتسام هذا المبلغ بعد ان كان الطرفان قد شكلا جبهة عمل واحدة للعمل ضد نظام ثورة يوليو/تموز 1952 والرئيس جمال عبدالناصر بالذات.

لقد كان كتاب سيد قطب ((معالم على الطريق)) هو الدستور الذي ارتكز عليه فكر التنظيم وبرنامجه في التحرك التآمري الى بناء طليعة تقاوم الجاهلية التي يعيش فيها العالم الاسلامي كله، وان هذه الجاهلية تمثل الاعتداء على سلطان الله وأخص خصائص الالوهية الحاكمة، ويرى ان المهمة الرئيسية لهذه الطليعة هي تغيير داخل المجتمع الجاهلي من اساسه، ولا سبيل لهذا التغيير سوى الجهاد واستخدام كل وسائل الحرب ضد الحكام وضد المجتمع.

وكانت الترجمة العملية لهذه الافكار المنحرفة هي وضع مخطط لصنع المواد الحارقة والناسفة وجمع المعلومات، كما وضعت خطط لنسف العديد من الكباري والقناطر وبعض المصانع ومحطات توليد الكهرباء ومطاري القاهرة والاسكندرية والمبنى الرئيسي لمصلحة التلفونات ومبنى ومحولات الاذاعة والتلفزيونات.

كان هدف المخطط الاخواني الجديد هو احداث شلل عام في جميع المرافق وقد أعدوا خرائطها التي تم ضبطها مبيناً عليها البيانات التي تفيد اسلوب وكيفية التدمير والتخريب.. كما شمل المخطط ايضاً تنفيذ موجه من الاغتيالات تبدأ من الرئيس جمال عبدالناصر وكبار المسؤولين وغيرهم كما ذكرت آنفاً.

شملت هذه القضية ايضاً تخطيطاً ضُبط كان هدفه اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر اثناء تحركه في أي موكب رسمي في القاهرة او في الاسكندرية علاوة على خطة اخرى لنسف القطار الذي كان يستقله الرئيس عبدالناصر في طريقه للاسكندرية للاحتفال بعيد الثورة، وخطة ثالثة لاغتياله وهو في طريقه اما الى منـزله في منشية البكري او في طريقه الى قصر القبة، وقد ضبطت فعلاً هذه المحاولة باكتشاف محاولة وضع متفجرات في احدى بالوعات المجاري في شارع الخليفة المأمون.

لم يكن هذا المخطط (إخوانياً) خالصاً بل شاركت فيه قوى دولية كان ابرزها حلف بغداد، وتنسيق استخبارات الحلف مع الموساد الاسرائيلي، وكان يشرف على التخطيط مع الاخوان المسلمين لجنة داخل الحلف تسمى ((لجنة مقاومة النشاط المعادي)).

والحقيقة انه لم تنقطع الاستخبارات المركزية الاميركية عن محاولات التدخل في الشأن المصري للثورة اعتباراً من 1952 الا انه في سنة 1965 بالذات فقد تم الكشف عن اكثر من قضية كان للاستخبارات المركزية الاميركية يد فيها.

ففي 21 يوليو/تموز 1965 تم القبض على الصحافي مصطفى امين في منـزله بالاسكندرية، وكان بصحبته مندوب الاستخبارات المركزية الاميركية في السفارة الاميركية بالقاهرة ((بروس تايلور اوديل)) والذي كان يتخذ غطاء لنشاطه صفة مستشار السفارة اعتباراً من اغسطس/آب 1964 الشيء الذي لم يخف علينا حقيقته منذ ان قدم للقاهرة، وقد سرب مصطفى امين لبروس اوديل من المعلومات والوثائق الكثير وبصفة خاصة معلومات عن القوات المسلحة المصرية وفي اليمن بالذات، وكذلك نشاط المشير عبد الحكيم عامر وزياراته للاتحاد السوفياتي واليمن، وعن مغادرة علماء الذرة الالمان للبلاد، وايفاد علماء مصريين للصين وما ادعاه عن النشاط الشيوعي في القوات المسلحة المصرية والاخطر عن جهاز سري يتعامل معه وسيتحرك عند اغتيال جمال عبد الناصر ومحاولته تهريب وثائق تخص مصطفى امين ومبلغ عشرين الف جنيه قدمها له، وضبطت على الطاولة، وذلك لتحويلها في السوق السوداء إلى ليرات لبنانية وفتح حساب له بها في لندن. ولقد أفرج السادات عنه إفراجاً صحياً سنة 1974 بتدخل من هنري كيسينجر، كما أصدر قراراً بإسقاط الحكم عنه وتبرئته!! في الوقت الذي كان كمال حسن علي مديراً للمخابرات العامة المصرية في تلك الفترة وبعد انقلاب مايو 1971، اتخذ قراراً بأن تعتبر قضية مصطفى أمين قضية تخابر متكاملة ويتم تدريسها في معهد المخابرات العامة كقضية نموذجية كاملة للتخابر.

وفي الوقت نفسه الذي قبض فيه على مصطفى أمين في أغسطس سنة 1965، فقد تم ضبط عدة تنظيمات لجماعة الإخوان المسلمين يقودها سيد قطب، ووجهت لهم عدة اتهامات منها محاولة اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر، وتدبير انفجارات وحرائق عدة في مختلف أنحاء البلاد للمنشآت العامة والكباري ومحطات الكهرباء، علاوة على اغتيالات تتم لبعض رموز الدولة من السياسيين والمثقفين وبعض الفنانين.. الخ.

ولقد نشرت اعترافات سيد قطب في كتابه ((لماذا أعدموني؟)) الصادر عن كتاب الشرق الأوسط الشركة السعودية للأبحاث والتسويق – ص 58. وتم نشر هذا الكتاب بعد إعدام سيد قطب بسنوات، وأهم ما جاء فيه كان ما ذكره ((ان منير دلة – من قيادات الإخوان المسلمين – قد حذره من شباب متهورين يقومون بتنظيم، ويعتقد أنهم دسيسة على الإخوان بمعرفة قلم مخابرات أميركي، عن طريق الحاجة زينب الغزالي)).

وفي كتاب ((الن جيران)) عن المخابرات المركزية الاميركية ان الإخوان المسلمين كانوا ورقة دائمة في يد المخابرات الأميركية – كيرميت روزفلت – وأن منظّري الحركة تأثروا إلى حد كبير بالنظام الاقتصادي والسياسي في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. وأن الاخوان المسلمين هم سلاح ممتاز تستخدمه بعض الدول الغربية التي رأت منذ سنة 1940 ان هذه الحركة هي حاجز متين ضد النفوذ الشيوعي والتغلغل السوفياتي. ومن كل الذين استخدموا هذه الحركة فإن ((كيم)) – كيرميت روزفلت – كان دون شك الأكثر مثابرة.

كما كان ((كلود جوليان)) يعطي مثالاً جيداً عن الشكل الذي استخدم فيه الاخوان عندما يقول: ((في سنة 1965 وبالتواطؤ مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية نظمت جماعة الإخوان المسلمين المحافظة جداً، مؤامرة واسعة، للإطاحة بالنظام الناصري، إلا أن المسؤولين الرئيسيين عنها اعتقلوا)).

لم تكن هذه المخططات بعيدة بأي حال عما تنفذه المخابرات المركزية الأميركية في سائر دول العالم الثالث، مستهدفة التخلص من مجموعة القيادات التي أفرزتها حركة التحرر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية، وسببوا إزعاجاً خطيراً لقوى التحالف الغربي بوجه عام، وفرضوا وجودهم على ساحة التوازنات الدولية، ولقد انساقت هذه العناصر المضللة وراء حالة من الهوس الفكري صاغها سيد قطب واستغلتها أجهزة المخابرات والقوى المعادية لثورة يوليو أفضل استغلال، ولم يفطن أي من هؤلاء المخدوعين إلى أنهم – إذا ما نجح المخطط – سيستلمون دولة لا تقوم إلا على الخراب – لكن الله سلّم مصر التي كرمها كمهبط لأنبيائه، وبذكرها في كتابه الكريم وأوصى خاتم الانبياء بشعبها وجنودها الذين كتب عليهم الرباط إلى يوم الدين.

في الواقع فإننا لا نحتاج إلى أدلة كثيرة لكي نثبت تآمر الإخوان المسلمين، فتاريخهم في الإرهاب قبل الثورة وبعدها يشهد على دموية هذه الجماعة، وهو تاريخ لا أعتقد أنهم يمكن أن يقولوا إنه كان تمثيليات مسلسلة مدسوسة عليهم:

هل كان اغتيال النقراشي باشا تمثيلية؟

هل كان اغتيال الخازندار رئيس محكمة استئناف مصر تمثيلية؟

هل كانت محاولة اغتيال ابراهيم عبد الهادي تمثيلية؟

هل كان اغتيال حامد جودة تمثيلية؟

ولا نريد أن نستطرد في ذكر التاريخ الإرهابي للإخوان المسلمين.. ولكني أريد ان أذكر بعبارة قالها مؤرخ مصر الكبير عبد الرحمان الرافعي عن إرهاب جماعة الإخوان المسلمين: ((ان العنصر الإرهابي في هذه الجماعة كان يرمي من غير شك إلى أن يؤول إليها الحكم، ولعلهم استبطأوا طريقة إعداد الرأي العام لتحقيق هذه الغاية عن طريق الانتخابات، فرأوا أن القوة هي السبيل إلى إدراك غاياتهم)).

ويؤكد ما قاله الرافعي منذ أكثر من نصف قرن ما قال به مرشد الإخوان العام السابق الهضيبـي حينما قال رداً على سؤال وجه إليه بشأن ما ذكره الهلباوي لجريدة ((القدس)) بأن ((الإخوان المسلمين)) جماعة لا تخلو من الخطايا، والمعروف ان الهلباوي هو أبرز قادة الإخوان المسلمين في لندن.. في معرض تعليقه على الهلباوي قال الهضيبـي:

((أنا مع الهلباوي فيما يقول، فنحن كنا متسرعين في بعض حساباتنا مثل طريقة وصولنا للسلطة، ومحاولة اغتيال عبدالناصر)). ووصف الهضيبـي من قام بمحاولة اغتيال عبدالناصر بأنهم بعض الشباب الهايف. وشهد شاهد من أهلها.. إذن يا سادة لم تكن تمثيلية كما يروّج المدعون والمنافقون.. أليس كذلك!!! بل كانت عملية دنيئة من مجموعة هايفة.. وآسف لاستخدام هذه الألفاظ، ولكنني أستخدم الوصف نفسه الذي وصف به المرشد العام للإخوان جماعته.

كما أن الأمير نايف وزير الداخلية السعودي قال في حديث له مع صحيفة السياسة الكويتية: ((إن مشكلاتنا كلها جاءت من الإخوان المسلمين، فقد تحملنا منهم الكثير، ولسنا وحدنا من تحمل منهم، ولكنهم سبب المشاكل في عالمنا العربي وربما الإسلامي)).

ومن المناسب هنا أن أذكر قصة خاصة بي توضح أسلوب جماعة الإخوان في تصفية حساباتهم مع خصومهم، وتوكيد استمرار السياسة الثأرية من جانبهم حتى بعد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر وهي باختصار.. قصة كمال ناجي وأنور السادات وشخصي البسيط، وهي رسالة من قيادة الإخوان المسلمين لشعراوي جمعة وسامي شرف تطلب منهما إعلان التوبة وطلب الصفح؟؟؟ حيث اخبرني السادات : ((كمال جاء لي بعدما أمنت مقابلته عن طريق الاخوة في قطر – ما إنت عارف – وهو قال لي انه بيحمل رسالة من قيادة الإخوان المسلمين الدولية والمصرية بتقول إن ثأر الدم اللي كان بينهم وبين المعلم – يقصد عبدالناصر – قد انتقل إلى شعراوي جمعة وسامي شرف..!!

ولكن ما حدث – كما يعلم الجميع – وكانت نهاية الرئيس السادات على يد نفر من اعضاء الجماعة وبمباركة منهم.

كما عانت مصر بعد ذلك من دوامة العنف والارهاب على يد جماعة الاخوان المسلمين بهدف زعزعة استقرار مصر، والاستيلاء على السلطة، وتحت ضربات النظام تارة ومهادنة النظام تارة تم الاتفاق على فترة هدنة بين النظام والجماعة، وادعى اقطاب الجماعة انهم سيتخلون عن العنف كوسيلة لتحقيق اهدافهم.. ففي الآونة الاخيرة، سلكت جماعة الاخوان المسلمين في مصر تكتيكاً في العمل السياسي غريباً على تاريخها السياسي الدموي، فقامت بالاتصال بأحزاب سياسية من بينها – للأسف – الحزب العربي الديموقراطي الناصري وحزب التجمع التقدمي الوحدوي وحزب الوفد الجديد، ولكن هل هذا التعاون مع الحزب العربي الديموقراطي الناصري يعني غلق ملف العداء بين جماعة الاخوان المسلمين وثورة يوليو، وقائدها الرئيس جمال عبدالناصر؟!! الاجابة بالطبع.. لا، فالحزب العربي الديموقراطي الناصري لا يمثل ثورة يوليو، ولا قائد الثورة.. هذا بالاضافة الى ان الموقف المعادي للثورة وقائدها من قبل جماعة الاخوان المسلمين مستمر الى الآن واعتقد انه سيستمر، فالخلاف على ثوابت العمل الوطني، والخلاف ايضاً على الاهداف والمنهج والأسلوب، فثورة يوليو وقائدها ارادا لمصر النهوض والتقدم والازدهار، وجماعة الاخوان المسلمين تريد لمصر العودة لعصور قديمة بعيدة عن التقدم، والدخول في دوامة من عدم الاستقرار والعنف.. ولهذا فالاختلاف سيستمر، فما يزال اقطاب الجماعة يروجون بين مريديهم افتراءات حول مثالب نظام ثورة يوليو، وانها كانت تهدف للقضاء على الاسلام، ويروجون لكل شيء يسيء للثورة وقائدها، حتى لو كانت مجرد اشاعات نابعة من اعداء مصر – وهم على علم بذلك – الا ان موقفهم من الرئيس جمال عبدالناصر قد اعمى بصيرتهم وأبصارهم عن ادراك حقائق الامور، وما قدمته ثورة يوليو وزعيمها لمصر وللأمة العربية، حتى انهم وصلوا بحقدهم الى اتهام الرئيس جمال عبدالناصر بالشيوعية والكفر، حتى ينقصوا من مكانة الرئيس جمال عبدالناصر عند الشعوب العربية والاسلامية، ولكن هيهات.. فقصة استغلالهم للدين، واللعب على وتر الشعور الديني للشعب المصري باتت عملية مكشوفة، وأفقدت الجماعة الجزء القليل الباقي من صدقيتهم، فالشعوب العربية والاسلامية تدرك ان الاسلام رسالة حق ايمانية تدعو الى العدل والمساواة والحرية، والقضاء على الظلم والفساد والاستغلال، وما كانت مبادىء عبدالناصر الا هذا، واعتبر ان الاسلام هو التعبير الايماني للقومية العربية.

اما علاقة الرئيس جمال عبدالناصر بالاخوان المسلمين فليس لها ادنى صلة بالاسلام كدين وحضارة، ولكنها كانت علاقة قوة، وصراعاً على السلطة منذ اليوم الاول الى الآن، غير ان جماعة الاخوان المسلمين استغلوا كل شيء من اجل تشويه الثورة وقائدها بما فيها استغلال الدين ظلماً وافتراء، وهذه عاداتهم، فهم على استعداد لفعل أي شيء والتحالف مع أي جهة مقابل الحصول على السلطة والمال. فمرشد الاخوان المسلمين الحالي الاستاذ مهدي عاكف اعلن ان الجماعة ليس لديها مانع من تأييد الرئيس مبارك لفترة ولاية خامسة ليكمل مدة الثلاثين عاماً في حكم المصريين، بشرط ان يعترف النظام الحاكم بجماعته – جماعة الاخوان المسلمين – وقد سبق هذه التصريحات بفترة قليلة تصريحات اخرى ممعنة في التـزلف والرياء السياسي، والانتهازية المعهودة دائماً من جماعته، وكان نصها انه هو وجماعته رجال الرئيس الاوفياء.. يا لها من بهلوانية سياسية واشياء اخرى، نحن نسأل بدورنا المرشد العام للاخوان.. يا ترى هل تبايعون على ارادة الشعب المصري مقابل اعتراف النظام الحاكم وسعيكم للوصول الى السلطة؟!.

اخيراً اذا كان هناك من فرصة في العمل السياسي بين الناصريين وتلك الجماعة.. فإن اللقاء مع تلك الجماعة يتطلب الاجابة الصريحة اولاً، والمعلنة ثانياً من المرشد العام لتلك الجماعة حول عدد من الاسئلة، والمتعلقة بموقفهم من القائد الخالد جمال عبدالناصر وثورته العظيمة كخطوة اولى:

هل كان الاعتداء على الرئيس جمال عبدالناصر في ميدان المنشية بالاسكندرية مسرحية من صنع النظام؟

هل كان الرئيس جمال عبدالناصر كافراً ومعادياً للاسلام؟ وهل سعى لهدم الاسلام، وإحلال الشيوعية؟

هل كان الرئيس جمال عبدالناصر طاغية، ومن يتمسك بمشروع النهضة الناصري من الطغاة؟

هل ارتكب الرئيس جمال عبدالناصر جرم تعذيب خصومه او اعدائه بمنهج تطبقه اسرائيل، او بأي منهج آخر خارج عن حدود القانون؟

هل اهدر الرئيس جمال عبدالناصر المال العام؟

هل كانت زعامة الرئيس جمال عبدالناصر في الوطن العربي زعامة شخصية زائفة؟

هل النعوت السفيهة التي اطلقتها الجماعة ضد الرئيس جمال عبدالناصر صحيحة؟

هل كان الرئيس جمال عبدالناصر وراء حريق القاهرة؟

هل كانت تظاهرات 9 و10 يونيو عام 1967 مدبرة من قبل النظام الناصري؟

هل تراجعت الجماعة عن تحالفها مع الثورة المضادة التي قادها السادات..؟

ان الاجابة على هذه الاسئلة اكاد ادركها مسبقاً، ولكني اطرحها لمن يدعون بالباطل انهم ورثة عبدالناصر، وفي الوقت نفسه يتعاونون مع تلك الجماعة بزعم انها غيرت من موقفها ازاء ثورة يوليو وقائدها.. اردت فقط ان اكشف كذب هؤلاء وهؤلاء امام البسطاء الواعين من ابناء الشعب المصري العظيم الحافظين الحقيقيين لتراث ومبادىء الرئيس جمال عبدالناصر، وتمتلىء قلوبهم بالحب له، وتؤمن بأن ذلك الرجل اخلص لوطنه وشعبه، واجتهد بقدر ما استطاع ان يحقق آمال الشعب في الحرية والكرامة والازدهار، ولكي لا ينخدعوا بحديث تجار السياسة.

كلمة اخيرة لهؤلاء من مدعي الحنكة بأمور السياسة.. ان الاخوان حالياً يعانون من الانحسار والانكشاف في عدد من الدول لأسباب لم تعد خافية على احد، وعلينا ان ندرك ان ما يقومون به من تقارب من عدد من الاحزاب والتيارات هي مسألة تكتيكية، وليست من ثوابت الجماعة او نابعة من تغيير حقيقي في استراتيجيتهم التي يتبنونها، فالمتتبع لأدبيات الجماعة منذ نشأتها يرى اقصاء غريباً للآخر ووصم فكرة التعددية، ومن يعتنقونها بمخالفة صحيح الاسلام الذين يعتبرون انفسهم الممثل الشرعي والوحيد له، وهم لذلك دخلوا في تحالفات سياسية انتهازية مع القصر الملكي ايام فاروق، ومن قبله فؤاد ضد حزب الوفد صاحب الاغلبية الشعبية قبل الثورة، وتحالفوا مع اسوأ رئيس وزراء وهو اسماعيل صدقي في عام 1946، وفي عام 1953 أيدوا ثورة يوليو في حل الاحزاب السياسية، وفي عام 1974 اعادوا إصدار مجلة (الدعوة) الشهرية وظلوا يكتبون فيها وفي مجلة (الاعتصام) ضد التعددية الحزبية التي اخذ بها السادات عام 1976، ولم يغيروا موقفهم منها الا بعد اعتقالات ايلول/سبتمبر 1981، اذ اعلنوا ايمانهم بها وشاركوا احزاب المعارضة في انشطتها واجتماعاتها.. الا ان ذلك لم يكن تغييراً استراتيجياً في فكرة الجماعة، بل كان مجرد مناورة سياسية تكتيكية قصدوها لمجرد تجنب ضربات النظام لهم، الا انهم في واقع الامر لا يؤمنون بمبدأ التعددية فهو يتناقض مع ما يدعونه من انهم الوحيدون وكلاء الله في الارض، او على الاقل ملائكة يعملون بالسياسة ولا يخطئون

إجرام جماعة الإخوان

مقدمة :
عندما نستعرض الأعمال الإرهابية التي مارستها جماعة الإخوان منذ نشأتها عام 1928 ولا تزال تمارسها حتى اليوم من قتل وتخريب وتدمير وسرقة أموال واستباحة جميع حرمات المصريين، لا بد أن نرجعها إلى الأساس العقائدي الذي زرعه حسن البنا مؤسس الجماعة، في عقول أتباعه، وتم تغذيته عبر 80 عامًا، وتأكيده ومحاولة تأصيله بدعاوى دينية باطلة ربما كان أخطرها ولا يزال أن هذه العمليات الإرهابية من قبل (الجهاد) ضد أعداء كافرين هم كل المصريين من غير أتباع الإخوان، ومن أجل استعادة دولة الخليفة الذي يكون مرشد الإخوان هو الخليفة فيها. لذلك لا يجب أن نستغرب أو تصيبنا الدهشة عندما نرى اليوم في اعتصامي رابعة والنهضة من الإخوان من قتل وتعذيب وسحل غيرهم من المصريين الذين صادف سوء حظهم وجودهم في هذه الأماكن، ناهيك بمظاهر الوحشية في قتل رجال شرطة كرداسة وغيرها وإطلاق ماء النار على جثثهم وسحلهم موتى في شوارع هذه المدينة وغيرها من المدن والقرى مثل (دلجا) في المنيا، و(الصف) في الجيزة.. وغيرها من المدن المصرية التي نكبت بوجود هذه الجماعة فيها. ومبعث عدم الدهشة والاستغراب أن حسن البنا ومن بعده سيد قطب وغيرهما من مرشدي الجماعة وأقطابها، أصَّلوا هذه الأفكار الهدامة في عقول تابعيهم على مدار العقود الثمانية الماضية، وأصبحت معتقدات راسخة في نفوسهم، كشفت عن نفسها بوضوح عندما تمكنت هذه الجماعة من حكم مصر في يوليو 2012 واستمرت لمدة عام، ثم استعرت حدة النزعة الدموية والوحشية المفرطة في نفوسهم عندما طردهم المصريون من الحكم وأزالوا نظامهم، وأسقطوا دولتهم الفاشية في 30 يونيو 2013، والإخوان في كل هذه الممارسات الهدامة إنما يستلهمون أقوال وإرشادات مؤسس جماعتهم حسن البنا ويتّبعونها عملًا بمبدأ السمع والطاعة لمن لا يخطئ ومنزَّه عن الهوى ورفعوه إلى مرتبة الرسل والأنبياء، وكذا من خلفه من مرشدي الجماعة وصولًا إلى محمد بديع الذي رسّخ في عقولهم فكرة هدامة وعدميَّة مفادها: إما حكم مصر.. وإما حرقها !!
سلوك حسن البنا.. صراع على الحكم، لا دعوة للهداية إلى الله
لقد اقتحم حسن البنا ميدان العمل السياسي معلنًا أن الإسلام “,”طاعة وحكم ومصحف وسيف“,”، وهو ما انعكس في شعار الجماعة “,”المصحف وسيفين وكلمة (وأعدوا)“,”. وهو ما دفع كثيرين إلى التساؤل حول مَن الذي سيستعمل السيف؟ وضد مَن سيجري الإعداد واستخدام السيف؟ وجاءت الإجابة سريعًا من ممارسات الجماعة تحت زعامة حسن البنا، والتي تمثلت في عمليات اغتيال متتالية ضد المسئولين في مصر من رجال حكم وأحزاب سياسية وشرطة وإعلام وكتّاب ومثقفين، وصولًا إلى محاولة الاغتيال الخسيسة لوزير الداخلية المصري في الشهر الماضي وما أعقبها من اغتيال كبار ضباط الشرطة .
ولعل سلوك البنا وجماعته، وحقيقته كدعوة للفتنة والصراع على الحكم لا دعوة للهداية تتبين من الآتي :
أ-اعترف قادة الإخوان في كتبهم ومذكراتهم بأنهم قد اكتشفوا أن أعضاء النظام الخاص يتم تدريبهم على إجادة استخدام السلاح والقنابل والمتفجرات، وأيضًا على اقتحام المباني والسجون، بما يتضمنه ذلك من أعمال إجرامية كرشوة الحراس وتخديرهم وتصنيع نسخ مقلدة من مفاتيح السجون والزنازين (راجع محاولة الإخوان اقتحام سجن مصر العمومي في نوفمبر 1948 في كتاب أحمد عادل كمال “,”النقط فوق الحروف ص179“,”).. ولأن هؤلاء الإخوان المدربين على الإرهاب كانوا يجهلون أبسط أمور دينهم، فقد صار الأمر مثارًا للاعتراض والسخرية، لذلك حاول حسن البنا معالجة هذا الأمر بسرعة، فكلّف الشيخ سيد سابق بوضع مذكرات لهم في الفقه تقنن لهم هذه الأعمال الإرهابية وتشرّعها باعتبارها (جهادًا في سبيل الله)، وهي المذكرات التي نقّحها الشيخ سيد سابق بعد ذلك وأصدرها في كتاب تحت اسم (فقه السنة) – راجع الكتاب السابق “,”نقط فوق الحروف“,” ص 300، وقد اعترف قادة الإخوان في كتبهم أيضًا بأن السلاح كان يستحوذ على كل اهتمام أعضاء النظام الخاص، ولو على حساب حرمة المصحف، فكانوا لا يتورّعون عن استخدام كلمة (المصحف) في الشفرة بينهم بمعنى المسدس أو الرشاش!! كما كانوا يخفون المسدسات داخل فجوات يصنعونها داخل المصاحف (كتاب “,”من قتل حسن البنا“,” محسن محمد ص 704 ).
كذلك اعترف قادة الإخوان بأن حسن البنا كان لا يتورّع عن الاستعانة بالبلطجية والخارجين على القانون في فرض دعوته وإرهاب المعارضين له، ويعترف بذلك د.محمود عساف أمين المعلومات بالجماعة في كتابه “,”مع الإمام الشهيد حسن البنا“,” ص60، حيث يذكر أن حسن البنا قد قرّب إليه (إبراهيم كروم)، الذي “,”عُرف بأنه فتوة السبتية والذي كان يفرض الإتاوات على المتاجر، وكان يقطع شارع السبتية راكبًا حصانًا أبيض وبيده النبوت الشهير وخلفه الأتباع راجلين“,”، وأوضح الكاتب أن إبراهيم كروم “,”فرض على أصحاب المتاجر التبرعات لجماعة الإخوان، فأعجب به حسن البنا وقرّبه وأخذ يستقبله في مقر إقامته، وتعلّق هو بالإمام وبدعوة الإخوان“,”.. وظل كذلك حتى انتهى به الأمر في معتقل الطور عام 1949 بعد مقتل حسن البنا (ص61 ).
ولعل ذلك يكشف حقيقة أن دعوة حسن البنا لم تكن دعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإنما كانت دعوة سياسية إرهابية تتستر بالدين وتفرض أفكارها وآراءها بالقوة، ولا تتورع عن الاستعانة بالبلطجية والخارجين على القانون لإرهاب المعارضين. فهل يختلف هذا المسلك من قبل حسن البنا عن مسلك خلفائه بعد ثورة 25 يناير 2011 -بديع والبلتاجي والعريان وعزت- الذين استعانوا بالبلطجية في البطش بمعارضي الجماعة، والسيطرة على صناديق الانتخابات، وحشد المعتصمين والمتظاهرين والإنفاق عليهم ببذخ لقطع الطرق والسكك الحديدية والمترو والكباري واقتحام أقسام الشرطة ومقرات الحكومة؟! إنه التأسّي بصنمهم المعبود حسن البنا .
ب- ولتنفيذ هذه الأعمال الإرهابية حرص حسن البنا على إنشاء جهاز سرّي خاص داخل جماعته، وكان أمر هذا الجهاز خافيًا عن الكثيرين من أعضاء الجماعة. وقد استند البنا في تبريره إنشاء هذا الجهاز بالزعم أنه ضد الإنجليز والصهاينة، ثم وسّع الدائرة ليقول إنه استهدف إرهاب أعداء الله، وتبقى المشكلة في تعريف مَن هم أعداء الله، فالإخوان يقررون أن أعداء الله هم تحديدًا أعداء الجماعة، وقد أوجز أحمد عادل كمال وهو من رجال هذا الجهاز السري، أهمية بل وحتمية وجود الجهاز السري في قوله بصراحة وبساطة “,”جماعة من غير جهاز سري مسلّح يحميها مجرد تهريج“,”. ويبرر حسن البنا تشكل هذا الجهاز بأن “,”الإخوان المسلمين يجب أن يكونوا أقوياء.. وسيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدى غيرها“,”. ولكي يكون (الأخ) مستعد للقيام بعمل إرهابي يتعيّن إخضاعه لفكرة الطاعة العمياء، بحيث يكون “,”الأخ بالنسبة إلى المرشد كالميت بين يدي مغسّله“,”، وبحيث يمكن اقتياده دون أي مقاومة إلى ما يريده المرشد العام، وفي ذلك يقول “,”للقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية، والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة، والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات، ثم يشبه حسن البنا نفسه بالرسول إذ يختم كلامه عن نفسه كقائد وعن علاقة أعضاء الجماعة به بالآية الكريمة: “,”فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما“,”. وبهذا الجهاز السري أحكم البنا قبضته على الجماعة حتى إن المفكر الباكستاني حسن النووي قال في ذلك “,”إذا عطس البنا في القاهرة قال له أتباعه في أسوان يرحمك الله“,”. وكما يفعل الحكام المتحكمون إذ يصطنعون أجهزة تصارع بعضها البعض لتوازن بعضها البعض، فيصبح التحكم أكثر إحكامًا، كذلك فعل حسن البنا، فقد أقام في مواجهة الجهاز السري الخاص بقيادة عبد الرحمن السندي، جهازًا آخر أطلق عليه “,”جهاز الوحدات“,” ليضم فيه رجال الجيش والشرطة من أعضاء الجماعة، وتولى مسئوليته صلاح شادي، وكان ضابط بوليس. وكان من نتيجة الصراع داخل الأجهزة الأمنية في الجماعة أن قام السندي في 20 نوفمبر 1953 بتدبير مؤامرة لاغتيال الرجل الثاني من الجهاز الخاص (سيد فايز) وذلك بطريقة دموية حقيرة ودنيئة، إذ أرسل له علبة حلوى مفخخة بالمتفجرات في ذكرى المولد النبوي الشريف، فأطاحت به وأفراد من عائلته. أما عن قيمة جهاز الوحدات، فقد اتضحت عندما قام مكتب الإرشاد في 22 نوفمبر 1953 يفصل أربعة من أكبر قادة الجهاز الخاص، منهم السندي، فأرسل الأخير مجموعة من رجاله إلى منزل المرشد المستشار الهضيبي لإجباره على الاستقالة، ومجموعة أخرى لاحتلال المركز العام للجماعة وإعلان صالح العشماوي مرشدًا عامًّا .
مسئولية حسن البنا عن جرائم القتل والتخريب
تؤكد جميع الكتب والمذكرات الصادرة عن قادة الإخوان، وتؤرّخ لفترة رئاسة حسن البنا لجماعة الإخوان، مسئوليته الشخصية عن جميع جرائم القتل والتخريب التي تمت في عهده، وأنها كانت ليست فقط بعلمه ولكن بأوامر شخصية منه وبهدف واحد تمثل في قلب نظام الحكم القائم، ومقاومة كل من يعترض طريق الجماعة لتحقيق هذا الهدف وذلك باستخدام سافر للسلاح بكل أنواعه وبواسطة أعضاء تنظيمه الخاص والوحدات والذين بلغت أعدادهم نحو 13 ألف مقاتل ثم تدريبهم جيدًا في مناطق مختلفة من أرض مصر، وتحت ستار قتال اليهود في فلسطين .
وعن استغلال حسن البنا حرب فلسطين التي وقعت في النصف الأول من عام 1948 كغطاء لتسليح وتدريب عناصر النظام السري لتحقيق هدفه الرئيس وهو قلب نظام الحكم القائم في مصر آنذاك، وذلك في منطقة جبل المقطم من خلال سلسلة عمليات إرهابية قُتل فيها بالفعل الكثير من المصريين وأشاعت الذعر والإرهاب والفوضى وانعدام الاستقرار في مصر. ولقد حاول المرشد السابق عمر التلمساني إخفاء هذه الحقيقة في كتابه (ذكريات لا مذكرات ص 36)، حيث قال “,”لم يكن إنشاء النظام السري من أجل قلب نظام الحكم في مصر وقتل الوزراء، ولكن قام بالرأي الثاقب وحسن البصيرة للإمام حسن البنا من أجل التصدّي لإسرائيل“,”. ولم يذكر لنا التلمساني ما علاقة التصدي لإسرائيل بقيام الإخوان بقتل رئيس الوزراء أحمد ماهر في عام 1945 قبل الحرب في فلسطين بثلاثة أعوام؟ أو باغتيال رئيس الوزراء فهمي النقراشي باشا في عام 1948؟ أو باغتيال المستشار أحمد الخازندار في عام 1948؟ بل إن عمليات القتل والتخريب داخل المدن المصرية سبقت حرب فلسطين بست سنوات في عام 1942 بمنطقة الجمرك في إسكندرية، وفي 6 يونيو عام 1946 ببورسعيد وفي 10 ديسمبر 1946 في الإسماعيلية، وضد قسم شرطة الخليفة بالقاهرة في 29 يونيو 1947، وفي 17 فبراير 1948 ضد خصوم للجماعة في ميت غمر، وفي عام 1947 ضد فندق الملك جورج بالاسماعيلية، وفي 22 أكتوبر 1948 تم ضبط صناديق أسلحة وذخيرة في سراديب بمنزل عضو مكتب الإرشاد، الشيخ فرغلي بالإسماعيلية، وفي 25 مايو 1947 جرى اعتداء بأسلحة بيضاء من عناصر إخوانية على معارضين لهم في دمنهور، نفس الأمر في 3 فبراير 1948 ضد تلاميذ معارضين للجماعة في إحدى مدارس الزقازيق وإلقاء قنبلة على قسم للشرطة. وفي 24 يناير 1948 تكرر اعتداء عناصر من الإخوان على معارضين لهم في شبين الكوم أدّى إلى حادثة قتل. وفي 4 ديسمبر 1948 ألقى طلاب الجماعة في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) قنابل على رجال الشرطة وإطلاق الرصاص عليهم وإشعال حرائق في مبنى كلية الطب، وفي 6 ديسمبر 1948 قام الإخوان في مدرسة الخديوية بإلقاء قنابل على رجال الشرطة.. وغير ذلك الكثير من الجرائم الإرهابية التي ارتكبت داخل المدن المصرية بتعليمات مباشرة من حسن البنا، وهو ما اعترف به العديد من قادة الإخوان الذين كذّبوا زعم التلمساني، وأكدوا حقيقة أن تدريب أعضاء التنظيم الخاص في منطقة المقطم على استخدام السلاح والمتفجرات لم يكن من أجل المشاركة في حرب فلسطين، وإنما من أجل تنفيذ عمليات إرهابية في مصر، وأن قادة الإخوان كانوا قد اتفقوا مع الشيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين -وكان من الإخوان- على أن يشهد زورًا أمام المحاكم في حالة القبض على الإخوان بأنهم كانوا يتدربون من أجل التطوع في فلسطين وأن السلاح الذي يضبط معهم يخص تحرير فلسطين، وقد حدث ذلك فعلًا عندما تم ضبط مجموعة من الإخوان ومعهم أسلحة وذخائر يتدربون في المقطم في 19 يناير 1948، حيث شهد الشيخ أمين الحسيني لصالحهم فتم الإفراج عنهم (كتاب النقط فوق الحروف ص151 مصدر سابق ).
أما أخطر الجرائم الإرهابية من اغتيالات وأعمال تخريب التي تم تنفيذها بأوامر مباشرة من حسن البنا، فتتمثل في الآتي :
1- مقتل رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا في 24 فبراير 1954 في قاعة البرلمان انتقامًا منه لإسقاط حسن البنا في الانتخابات .
2- مقتل المستشار أحمد الخازندار في 22 مارس 1948 لأحكام أصدرها ضد عناصر إخوانية على جرائم ارتكبوها في الإسكندرية، ولإرهاب القضاة حتى لا يصدروا أحكامًا مماثلة ضد الإخوان. وقد حاول البنا التبرؤ من هذه الجريمة، ولكن رئيس النظام السري الخاص (السندي) اعترف عليه أمام مكتب الإرشاد، وأنه أعطى الأمر بذلك إلا أن حسن البنا أفتى بعد ذلك بدفعة الدية لأهل الخازندار، ولكن لأن الحكومة قامت بذلك، فلا داعي أن تقوم الجماعة بدفع الدية !!
3- تفجير قنابل في جميع أقسام الشرطة في القاهرة وفي وقت واحد يوم 3 ديسمبر 1946 .
4- تفجير شركة الإعلانات الشرقية في وسط القاهرة في 12 نوفمبر 1948، وهو ما نجم عنه هدم وتخريب في المباني ومقتل بعض الأهالي ورجال الشرطة وجرح عدد غير قليل من الأشخاص .
5- مقتل اللواء سليم زكي حكمدار شرطة القاهرة في 4 ديسمبر 1948 .
6- مقتل رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا في 28 ديسمبر 1948 ردًّا على قراره بحل جماعة الإخوان، بسبب ما كشفته حادثة السيارة الجيب في 15 نوفمبر 1948 التي ضبطت عندما قامت عناصر من الجماعة بنقل أوراق خاصة بالنظام الخاص السري كشفت عن مخططات لعمليات اغتيال وتخريب في المدن المصرية وخطة لمهاجمة البنك الأهلي وفروعه للاستيلاء على أمواله، وأسلحة ومتفجرات كانت تنقل إلى السيارة الجيب من إحدى شقق الإخوان بحي المحمدي إلى شقة أخرى بالعباسية، وبذلك انكشفت حقيقة النظام السري للجماعة، ولم يكن أمام النقراشي سوى حل الجماعة واعتقال أعضائها وتأميم ممتلكاتها، الأمر الذي ردَّت عليه الجماعة بتكليف أحد عناصرها بارتداء زي ضابط شرطة وقتل النقراشي في وزارة الداخلية .
7- تفجير نيابة محكمة الاستئناف في 12 يناير 1949 لمحاولة حرق وإتلاف أحراز قضايا الإخوان المحفوظة فيها .
ويمكننا من هذه الحادثة أن نعرف حجم الخداع والنفاق والتضليل الذي اتسمت به أخلاقيات وسلوكيات حسن البنا، عندما نقرأ بيان البنا الذي أدان فيه هذه الحادثة، ووصفه لمدبريها بأنهم صغار النفوس وأنهم “,”ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين“,”، وهو البيان الذي أثار الإخوان في السجون وهاجموا البنا لخيانته لهم رغم أن العملية تمت بأوامر مباشرة منه .
8- محاولة قتل إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس الوزراء الذي جاء خلفًا للنقراشي باشا، وقام باعتقال الآلاف من الإخوان لذلك قررّوا التخلص منه بإطلاق النار على موكبه في أثناء توجهه إلى رئاسة الوزراء، ولكنهم أخطأوا في التعرف على موكبه فأطلقوا النار على موكب حامد جودة أحد الوزراء، ولكنه نجا .
وقد شرّع حسن البنا لاتباعه ارتكاب جرائم القتل والتخريب باعتبارها فرائض دينية تفرضها الشريعة الإسلامية، وهو ما اعترف به محمود الصباغ أحد قادة النظام السري الخاص في كتابه (حقيقة النظام الخاص) حيث كشف عن المبادئ التي أرساها حسن البنا لهذا النظام وحكمت سلوكياته الإرهابية، وأبرزها: يجوز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصر على العداء والتحريض على حرب المسلمين، ويجوز اغتيال من أعان على قتال المسلمين سواء بيده أو بماله أو بلسانه، ويجوز التجسس على أهل الحرب، ويجوز إيهام القول للمصلحة.. ولقد تبدو هذه الكلمات بريئة، لكن الخطورة تأتي إذا عرفنا ماذا يعني بالمسلمين وماذا يعني بالمشركين، فالمسلمون عنده هم جماعة الإخوان فقط أما المشرك فهو مَن يعارضها. ومن هنا تبرز حتمية رفض قيام أحزاب سياسية على أساس ديني، لأن الحزب الديني سواء إخوانيًّا أو سلفيًّا – يعتبر نفسه صاحب الموقف الإسلامي الصحيح، وأن قادته هم أهل الحل والعقد، وأن من والاهم قد والى صحيح الدين، ومَن عارضهم فقد عارض صحيح الدين، ومن يعارض صحيح الدين كافر، وأيضًا من أعانه ضد الجماعة كافر، والكافر في نظر الإخوان حلال الدم والمال والعرض .
جهاد الإخوان الحقيقي ضد الأنظمة الحاكمة، وضد بعضهم البعض .
وإذا استعرضنا مذكرات قادة الإخوان القدامى، فإننا سنفاجأ بأمر غريب يجمعهم جميعًا رغم النزاعات الشديدة التي كانت بينهم، وهو أنهم يتباهون بالقتل والإجرام عندما يتقاعدون. وإذا كانت الجماعة اليوم تواصل الكذب والادِّعاء بأنها لم تفعل هذا الفعل الإرهابي أو ذاك، لكن الإخوان في مذكراتهم يفضحون أنفسهم بأنفسهم، عندما ينشرون مذكراتهم متباهين بجرائمهم. فقد اعترفوا صراحة في هذه المذكرات أنهم كانوا يستهدفون القتل ونشر الرعب في مصر وترويع وإرهاب كل مَن يتصدّى لدعوتهم، وأن سلاحهم كان موجهًا إلى المسلمين من أهل مصر لا إلى اليهود في فلسطين، ولا إلى المحتلين الإنجليزي في مصر، فها هو القيادي الإخواني صلاح شادي أحد المسئولين عن الجهاز السري الخاص في عهد البنا يكشف عن حقيقة مهمة هذا الجهاز لمواجهة الحكام، فيقول: “,”النظام الخاص هو نفسه الذي أبقاه قادة الجماعة ليدفعوا به طغيان عبد الناصر“,”. وهكذا يقرر صلاح شادي صراحة أن من حق الجماعة إذا اختلفت مع الحاكم ومارس ضدها ما يطلقون عليه “,”طغيانًا“,” أن تواجهه بالسلاح وهو المنهج الذي مارسوه في عهد عبد الناصر وما بعده في عهدي السادات ومبارك وحتى اليوم .
والمثير للدهشة في هذا الأمر أن الجهاز السري الخاص الذي زعم حسن البنا وما زال الإخوان يزعمون أنه أسس لمحاربة الاستعمار، قد تغيّب تمامًا عن معارك الكفاح المسلح ضد الإنجليز في منطقة القناة عام 1951، وقد تنصل المرشد العام حسن الهضيبي الذي خلف البنا في حديث له نشرته المصري في 3 يناير 1952 ونقله المؤرخ الإخواني محمود عبد الحليم في كتابه، من أي مشاركة في هذه المعارك، فقال: “,”كثر تساؤل الناس عن موقف الإخوان المسلمين في الظروف الحاضرة، كأن شباب مصر كله قد نفر إلى محاربة الإنجليز في القناة، ولم يتخلف إلا الإخوان.. ولا يزال بين ما فرضه الله عليهم من الكفاح وبين الواقع أمد بعيد والأمور إلى أوقاتها“,”. أما جهاد الإخوان الحقيقي فقد كان ضد الحاكم عبد الناصر آنذاك وليس ضد الإنجليز أو اليهود، وفي ذلك نجد محمود عبد الحليم في المجلد الثالث من كتابه “,”الإخوان المسلمون – أحداث صنعت التاريخ – رؤية من الداخل“,” المجلد الثالث، يخصص الفترة من 1952 وحتى 1971 أساسًا لتصفية الحساب مع عبد الناصر، وأيضًا لتصيفة الحسابات الإخوانية – الإخوانية، خصوصًا تصفية الحسابات مع مجموعة عبد الرحمن السندي قائد النظام السري، ويكشف عن حجم الصراعات الداخلية بين قادة الإخوان في عهد البنا وبعده، فنجده يصف هذه الفترة، قائلًا “,”ويعلم الله كم عانيت في إعداد هذا الجزء من مشقة نفسية وآلام تلذع القلب وتدميه، فأنا أكتب عن فترة كانت حالكة الظلام، والأشخاص خلالها يتحركون فيتخبط بعضهم في بعض، فربما أقبل أحدهم على آخر معانقًا وهو يظن أنه إنما يعانق صديقًا ولا يتبين إلا أخيرًا أنه إنما عانق العدو“,”. ونمضي معه وهو يحكي عن مرارة العلاقات بين الإخوان وبعضهم البعض، وكيف تصارعوا صراعًا حادًّا وعنيفًا، ونستمع إليه وهو يصف العلاقات بين من وصفهم حسن البنا “,”رهبان الليل وفرسان النهار“,”، فيقول “,”إنها لم تكن عاصفة كسابقتها، إنما كانت هذه المرة دوامة هائجة اخترقوا بها قلب الإخوان المسلمين في مهجته، فعميت من غبارها العيون، وداخت من دورانها الرؤوس، وذهلت بمفاجأتها العقول“,”. وهكذا نجد قادة الإخوان الأوائل في مذكراتهم يتبادلون الاتهامات والاتهامات المضادة، والأكاذيب والأكاذيب المضادة، وبما يعكس صراعًا شرسًا مليئًا بالشتائم الأبعد ما تكون عن آداب وأخلاقيات الإسلام الذي يتشدقون برفع رايته، بل إن الأمر لم يقتصر على تبادل الاتهامات والأكاذيب والشتائم، بل تعدّى إلى تدبير اغتيالات بعضهم البعض والقتل بأساليب رخيصة ودنيئة وخسيسة، ربما أبرزها اغتيال سيد فايز قائد جهاز سري بصندوق حلويات مفخخ بالمتفجرات .
والحقيقة أن جماعة الإخوان كانت تعتبر ولا تزال إلى اليوم أن الجهاز السري الخاص الذي أنشأه حسن البنا ورعاه طبقة مميزة داخل صفوفها، وكان أعضاؤه يتيهون على الجميع بحالة من الاستعلاء والاستقواء بوضعهم وجهازهم، ووصل الأمر إلى أن أحد الذين هاجموا بيت المرشد حسن الهضيبي محاولين إرغامه على الاستقالة قال للمرشد بعنف شديد: “,”لقد حضرنا لأننا تعبنا منك، لأنك لا تعرف كيف تقود الجماعة، ونحن لم نرَ منك خيرًا، وقد حضرنا لنطالبك بالاستقالة“,”. أما المرشد الذي صعق من هذا الهجوم فقد سأله “,”الأخ اسمه إيه؟“,” فأجاب في تعالٍ على مرشده “,”اسمي محمد حلمي فرغل من إخوان تحت الأرض“,”، ولا يخفي على أحد أن تسميته “,”تحت الأرض“,” هي التسمية المثلى للجهاز الإرهابي. ويعترف محمود عبد الحليم في كتابه بأن رجال الجهاز السري الخاص “,”يقتلون بعضهم البعض بوحشية.. ومهما بلغت الخصومة بين الإخوان فإنها ينبغي أن لا تصل إلى استحلال حرمة البيوت، فقد كان الإخوان يرون في ذلك خِسَّة ونذالة يربؤون بأنفسهم عنها، لكن مؤامرة السندي استحلت حرمة البيوت فاقتحمت على المرشد بيته، واستحلت دم أخ مخالف لهم في الرأي“,”. وهكذا تتأكد المقولة المأثورة “,”من يربي الثعابين السامة تلدغه“,”، ولكن عملية اللدغ هنا كانت متبادلة، ومن يطالع كتب مذكرات قادة الإخوان يمكنه أن يكتشف بسهولة أن الأخلاقيات الإخوانية التي زرعها حسن البنا في نفوس أتباعه كانت تفتقد تمامًا إلى خُلق الإسلام وآدابه، وأن ألفاظًا نابية واتهامات جارحة قد جرى تبادلها بشكل غير أخلاقي. ولعل حسن البنا -وهو الأدرى بأخلاقيات أتباعه الذين ربّاهم- كان صادقًا عندما قال “,”إنى والله لا أخشى عليكم حديدًا أو نارًا، ولا أخشى عليكم مالًا أو نساءً.. بل أخشى عليكم أنفسكم فلا تختلفوا“,”، لكن الإخوان رغم أنهم لم يكونوا قد أفاقوا من هول الاعتقال بعد مقتل حسن البنا حتى تصارعوا بشراسة على موقع السلطة الأبرز في الجماعة.. وهو موقع المرشد العام.. بل إن الصراعات حول هذا الموقع قد نشبت شرسة ودم حسن البنا لم يجف بعد وهم ما زالوا في السجون والمعتقلات .
حسن البنا يشرع القتل غيلة
تؤكد ممارسات الإخوان الإرهابية في أثناء فترة حكم مرشدها الأول حسن البنا وما بعدها وحتى اليوم أنهم اعتادوا الكذب في ما يتعلق بموضوع علاقتهم بالإرهاب، وأنهم يستندون إلى حجة فقهية غريبة ومريبة شرعها لهم البنا، تقول بأن “,”قتل أعداء الله غيلة هو من شرائع الإسلام، ومن خدع الحرب فيها أن يُسب المجاهد المسلمين، وأن يضلل عدو الله بكلام حتى يتمكن منه فيقتله“,”، كما أفتى البنا أيضا “,”يجوز إيهام القول (أي الكذب) للمصلحة “,”.
والدليل على ذلك أن البنا نفسه اتبع هو أيضًا ذات المنهج، حيث تجنب الصدق وقال عكسه عامدًا متعمدًا. حيث حاول التنصل من الأعمال الإرهابية التي ارتكبتها جماعته بأوامر منه وذلك على طريقة “,”من خدع الحرب أن يضلل المسلم عدو الله بالكلام حتى يتمكن منه فيقتله“,”. وبالطبع يدخل في إطار تصنيف البنا لـ“,”عدو الله كل من هم ليسوا من الإخوان حتى إن كانوا من أكثر المسلمين إسلامًا وإيمانًا وإحسانًا. ولكن لم يدرك البنا حين قال ذلك أنه سيأتي في زمن لاحق بعض من رجاله ليكشفوا الحقيقة فيضعوه وبعد رحيله بسنوات عديدة في مأزق الاتهام بالكذب الفاضح يتضح ذلك في كذب حسن البنا عندما أنكر أن أحداث إلقاء قنابل ضد أقسام الشرطة في 24 ديسمبر 1946، وتم ضبط مرتكبيها من الإخوان وإدانتهم، ثم يأتي بعد ذلك أحد مؤسسي الجهاز السري الخاص -أحمد عادل كمال- لينكر مسئولية الجماعة ومرشدها عن هذه الأعمال الإرهابية. نفس الإنكار والكذب تكرر من جانب حسن البنا عن مسئوليته وجماعته عن محاولة نسف فندق الملك جورج بالإسماعيلية، ثم يأتي بعد ذلك بسنوات صلاح شادي أحد قادة الجماعة ليكشف حقيقة مسئولية الجهاز الخاص عن هذا المخطط، وبإشراف حسن البنا شخصيًّا. ثم يبرر البنا ضبط عدد من الإخوان يتدربون على أعمال قتل ونسف وتخريب في المقطم بدعوى أنها استعدادًا للاشتراك في حرب فلسطين في حين يؤكد أحمد عادل كمال في مذكراته أن موضوع التدريب للتطوع في حرب فلسطين كان غطاءً للتدريب على تنفيذ مخطط إسقاط نظام الحكم بالقوة.. ويبدو الكذب واضحًا في أقوال حسن البنا في ما يتعلق بحادثة اغتيال القاضي أحمد الخازندار، إذ يقول البنا “,”وكل ذنب الإخوان فيه أن أحد المتهمين شاع أنه سكرتير المرشد العام“,”، ولكن محمود الصباغ يكشف النقاب بعد ذلك عن أن البنا رأس لجنة تحقيق إخوانية أقرّت بمسئولية الجهاز السري عن القتل، وأن ذلك بموافقة البنا شخصيًّا .
وحتى بعد مقتل حسن البنا نجد الإخوان مستمرين في سياسة الكذب، فهم دائمًا يرتكبون الجرائم ثم يحاولون التنصل منها، مثل محاولة اغتيال عبد الناصر عام 1954 في ميدان المنشية، حيث ينفون مشاركتهم في هذه المحاولة ويعتبرونها خدعة ناصرية ومن اختراع خبير أمريكي!! ورغم اعتراف عبد اللطيف مرتكب الجريمة بأنه من الإخوان وأن مسئولي الجهاز السري إبراهيم الطيب وهنداوي دوير هما اللذان أعطياه المسدس والتكليف باغتيال عبد الناصر، إلا أن الإخوان لا يزالون يتنصلون من المسئولية، ولكن يأتي اللواء حسن أبو باشا، ليقرر أن قيادات الإخوان وعلى رأسهم المرشد العام قد اخفتوا فجأة قبل حادثة الاغتيال، وأنه عندما قام بتفتيش منزل أحد أعضاء الجهاز السري الخاص، وجد خطابًا “,”يذخر بقرارات المرشد السرية التي اتخذت في المؤتمر العاشر للجماعة والتي من بينها أن الجماعة يجب أن لا تسعى للقيام بأي عمل انقلابي إلا بعد أن تتحقق لها قاعدة قوية في الجيش والشرطة، وأن أي عمل سيقوم به الإخوان الآن لن تكون له نتيجة إلا بحورًا من الدماء يغرق فيها الإخوان“,” كما كشفت الأوراق عن وجود خطة أخرى صنعها الجهاز السري وصدق عليها المرشد العام تقضي باقتحام مجلس الوزراء واحتلاله والقيام بانقلاب، وخطة بديلة ثالثة تستهدف اغتيال مجلس قيادة الثورة بأجمعه .
ويقول الباحث الأمريكي ريتشارد ميتشل في كتابه (تاريخ جماعة الإخوان المسلمين): “,”ترجع قدرة البنا في إقامة التنظيم الحديدي إلى دراسته المتعمقة في تاريخ الحركات السرية التي نشأت في الدولة الإسلامية في عهود بني أمية وما تلاها، والتي ميزت نشاط الفرق الإسلامية المتعددة، خصوصًا الشيعة. حيث يورد ميتشل فقرات من قانون (التكوين) الذي تأسس الجهاز الإرهابي على أساسه وجاء فيه على لسان حسن البنا: “,”إن من أنواع الجنود من يجب أن يكونوا بعيدين عن النشاط الظاهري، وأن هذا النوع يجري تدريبه في حرص تام ولا يستخدم إلا في وقت الحروب العلنية“,”، وكان البنا يحذّر أتباعه من البوح بأي معلومات عن الجهاز قائلًا “,”خليِّنا زي الميَّة تحت التبن“,”. وتقوم الفكرة الأساسية للجهاز السري الخاص على أساس الطاعة المطلقة. ومن أقوال البنا حسن البنا أيضًا التي يشرع فيها القتل، تلك الأوراق التي ضبطت في حادثة العربة الجيب السابق الإشارة إليها: “,”أن القتل الذي يعد جريمة في الأحوال العادية يفقد صفته هذه ويصبح فرضًا واجبًا على الإنسان إذا استعمل كوسيلة لتأمين الدعوة“,”. ونقرأ أيضًا في نفس الأوراق ما يبرر به حسن البنا ارتكاب جرائم القتل، فيقول “,”إن الكلام لم يجد شيئًا، وكان لا بد أن نجيبهم بطريقة لا تخيب أبدًا، وهي الطريقة التي بممارستها سيتم لنا النصر، ألا وهي القوة، هكذا نجحت الثورات ونفذت الانقلابات، سنسعى جاهدين في ميداننا ونزيح من الطريق من يعترض طريقنا ويثنينا عن غايتنا“,”. ورغم البشاعة التي تتضمنها هذه الأوراق، والمعلومات التي توحي بأنهم كانوا يعدون لمجزرة حقيقية، نجد أحدهم وهو يتباهى بما احتوته هذه الأوراق قائلًا “,”إنها مفخرة يحس بها من يقرأها اليوم“,” (كتاب اللواء فؤاد علام – الإخوان وأنا) ولعل هذا الإصرار على الإرهاب المتوحش من جانب حسن البنا هو الذي دفع بعضًا من الإخوان -وبعد فوات الأوان- إلى إدانة الجهاز الخاص، فيقول فريد عبد الخالق وهو أحد القادة السابقين للجماعة “,”إن الفكرة خاطئة من أساسها، لأن الجناح العسكري ما أن شعر بقوته حتى بدأ يطغي على الجناح المدني، وحاول أن يفرض رأيه بالقوة، وهذا خطأ أي جماعة بها جهاز سري عسكري “,”.
هدف البنا ضرب مصر، وشغلها عن مواجهة إسرائيل
ولأن مصر كما وصفها حسن البنا بأنها القلب النابض للعالم الإسلامي – ولأن اليهود كانوا يعدون العدة منذ أربعينيات القرن الماضي للاستيلاء على فلسطين والقدس بصفة خاصة لجعلها عاصمة الدولة الإسرائيلية التي أعلنوها في 15 مايو 1948، فقد كان من الطبيعي أن يقوموا بضرب قلب العالم الإسلامي النابض في مصر ليسهل عليهم تنفيذ مخططاتهم في فسطين. وبالفعل تحرك حسن البنا -اليهودي الأصل والماسوني الهوية كما أثبتنا ذلك في الحلقة الأولى من هذا المسلسل- عن طريق التنظيم الخاص في عامي 1947 و1948 للقيام بسلسلة تفجيرات وقتل وإرهاب لنشر الفوضى والاضطرابات في ربوع مصر -على النحو الذي يقوم به الإخوان اليوم في عام 2013- لتشتيت جهود المصريين وتمزيقهم وإضعافهم وإلهائهم عن القيام بالدور التاريخي المنوط بهم في الدفاع عن المقدسات الإسلامية في القدس على النحو الذي قاموا به في معركة حطين 1897 وبها تم استعادة القدس من الصليبيين، ومعركة عين جالوت 1250 ضد التتار، ومعركة المنصورة عام 1285 ضد الجيش الفرنسي .
ولقد اعترف بعض قادة الإخوان في كتبهم ومذكراتهم بحقيقة ما حدث مع شباب الإخوان الذين تطوعوا لمحاربة اليهود في حرب فلسطين 1948، وأنهم فوجئوا بأن الشيخ محمد فرغلي (عضو مكتب الإرشاد) المسئول عنهم، أن تعليمات المرشد حسن البنا تأمرهم بالتوقف عن الهجمات ضد اليهود بدعوى أن هناك مؤامرة لتصفية المجاهدين (كتاب التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين لعلي العشماوي ص95 ).
الإخوان يزعمون أن الاغتيالات السياسية فريضة دينية
من أبشع وأسوأ الدروس التي رسخها حسن البنا في عقول ونفوس أتباعه أن الاغتيالات السياسية سُنّة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول -حاشا لله- كان يرسل السرايا الخاصة لاغتيال أعداء المسلمين داخل بيوتهم، فنجد أحد قادة التنظيم السري الخاص -محمود الصباغ- يصف في كتابه (حقيقة التنظيم الخاص) ص 429 مهام الاغتيالات السياسية التي كان يكلف بها حسن البنا التنظيم السري بأنها (سرايا للجهاد). فكان يطلق على جريمة اغتيال النقراشي اسم (سرية قتل النقراشي باشا)، ويطلق على محاولة اغتيال إبراهيم عبد الهادي اسم (سرية محاولة قتل إبراهيم عبد الهادي) ص 450، وذلك تشبيه لها بالسرايا التي كان الرسول يرسلها في الفتوحات الإسلامية!! ثم يزعم في كتابه أن قتل النقراشي باشا كان “,”فريضة دينية وفرض عين على كل مسلم ومسلمة لاستمراره في التصدي للإخوان المسلمين“,” ص 312/314!! ثم يستطرد قائلًا “,”إن أعظم دور قام به الإخوان المسلمون في مصر هو الاغتيالات السياسية، وإن القاتل فيها مجاهد فدائي في سبيل الله“,” ص34 .
ولقد تحول أتباع حسن البنا من قادة الجهاز السري الخاص، ومن خلفهم من بعد مضي اليوم، إلى وحوش آدمية تستهين بالقتل وتستهويه وتتعطش للدماء وتستعذ بها، بل وتسخر حتى من المشاعر الإنسانية لأهل الضحايا، ويكفي أن تتوقف أمام مشاعر القيادي الإخواني أحمد عادل كمال عضو هذا الجهاز الإرهابي وهو يسخر من أنّات وآهات وصراخ زوجة المستشار الخازندار وهي تراه يسقط أمام أعينها قتيلًا برصاص الإرهابيين من الإخوان (ص174)، كما يسخر من النقراشي باشا وهو يسقط برصاص قاتله، فيصفه بما توصف به البهائم عند ذبحها (ص223)، ويسخر منه أيضًا محمود الصباغ في كتابه (حقيقة التنظيم الخاص)، ويهدد كل مَن يفكّر مثله في معارضة الإخوان بنفس المصير.. فيقول في ص 82 “,”إن النقراشي هو الذي قتل نفسه حين تجرأ وقام بتوقيع قرار حل الإخوان المسلمين “,”!!
كما تتأكد استهانة الإخوان بحرمة أموال المسلمين وثرواتهم ومصادر أرزاقهم حين تقرأ اعترافات علي عشماوي في مذكراته عن المؤامرة التي كانوا يعدون لتنفيذها عام 1965 عند القبض عليهم، فلقد كانوا يعدون لنسف المنشآت الاستراتيجية المهمة والمؤثرة بالدولة.. مثل مبنى الإذاعة والتليفزيون ومحطات الكهرباء والقناطر الخيرية، لأن ذلك “,”سيحقق الإظلام التام في القاهرة“,” ص219، أما نسف القناطر الخيرية فقد اعترض عليه البعض، لأنه سيعرّض الآلاف للموت غرقًا وتدمير البلاد وثرواتها .
وقد اعترف قادة النظام الخاص بأنهم أول من ابتكروا الوسائل والأساليب الحديثة للقتل الجماعي العشوائي، والتدمير الواسع بين المدنيين والمنشآت المهمة، وفي ذلك يقول علي عشماوي في كتابه ص64 “,”إن الإخوان المسلمين هم أول من ابتكر الحزام الناسف عام 1954 والذي يرتديه القاتل ليتحول إلى قنبلة بشرية“,”. كما قال عن السيارات المفخخة التي تستخدمها المنظمات الإرهابية في عملياتها على نطاق واسع في العديد من الدول العربية والإسلامية إنها “,”ابتكار الإخوان المسلمين، وأن أول من استخدمها هو صلاح شادي عضو النظام السري الخاص للإخوان المسلمين عام 1948 في عمليتين بتاريخ 5/6/1948، 19/7/1948 بتفجير عربة محملة بالمتفجرات داخل حي سكني حيث قتلت عشوائيًّا من قتلت من السكان والمارة“,”!! ويفتخر أحمد عادل كمال بذلك الاختراع الإرهابي فيقول في ص64 من كتابه “,”إن الرأي العام يدرك أن الإخوان هم أصحاب هذا النوع من العمليات على هذا المستوى“,” ثم يضيف معترفًا في ص62 “,”إن جماعة الإخوان المسلمين هي المسئولة عن أعمال العنف باسم الدين التي انتشرت في العالم الإسلامي بجميع صوره وأشكاله.. وإن جماعات الإرهاب التي خرجت من عباءة الإخوان المسلمين فكرًا واعتقادًا بعد أن تعلمت استخدام القنابل البشرية والسيارات المفخخة لتنشر العنف باسم الدين في كل البلدان الإسلامية وبلاد العالم “,”.
نهاية البنا من جنس عمله ..
وبعد أن قامت سلطات الدولة باعتقال العديد من قادة الإخوان في الصف الأول والثاني، وانهار الكثيرون منهم مدلين باعترافات كاملة، كان أخطرها تطوعهم بإدانة فكرة الجهاز السري الخاص وتكفير القائمين عليه، أصبح حسن البنا يعاني أكثر ما يعاني من حريته المفروضة عليه، وطالب المسئولين أكثر من مرة أن يضعوه في المعتقل، ولكنهم رفضوا، فقد اختمرت لديهم فكرة تصفيته سياسيًّا أولًا، وبعدها يصفّى جسديًّا .
ويصف د.رفعت السعيد في كتابه (حسن البنا – الشيخ المسلم) ص282 حال البنا في هذه المرحلة فيقول “,”وفي حريته كان الشيخ أكثر عذابًا من أتباعه المسجونين، فقد تركوه محاصرًا، عاجزًا، ضعيفًا، لقد انفرط عقد الجماعة والجهاز السري فقطعت خيوطه، والبناء الشامخ ينهار، و(رهبان الليل وفرسان النهار) يتساقطون تحت آلة التعذيب ليدلوا باعترافات كاملة تجر إلى الزنازين المزيد والمزيد من الإخوان، أما هو فقد حاصروا بيته واعتقلوا كل مَن يقترب منه، وصادروا سيارته.. وسحبوا خط تليفون منزله، والشيخ الذي كان ملء السمع والبصر أصبح يستجدي مقابلة مع رئيس الوزراء مقدمًا كل ما يستطيع من تنازلات، ويأبى رئيس الوزراء أن يقابله.. ووضع كهذا بالنسبة إلى رجل كحسن البنا هو قمة المأساة “,”.
وفي إطار هذه المأساة التي كان يمر بها حسن البنا كتب آخر رسائله “,”القول الفصل“,” التي حاول فيها الدفاع عن نفسه وجماعته، مبررًا أعمالها. ثم بدأ يتردى في هاوية التنازلات فيصدر بيانًا بعنوان “,”بيان الناس“,” يستنكر فيه أعمال رجاله ورفاق طريقه ودمغها بالإرهاب والخروج على تعاليم الإسلام.. ويعترف أنه “,”لا أستطيع أن ينكر الأخطاء التي ارتكبها الإخوان، وأنها قد هزّته إلى درجة أنه هو نفسه قد شعر بضرورة حل الجماعة“,”، ثم أصدر بيانًا آخر بعنوان “,”ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين“,” حيث يقول فيه “,”وإنني لأعلن أنني منذ اليوم سأعتبر أي حادث من هذه الحوادث يقع من أي فرد سبق له اتصال بجماعة الإخوان موجهًا إلى شخصي، ولا يسعني إزاءه إلا أن أقدم نفسي للقصاص وأطلب إلى جهات الاختصاص تجريدي من جنسيتي المصرية التي لا يستحقها إلا الشرفاء الأبرياء، فليتدبر ذلك من يسمعون ويطيعون“,”. وهو ما أثار الإخوان في المعتقلات ووجهوا له رسالة تهديد يقولون فيها “,”إذا كان هذا البيان صحيحًا فإن يوم الحساب آت بعد الإفراج عنا“,”. ثم كانت النهاية عندما سحبت السلطات الحراسة المحيطة به، واستدرجوه إلى جلسة مفاوضات أخيرة، وأطلقوا عليه الرصاص في 12 فبراير 1949، وكان المدبر الأساسي لقتله هو الملك فاروق الذي نافقه حسن البنا يومًا وطالب بالاحتفال بيوم مولده، كما نحتفل بيوم المولد النبوي!! وكان ذلك ثمن الولاء والمداهنة والرياء الذي اعتاده حسن البنا بتقديسه للملك يومًا ما، والتي قادت إلى نهايته، وكانت ثمرة ما قدمت يداه من تحريض على القتل والتخريب والتدمير باسم الدين. فكان الجزاء الذي تلقاه حسن البنا في نهايته من جنس عمله .

جدل الانسان

– ماهو جدل الانسان ؟

لقد كان كتاب ” أسس الاشتراكية العربية ” كله مخصصاً لطرح ” جدل الانسان ” كمنهج واختبار صحته في عديد من القضايا : الحرية الديموقرطية ، حركة التاريخ ، الاشتراكية ، الأمة ، القومية ، الوحدة ، التنظيم ، الأخلاق … الخ . وكان من بين وسائل اختباره الاحتكام اليه ثم الى ” المادية الجدلية ” في فهم بعض تلك القضايا لنعرف ايهما أصدق مع حصيلة الممارسة . ولسنا نستطيع أن نعيد هنا ما هو مطروح هناك . إنما نقدم منهج ” جدل الانسان ” لنعرف كيف نستخدمه حتى نستخدمه بعد أن نعرف في صياغة ” نظرية ” تغيير الواقع العربي . وفيما يلي نقدمه على الوجه الذي يسهل الرجوع اليه فيما بعد .
” جدل الانسان ” منهج لتغيير الواقع . فلا هو مقولة فلسفية فيما وراء الواقع ولا هو ” نظرية ” تحدد منطلق تغيير الواقع وغايته واسلوبه . إنما هو مجموعة من القواعد والقوانين الموجودة في الواقع الموضوعي . إذ نعرفها فنلتزمها نستطيع أن نغيّر الواقع . وليس ” جدل الانسان ” ابداعاً غير مسبوق بل هو المنهج الجدلي بعد ان صححته التجربة . ولكن ليس تكراراً لما سبقه لأنه يختلف عنه فيما صححه . وعلى هذا فإن منهج ” جدل الانسان ” يتضمن
(1) أصلاً مسبوقاً
(2) وإضافة من عنده
(3) تصحح قانون الجدل
(4) وتحل مشكلة المنهج
(5) وتنتهي الى صيغة جديدة للمنهج الجدلي .

أولاً – الأصل :

1- يقوم ” جدل الانسان ” على ذات القاعدة التي قامت عليها مناهج كثيرة في التطور ، ونعني بها : إن كل الاشياء والظواهر منضبطة حركتها من الماضي الى المستقبل بقوانين حتمية معروفة أو تمكن معرفتها . ويذهب ” جدل الانسان ” ، مع بعض تلك المناهج وخلافاً لبعضها الآخر ، إلى ان الانسان نفسه لا تفلت حركته من هذا الانضباط الشامل لحركة كل الاشياء والظواهر .
ومنه نتعلم :
إنه مادام ” انضباط الاشياء والظواهر في حركتها من الماضي الى المستقبل بقوانين أو نواميس حتمية شرطاً أولياً لإمكان تغيير الواقع ” ( فقرة 2 ) فإن تغيير واقعنا مهما تكن صعوبته هو أمر ممكن . وبهذا تسقط مبررات اليأس والسلبية ولا يبقى إلا ان نعرف كيف نحقق هذا ” الممكن ” . ويرشدنا ” جدل الانسان ” إلى الخطوة الأولى : معرفة الواقع الذي نريد أن نغيّره ، كما هو ، معرفة صحيحة عن طريق البحث العلمي فيه لاكتشاف القوانين التي تضبط حركته ، وشروط فعاليتها ، وكيفية التحكم في تلك الشروط لنعرف كيف نحقق الممكن الذي نريد . بهذا يفرض علينا ” جدل الانسان ” أن نتحرر من المثالية التي تخضع حركتنا لتصورات فكرية مجردة غير قابلة للتحقيق ثم أن نبحث وندرس ونتعلم حتى نعرف واقعنا وكيف نغيّره . وينذرنا ” جدل الانسان ” منذ البداية بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تغيير الواقع لتحقيق أحلام غير قابلة للتحقق لأنها لا تتفق مع حتمية القوانين التي تضبط حركة الواقع الذي تريد أن تغيّره . أو أية حركة تستهدف من تغيير الواقع ما هو ممكن ولكنها تفتقر إلى ” العلم ” بما تريد أن تغيره . تلك مثالية والمثالية فاشلة .
2- ويتضمن ” جدل الانسان ” ويأخذ عما سبقه ما عرفناه عند الحديث عن الجدلية ( فقرة 9 ) من ان كل الأشياء والظواهر
(1) يؤثر بعضها في بعض
(2) خلال حركتها التي لا تتوقف
(3) فتلحقها تغيرات مستمرة .
ويتفق مع بعض المناهج السابقة في أن تلك القوانين الكلية الثلاثة تضبط حركة كل الاشياء والظواهر بما فيها الانسان نفسه .
ومنه نتعلم :
أن ندرس ونتابع ونستوعب ونستفيد من الشروح الجديدة التي قدمها ، ويقدمها ، الفكر الانساني لهذه القوانين الثلاثة فنعرف – أولاً – اننا عندما نحاول اكتشاف واقعنا لنغيّره لا يكفي ان نعرفه كما هو وحده ومعزولاً عن غيره . بل لابد لنا أن نكتشف معه ما يتأثر به وما يؤثر فيه من خارجه . ثم عندما نحاول تغييره أن ندخل في حسابات التخطيط لتغييره ، وفي تقدير القوى اللازمة لهذا التغيير ، وفي وسائل التغيير ذاتها ، ذلك التأثير المتبادل بين واقعنا وغيره فنعد مقدماً ونستعد لما تولده حركة التغيير – حتماً – من أفعال تؤثر في غير واقعنا ومن ردود أفعال تؤثر في واقعنا . ونحن لا نستطيع ان نقدر هذا التأثير المتبادل تقديراً صحيحاً إذا اكتفينا بما نعرفه في زمان معين ولو كان صحيحاً . ذلك لأننا يجب ان نعرف – ثانياً – إن واقعنا وغيره في حركة دائمة فلا نقيم خطط تغيير واقعنا كما لو كان ثابتاً . إن الانتباه إلى حتمية قانون الحركة يحتاج منا إلى تدريب شاق . لأننا أنفسنا نتحرك مع الواقع فيصعب على كثير منا أن يدرك الحركة ذاتها فيتصور أن الواقع حاضر . إنه حاضر معنا وبالنسبة الينا لأننا نصاحبه في حركته . ولكنه ونحن معه في حركة دائمة من الماضي الى المستقبل . إننا نتغلب على هذه الصعوبة إذا اعتدنا ان نضيف إلى قائمة الاسئلة التي نطرحها لنعرف من اجابتها ما هو الواقع وكيف نغيّره ، السؤال : متى ؟ … فنحدد الواقع وخطة تغييره في الزمان . ثم السؤال : أين ؟ … فنحدد الواقع وخطة تغييره في المكان . وندرب أنفسنا على ألا نفهم شيئاً أو أحداً ، أو نقيّمه ، أو نريده ، أو نريد له ، إلا في حديه من المكان والزمان معاً وخلال حركته المستمرة بين هذين الحدين . فنفهمه في حالة صيرورة مابين أعمق ماض نذكره إلى اقصى مستقبل نتصوره . عندئذ نفهمه فهماً صحيحاً ونكتسب ملكة الفهم الصحيح للواقع في حركته التي لا تتوقف . وسيسهل علينا أن نستفيد من قانون الحركة الحتمي إذا عرفنا – ثالثاً – أن التأثير المتبادل بين واقعنا وغيره خلال الحركة المستمرة يصيب كل منهما بتغييرات مستمرة . قد تكون تلك التغيّرات طفيفة أو خفية فلا ندركها ، وقد تكون عنيفة أو مفاجئة فندركها ، لا يهم . المهم ان ننتبه إلى أن الواقع قد تغيّر – حتماً – في ماضيه ويتغير – حتماً – في مستقبله ، خلال حركته المستمرة من الماضي إلى المستقبل وبحكم قانون التأثير المتبادل الحتمي . فلا نقيم خطط تغيير الواقع إلا بعد أن نعرف من حركته في الماضي ( تاريخه ) كيف تغيّر حتى أصبح كما نعرفه . ونعد مقدماً للتغيرات التي ستلحقه حتماً في مستقبله ونحن نخطط لتطويره إلى المستقبل الذي نريد . وعندما ندرك ان هذه التغيرات تتم خلال الحركة المستمرة ونربط بين فعالية القوانين ( الحركة والتغير ) وتأثيرهما المتبادل ، نتعلم كيف أن التاريخ ليس ركاماً من الأحداث نعرفها لنرضي فضولنا بل خبرة متراكمة نتعلمها لنبني مستقبلنا ، وان خططنا الشاملة المكان ليست مجرد تحديد لمواقع نضالنا بل مواجهة لمعطيات عينية لا تمكن مواجهتها بنجاح بعيداً عن مكانها ، وإن خططنا الممتدة في الزمان ليست مجرد تقسيم لجهودنا على مراحل او توزيعاً للجهود على الاجيال المتعاقبة بل اختياراً واعياً وواقعياً وعلمياً معاً للاهداف والقوى والاساليب المرحلية المتغايرة تبعاً لتغيّر الواقع الذي تواجهه في زمانه . وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تغيير الواقع جاهلة الرابطة الشاملة لواقعنا وغيره والتي تحتم أن يكون واقعنا مؤثراً في غيره متأثر به ، أو متجاهلة حركة الواقع التي لا تتوقف فتفضل تاريخ الواقع عن مصيره ، أو متجمدة عند ذات الأهداف والقوى والاساليب التي كانت مناسبة لمرحلة فتجاوزها الواقع المتغيّر أبداً فلم تعد مناسبة .
3- في نطاق هذه القوانين الكلية الثلاثة ( التأثير المتبادل والحركة والتغير ) تخضع حركة كل شيء لقوانينه النوعية الخاصة .
ومنه نتعلم :
أن معرفتنا ، فالتزامنا ، النظر إلى الواقع وفهمه في إطار العلاقة الشاملة التي تجمع بينه وبين غيره وتحتم أن يكون مؤثراً متأثراً متحركاً متغيراً أبداً ليست إلا خطوة أولى . أو أنها خطوة أولى لازمة ولكن غير كافية لنعرف كيف نغير واقعنا وننجح في تغييره . فهذا الواقع الذي نتحدث عنه كما لو كان وجوداً بسيطاً هو وجود مركب من ذرات مختلفة التركيب تتجمع في عناصر متميزة الخصائص تقسم الى انواع متعددة ز فمنه الجماد والنبات والحيوان والانسان . ومنه الطاقة ومنه المادة . وإلى كل عنصر ، وكل نوع وكل جنس ينتمي ما لاحصر له من الجزئيات . ولكل ذرة ، أو عنصر أو نوع … الخ ” علم ” متخصص في اكتشاف ماهيته وقوانين حركته ولا يفيدنا – هنا – ان نعدد تلك العلوم المتخصصة . إنما يفيدنا ان نعلم – من جدل الانسان – أن ” العلم ” بمعناه الفني المتخصص ، أي معرفة مفردات الواقع من أول الذرات الى آخر البشر ، واكتشاف خصائصها وقوانين حركتها وعلاقاتها المتبادلة شرط جوهري لامكان تغيير الواقع لا تغني عنه معرفة انها جميعاً يؤثر بعضها في بعض خلال حركتها التي لا تتوقف فتصيبها تغيرات مستمرة . بل إن هذه المعرفة العلمية بالانواع وقوانينها الخاصة هي التي تمكننا من الاستفادة بالقوانين الكلية الثلاثة التي عرفناها . إذ ان القانون النوعي الذي يضبط حركة كل شيء على حدة هو الذي يحدد لنا ” شرط ” فعالية القانون الكلي فيه . فنعرف منه كيف يحدث التأثير المتبادل بينه وبين غيره وكيف تتم حركته واتجاهها وكيف يتغير ومضمون ذلك التغير . وبهذه المعرفة نستطيع أن نتحكم في الأثر ومداه وفي الحركة واتجاهها وفي التغير ومضمونه . أي نستطيع أن نستخدم فعالية القوانين الكلية في إحداث التغييرات التي نريدها في الواقع العيني المركب من أنواع مختلفة بقدر ما يكون علمنا بها صحيحاً . بدون هذا ” العلم ” المتخصص في الأنواع ، بدون التسلح بالمعرفة الصحيحة والوافية في الفيزياء والكيمياء والاحياء ، بدون علم الجيولوجيا والجغرافيا والهندسة والطب ، بدون هذه العلوم التي يسمونها ” تكنولوجيا ” بدون علم الاجتماع ، بدون علم الاقتصاد ، بدون علم القانون ، … الخ لا نعرف كيف نغيّر واقعنا فلا ننجح في تغييره حتى لو كنا قد عرفنا أن تغييره ممكن . وكما أن المعرفة الجزئية المتخصصة بمفردات الواقع وقوانينها النوعية لا تكفي لمعرفة كيف يتغيّر الواقع الشامل فيعجز العلماء المقصورة معرفتهم على مجالات تخصصهم في تغييره ، كذلك لا يستطيع أكثر الناس ثورية تغيير واقعهم إلى ما يريدون بدون علماء متخصصين . ولا يستطيع أحد أن يغيّر من الواقع شيئاً إلا بقدر ما يعلم وفي مجال علمه لا أكثر ولا أبعد . وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تتوقع تغيير الواقع الى ما تريد اتكالاً على جهود العلماء المتخصصين في مجالاتهم وتستغني بالتقدم الجزئي عن التقدم الشامل ، أو ، اتكالاً على إرادتها التغيير بدون ” علم ” فتستغني بالهدم عن البناء وبالساسة عن العلماء .
وبعد ،
فتلك نذر ثلاثة وعاها غيرنا من قبل فأصابوا ما كانوا يستهدفون بقدر ما وعوها . ينذرنا بها ” جدل الانسان ” مجدداً ، تأكيداً لاتصال المعرفة الانسانية وتحذيراً من أن نهدر – جهلاً أو تعصباً – خبرة السابقين فلا نزيد عن ان نكررالاخطاء التي علمتهم لمجرد الرغبة الطفولية أن تكون لنا ” نظرية ” خاصة .
غير ان ” جدل الانسان ” يقدم الينا نذراً مضافة .

ثانياً – الاضافة :

4- كان المنهج الجدلي كما عرفناه ( فقرة 9 ) يتضمن : ” (4) ان هذه التغيرات المستمرة هي تطور نام يتم خلال الصراع بين المتناقضات الكامنة في الشيء ذاته . ” وكان ذلك عند أصحابه قانوناً كلياً ” يضبط حركة الاشياء والظواهر . في هذا يختلف ” جدل الانسان ” فيفترق عن المناهج التي تجمعه بها اصول واحدة ليقرر أنه : في نطاق القوانين الكلية الثلاثة الأولى ” يتحول ” كل شيء طبقاً لقانونه النوعي وينفرد الانسان بالجدل قانوناً نوعياً ” لتطويره ” .
ان ” جدل الانسان ” يقدم الينا مفردات ذات دلالات مقصودة ، فلا ننسبن اليها دلالات أخر ولا نسلبنها دلالتها ” التغيرات ” التي تصيب الاشياء والظواهر تتضمن نوعين : أولهما ” التحول ” وهو ما يصيب كل الاشياء والظواهر من تغيرات تلقائية بفعل التأثير المتبادل فيما بينها خلال حركتها التي لا تتوقف . وثانيهما ” التطور ” وهو إضافة الاشياء والظواهر ما كان لها ان تتحقق تلقائياً بفعل التاثير المتبادل بين الاشياء والظواهر خلال حركتها التي لا تتوقف إلا بتدخل ” واع ” بفعالية القوانين التي تضبط حركة الاشياء والظواهر ” قادر ” على استخدامها لتغيير الاشياء والظواهر الى ما ” يريد ” .
” التحول ” يصيب المادة في كل جزئياتها وأنواعها من أول الذرات إلى آخر المجرات . إذ تخضع حركتها لقوانين ميكانيكية أو كوانطية معروفة او تمكن معرفتها ويحكمها قانون المادة الحديدي ( المادة لاتفنى ولا تتجدد ) . فكما يتحول الماء الى بخار يتحول البخار الى ماء بدون اضافة او رقي . وكما تتحول المادة الى طاقة تتحول الطاقة الى مادة بدون اضافة او رقي . وهي لا تتحول إذ تتحول إلا بمؤثر من خارجها . لأن المادة خالية من التناقض الداخلي والصراع . فهي لا تتطور جدلياً إلى ما هو ارقى بل تتاثر خلال حركتها فتتحول طبقاً لقوانينها النوعية من حالة الى حالة وتعود سيرتها الاولى بدون ان ترقى .
أما ” التطور ” فلا يصيب إلا الظواهر الانسانية حيث تخضع حركة الانسان وحده لقانون ” الجدل ” الذي سنعرفه فيما بعد ، بالاضافة الى خضوعه للقوانين الكلية الثلاثة الأولى فيولد وينمو ويموت بدون اضافة شأنه شأن اية مادة أخرى . ولكنه حيث يكون انساناً واعياً يضبط حركته قانون الجدل حتماً . طبقاً له يؤثر ويتاثر ولا يستطيع ان يؤثر ويتاثر إلا طبقاً له وهكذا يكون قانون الجدل قانوناً نوعياً خاصاً بحركة الانسان وحده ” كوحدة نوعية من الذكاء والمادة ” به يطور واقعه فيضيف اليه ما لم يكن ليتحقق في الواقع إلا لأنه أراده وعمل على تحقيقه .
فلا نقعن في الخلط الذي ورثناه من نظرية داروين عن ” التطور ” في عالم الاحياء . لقد كان المؤشر لانتباه داروين ملاحظته الفلاحين يقومون بتهجين حيواناتهم ليستولدوها سلالات جديدة أفضل . جديدة بمعنى انها ما كانت لتولد بدون تهجين . وأفضل بمعنى أنها أكثر مناسبة لما يريد الفلاحون . كان أولئك الناس يطورون الواقع طبقاً لقانونهم ( الجدل ) بالتحكم في قوانين الحيوان ( الوراثة ) . فلما لاحظ داروين خلال رحلاته اختلاف الانواع في عالم الحيوان عمم ملحوظته الأولى فظن ان ثمة انتخاباً بين الانواع تختاره الطبيعة . والواقع انه لم يلاحظ إلا كيف تؤثر الأنواع في الطبيعة وتتأثر بها فتتغير خصائصها بدون انتخاب أو اختيار . انها تتلاءم مع بيئتها ” سلبياً ” فتتغير ولا تغيّر بيئتها ” ايجابياً ” لتلائمهما كما يفعل الانسان . أما ما ظنه صلة بين الانواع ولم يعرف كيف تحدث فذلك ما عرفه مندل الذي كان معاصراً لداروين وإن لم يكن – حينئذ – معروفاً . ولم يعرف إلا عندما اعترف العالم والعلم – بعد ذلك بوقت غير قصير – بما كان قد اكتشفه من قوانين الوراثة . ولم تعد الدارونية – او الدارونية الحديثة كما يسمونها – إلا محصلة دراسة فعالية قوانين الوراثة في الأنواع وفيما بينها في نطاق قوانين التأثر المتبادل والحركة والتغير التي تحكم العلاقة بين الانواع وبيئتها . وقوانين الوراثة – كما يعرف الاخصائيون – ذات دلالة مذهلة على اتساق قوانين الطبيعة وخلوها من التناقض . وهكذانعرف ان الطبيعة ، حتى في عالم الأحياء ، تتحول ولا تتطور . ما تزال ” الاميبا ” والدودة معاصرتين في الطبيعة للقرد والانسان . ولا يمكن القول – إلا مجازاً – بأن القرد ” أرقى ” من الدودة مادام كل منهما ما يزال على ذات البعد من الانسان الذي ينفرد بالمقدرة على ” الفعل الارادي ” فيخلق ما لم يكن موجوداً على ما يريد . ذلك لأن ” الرقي ” كما نستعمله في ” جدل الانسان ” تعبير عن ثمرة هذا الخلق الارادي .
ومنه نتعلم :
أعظم دروس الجدل على الاطلاق : أولوية الانسان .
أولوية الانسان ، لا بأي مفهوم ميتافيزيقي أو مثالي أو اخلاقي ، ولكن في حركة التطور الاجتماعي : يتوقف التطور الاجتماعي من حيث مضمونه ، واتجاهه ، ومعدل سرعته ، ونصيبه من النجاح أو الفشل على العنصر البشري في أي مجتمع . كل ما عداه من قوى الطبيعة وموادها امكانيات متاحة ولكن البشر وحدهم هم القادرون على استخدام تلك القوى والمواد في صنع التطور الاجتماعي وعلى البشر وحدهم يتوقف ما يكون من أمر تلك القوى والمواد . فحتم على الناس ألا يتغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ، أو ، كما يكون الناس يكون تطورهم الاجتماعي . نستطيع أن نترجمه إلى مباديء استراتيجية فنقول : لا تحرر بدون أحرار ، لا وحدة بدون وحدويين ، لا اشتراكية بدون اشتراكيين . ونستطيع ان نترجمه الى تخطيط فنقول أن وجود ” الكوادر” الثورية يجب ان يسبق قيام ” التنظيم الثوري ” وإن قيام “التنظيم الثوري” يجب أن يسبق الثورة . ونستطيع أن نترجمه الى برامج تنفيذية فنقول : إن تدريب العاملين على صناعة معينة يجب ان يسبق بدء تشغيل مصانع انتاجها ، وأن حل مشكلات العاملين يجب ان يسبق حل مشكلات العمل . ونستطيع أن نترجمه إلى مواقف فنقول : ان السلبية موقف عقيم ، وان الاستهانة بالناس خطأ ، وان فرض الوصاية عليهم خطأ فاحش ، أما الاستبداد فيهم فتخريب لحركة التطور الاجتماعي . ونستطيع ان نترجمه الى تقييم فنقول : إن الجبناء والمنافقين والمترددين حتى في حياتهم الخاصة لا يمكن ان يصلوا الى التطور الثوري . وإن المستبدين حتى في منازلهم لا يمكن ان يكونوا ديموقراطيين . وان المختلسين والمرتشين حتى لو كانوا عباقرة الاقتصاد لا يصلحون لادارة مشروع اشتراكي … الخ . وكم نستطيع أن نترجم من هذا الدرس العظيم : الانسان أولاً .
وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تحاول ان تفهم الواقع بدون ان تبدأ بالانسان ، او تعد لتغييره بدون ان تبدأ بالانسان ، أو تحاول تغييره بدون ان تبدأ بالانسان او تستهدف من التغيير مستقبلاً لا يكون فيه الانسان أولاً ، جاهلة أو متجاهلة إن الانسان ، وحده ، هو أداة تغيير واقعه ، وان الناس ، وحدهم ، هم أداة الخلق في التطور الاجتماعي .
فكيف يخلق الناس ما يريدون .

ثالثاً – القانون :

5- ” في الانسان نفسه يتناقض الماضي والمستقبل ويتولى الانسان نفسه حل التناقض بالعمل إضافة فيها من الماضي والمستقبل ولكن تتجاوزهما الى خلق جديد ” . وفيما يلي بيان قصير عن هذا القانون ننقله من ” أسس الاشتراكية العربية ” ( ص 118 وما بعدها ) .
يقول :
” … النقيضان في جدل الانسان هما الماضي والمستقبل اللذان يتبع أحدهما الآخر ، ويلغيه ، ولا يلتقي به قط ومع هذا يجمعهما الانسان ويضعهما وجهاً الى وجه في ذاته . ( يسترجع الماضي بالذاكرة ويستقدم المستقبل بالمخيلة وكلاهما من خصائص الانسان وحده ) .
” والماضي – بالنسبة الى الانسان – مادي جامد غير متوقف عليه وغير قابل للتغيير وبمجرد وقوعه يفلت من امكانية الالغاء ، ولكن الانسان ، إذ يعرف عن طريق استرجاعه كيف وقع ، يدرك امتداده التلقائي في المستقبل . والمستقبل – بالنسبة الى الانسان – تطور لا يحدّه قيد من المكان أو الزمان . واقصى مستقبل لأي انسان ان تتحقق جميع احتياجاته . وفي الانسان يجتمع النقيضان وتثور المشكلة بالصراع بين الماضي ممتداً تلقائياً في المستقبل وبين المستقبل الذي يريده الانسان . وبين الماضي يريد ان يمتد فيلغي ما يريده الانسان وبين ما يريده الانسان ان يتحقق فيلغي امتداد الماضي وتكون المشكلة – التي تعبر عن الصراع – هي ذلك الفرق بين الواقع المسترجع من الماضي والمستقبل الذي يريده الانسان . ويعبر عنه سلبياً بالحاجة ، أي شعور الذات بعدم الاكتفاء ( من تجربة الماضي ) ونزوعها الى الاكتفاء ( في المستقبل ) ومقاومة الظروف ( الماضي ممتداً تلقائياً في المستقبل ) لاشباع تلك الحاجة . وبقدر ما يكون الفرق كبيراً يكون التناقض عميقاً فيكون الصراع قوياً فتكون المشكلة حادة . وبقدر ما يسترجع الانسان من ماضيه يتصور من مستقبله ويتحدد شمول المشكلة التي لابد حلها . ويظل الصراع قائماً : ظروف الماضي تفرض نفسها على المستقبل . ويتم الصراع بين الماضي والمستقبل حيث يلتقيان ، ولا نقول الحاضر إذ لا وجود لما يسمى الحاضر بين الماضي والمستقبل إلا إذا ألغينا الزمان . عند نقطة الالتقاء تلك – وفي الانسان – يكون الصراع ويكون الحل الذي يتحقق بالعمل متضمناً إضافة جديدة .
” أما كيف يحل التناقض فقد قلنا أن صراع النقيضين يطرح المشكلة التي لا بد ان تحل ، ثم يستعمل الانسان ادراكه ( إحدى خصائص الانسان وحده ) ليعرف كيف نشأت المشكلة ، أي ما هو وجه التناقض بين الظروف وحاجته . ( الظوف تعبير عن امتداد الماضي والحاجة تعبير عن المستقبل الذي يريده الانسان ) . ويستفيد الانسان من مقدرته على معرفة الماضي في المستقبل وهو ما اسميناه الامتداد التلقائي للظروف . كما يستفيد من معرفته العلمية للظروف لتعديل المستقبل الذي يتصوره الى المستقبل الممكن علمياً . أي يجد حلاً يتضمن ما يريده الانسان وتسمح به قوانين الظروف معاً . هذا الحل يتحقق بالعمل المادي أو الذهني تبعاً لطبيعة المشكلة . هذا الحل يلغي من الظروف كما يحددها الماضي ما لا يتفق مع المستقبل كما يريده الانسان ، ويلغي من المستقبل الذي اراده الانسان ما لم يتفق مع امكانيات الظروف وقوانين تغييرها النوعية . فيخلق في كل لحظة وفي كل مكان – مستقبلاً متفقاً مع حاجة الانسان وظروفه ، أي خالياً من جمود الماضي وخيال المستقبل . أما أداة الخلق فهو العمل ( إحدى خصائص الانسان وحده ) الذي يحل التناقض وتتم به الحركة الجدلية .
” كيف تتسق الحركة الجدلية بعد هذا ؟
” بفعل الماضي والمستقبل ذاتهما . إذ أن الحل الذي يتحقق بالعمل إضافة ينتهي بها تناقض وينشا بها تناقض جديد . لأن ما يتحقق فعلاً يلحق فور تحققه بالماضي فالزمان لا يتوقف . وبذلك تنشأ نقطة التقاء جديدة بين الماضي والمستقبل ، أي صراع جديد ومشكلة جديدة . ويسهم الحل الذي كان مستقبلاً ثم اصبح ماضياً بتحققه في أثناء الماضي الذي يسترجعه الانسان وهو يواجه مستقبله الجديد ، فيزيد مدى تصوره المستقبل ، ويكشف له مدى جديداً في حاجاته ، وينشأ بذلك صراع جديد ثم يحل ، وهكذا وكل ما يتحقق في الواقع يعتبر خطوة الى الامام ( تقدم ) لأنه اضافة . وهكذا تتابع المشكلات وتتابع الحلول ويتقدم الانسان وحاجته معلقة دائماً على بعد أمامه في سباقه مع ظروفه . يندفع الى المستقبل وكلما حقق جزءاً من مضمونه امتد امامه وظل مستقبلاً ذا مضمون جديد . وفي تاريخ الانسان سار هذاالجدل من البسيط الى المركب ومن المحدود الى الأكثر شمولاً ( بفعاليته التي تنمي وتضيف أبداً ) ، وكلما زادت تجارب الانسان اغتنت ذاكرته فاتسعت تصوراته وزادت حاجاته فزادت مشكلاته فأبدع لها مزيداً من الحلول . ولهذا لم يستو تقدم الانسان على نسبة واحدة واصبح يحل في شهور ما كان يحله في قرون مع ان مشكلاته قد تضاعفت اضعافاً .
” وإذا كان الجدل قانوناً خاصاً بنوع الانسان فإن الانسان لا يفلت من القوانين الكلية التي تحكم الطبيعة وهو جزء منها يؤثر ويتأثر في حركة دائمة وتغير مستمر ، وتحكمه تلك القوانين كوحدة من الذكاء والمادة . فهو لا يستطيع مهما كان ذكياً أن ينفصل عن الظروف التي تحيط به أو لا يتأثر بها أو يتوقف عن التأثير فيها . ولا يستطيع مهما كانت ارادته أن يثبت نفسه فلا يتغير عضوياً وفكرياً . كما لا يستطيع مهما بلغ تصوره أن يخلق طبيعة غير الطبيعة الموجودة فعلاً والتي تشمله . لهذا فغن جدل الانسان كقانون يعطل ( لاتحل المشكلة ) اذا لم يكن الجدل مستنداً الى المعرفة الصحيحة بالطبيعة وقوانينها واستعمال تلك القوانين استعمالاً صحيحاً … الخ ” .
يكفي هذا بياناً .
هذا هو قانون جدل الانسان .
وهو قانون حتمي .
(1) حتمي بمعنى أن أي نشاط يقوم به الانسان ، ذهني أو مادي ، سلبي أو ايجابي ، ومهما يكن مضمونه هو محاولة من جانبه لحل مشكلة يتناقض فيها واقعه مع ارادته ، ولا يستطيع أي انسان أن يكف عن محاولة حل مشكلاته إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يكون جهازاً لا يتوقف لحل المشكلات .
(2) حتمي بمعنى أن أي نشاط يقوم به الانسان ، ذهني أو مادي سلبي أو ايجابي ، ومهما يكن مضمونه له غاية ثابتة هي تحرره من حاجته كما يعرفها من ذاته . ولا يستطيع أي انسان أن يستهدف من نشاطه غير التحرر من حاجته كما يعرفها من ذاته . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يستهدف دائماً حريته .
و(3) حتمي بمعنى أن تحرر الانسان من حاجته في موضوع معين يؤدي مباشرة الى حاجته في موضوع جديد . ولا يستطيع أي انسان أن يكف نفسه عن الحاجة أو أن يشبع حاجاته المتجددة أبداً . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يظل أبداً مفتقداً حرية جديدة باحثاً عن حريات متجددة .
و (4) حتمي بمعنى ان الانسان يتحرر من حاجته بتغيير واقعه وليس بتغيير ذاته كإنسان ولا يستطيع أي إنسان أن يتحرر من حاجته إلا بتغيير واقعه . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن ينتزع حريته من قيود واقعه .
ولا بأس في ان نضيف أنه :
(5) حتمي بمعنى أن الانسان يحقق من حريته ، في واقع معين في وقت معين ، بقدر ما يتفق مع طبيعة هذا الواقع في زمانه . ولا يستطيع أي انسان أن يحقق من حريته ، في واقع معين في وقت معين ، أكثر مما يتفق مع طبيعة واقعه في زمانه إذ حتم على الانسان ، بحكم ان الجدل قانون ” نوعي ” خاص به وحده ، أن تتاثر فعاليته بحتمية القوانين الموضوعية التي تحكم واقعه .
هذا هو القانون وهذي هي حتميته .
فكيف يتم التطور الاجتماعي ؟
نرد المفرد ( الانسان ) الى مجتمعه لنرى ما يؤثر في فعالية قانونه وما يتأثر بها . ونحن لا نستطيع أن نرى هذا بوضوح إلا إذا تحررنا نهائياً من تأثير تيار فكري علمنا ويعلمنا أن المجتمع ” كائن ” مستقل عن الناس فيه . وقد استدرج هذا التيار بعضنا ، وما يزال يستدرجهم ، إلى محاولة اكتشاف قوانين خاصة بحركة ذلك الكائن الموهوم مختلفة نوعياً عن القوانين التي تضبط حركة البشر . عندما نتحرر من هذا الوهم نواجه المجتمع على حقيقته . جماعة من الناس في واقع معين واحد . واقع معين زائد ناساً متعددين يساوي واقعاً مشتركاً . وذلك هو المجتمع : جماعة من الناس يعيشون معاً في واقع معين مشترك فيما بينهم . قد تكون الجماعة أسرة ، أو عشيرة ، او قبيلة ، او شعباً … لايهم . أنهم أفراد متعددين ينشط كل منهم في الواقع المشترك طبقاً لقانونه النوعي : جدل الانسان . كل منهم يسعى ولا يستطيع إلا أن يسعى لاشباع حاجته وكل منهم يستهدف ولا يستطيع إلا ان يستهدف حريته … الخ . هذا لا يتغير في المجتمع . فالمجتمع لا يحيل الانسان ” شيئاً ” جامداً ولا يحوّل الناس الى قطيع من الحيوان. وإنما الذي يتغير هو الواقع ذاته . إذ عندما يتعدد الناس في واقع معين واحد يصبح هذا التعدد بما يتضمنه من مشاركة جزءاً من الواقع . جزءاً من الواقع الذي يواجه كل انسان . يصبح واقعاً اجتماعياً واقعاً اجتماعياً لا بمعزل عن أي إنسان فيه ولكن بالنسبة الى كل انسان فيه . ويكون على “جدل الانسان ” أن يشق طريقه الحتمي الى الحرية في هذا الواقع الاجتماعي . وهو يشقه بنجاح مطرد إذا تعامل مع الواقع الاجتماعي كما هو على حقيقته الموضوعية .
وأولى الحقائق الموضوعية هي أن الواقع الاجتماعي محصلة تطور تاريخي . تطور في الماضي . ” والماضي – بالنسبة الى الانسان – مادي جامد غير قابل للتغيير وبمجرد وقوعه يفلت من امكانية الالغاء” . ومؤدى هذا انه عندما يولد الانسان فيجد أنه انسان من مجتمع معين يصبح إلغاء هذا المجتمع مستحيلاً إنه مجتمعه أراد هذا أم لم يرده . أعجبه أم لم يعجبه . وما عليه إلا ان يتعامل معه كما هو أو أن يهرب الى حيث يعيش مشرداً بدون مجتمع أو إلى حيث يجد مجتمعاً يشركه في واقعه وعندئذ سيواجه الحقيقة التي هرب منها : قبول التعامل مع مجتمعه ( الجديد ) كما هو .
والحقيقة الثانية هي ان الواقع الاجتماعي هو الذي يسهم في إثارة المشكلات في المجتمع . لأن الواقع ( حصيلة الماضي ) الذي يناقض ما يريده الانسان هو – هنا – واقع اجتماعي . ومؤدى هذا أنه لا وجود في المجتمع لما يسمى المشكلات الخاصة . إن كل المشكلات التي يواجهها أي إنسان في حياته هي مشكلات اجتماعية في حقيقتها الموضوعية . بحيث لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً إلا على ضوء الواقع الاجتماعي الذي أسهم في اثارتها أو إلا من حيث هي تعبير عن تناقض قائم بين الواقع الاجتماعي كما هو وبين ما يريده الانسان فيه .
الحقيقة الثالثة ، أجدر الحقائق بالانتباه ، لأنها عقدة العقد في مشكلات التطور الاجتماعي ، هي أنه مادام الواقع الاجتماعي محدداً موضوعياً فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعياً . ونحن نعي هذا تماماً إذا تذكرنا أن التناقض الجدلي يقوم بين الواقع ، وهو هنا واقع اجتماعي محدد موضوعياً وغير قابل للالغاء ، وبين المستقبل كما يريده الانسان و ” المستقبل – بالنسبة الى الانسان – تصور لا يحده قيد من الزمان أو المكان ” . لا قيد ولا حد لما يتمناه الانسان لنفسه فيشعر بالحاجة اليه إنه يصوغه كما يريد من تجاربه أو تجارب غيره في واقعه الاجتماعي أو مما يعرف من واقع الناس في المجتمعات الاخرى . لا قيد ولا حد للطموح الانساني ولكن مهما تعددت وتفاوتت واختلفت وتناقضت حاجات الناس فإن حلها الصحيح ، في مجتمع معين في وقت معين ، محدد موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته . فلو استطعنا أن نحصر كل ما يحتاجه الناس في مجتمع معين ونعرف في ذات الوقت كل ما يستطيع الواقع أن يقدمه لعرفنا ما هي المشكلات الحقيقية التي يطرحها الواقع الاجتماعي وكيف تحل . أي لعرفنا الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية كما هو محدد موضوعياً . مؤدى هذا أن كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها إلا حل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين . قد يكون لها اكثر من حل خاطيء ، قاصر او متجاوز أو مناقضاً ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها ، ولكن حلها الصحيح لا يمكن إلا ان يكون واحداً بحكم أن الواقع الاجتماعي واحد .
الحقيقة الرابعة ، والخاتمة ، أن ” الانسان ” يشق طريقه الحتمي الى الحرية بنجاح بقدر ما يكتشف ذلك الحل الصحيح وينفذه ، ويفشل في تحقيق الحرية بقدر ما يجهل ذلك الحل الصحيح فلا ينفذه . ويصدق هذا بالنسبة الى أي إنسان في المجتمع فيشبع حاجاته بيسر ويطرد تقدمه نحو الحرية كلما استطاع أن يعرف الحل ” الاجتماعي ” الصحيح لمشكلاته وأن يلتزمه في الممارسة ( العمل ) . قد يغريه النجاح المؤقت في اشباع حاجاته عن طريق الحلول الخاطئة ولكنه لن يلبث أن يتبين أنه كان حلاً خاطئاً ، فيسترد منه المجتمع ما اختلسه ليعود فيواجه ذات المشكلات التي ظن انه قد حلها الحل الصحيح . ويصدق بالنسبة الى كل الناس في المجتمع فيطورون واقعهم ” الاجتماعي ” بيسر ويطرد التطور الاجتماعي اذا ، وكلما ، استطاعوا ان يعرفوا الحل ” الاجتماعي ” الصحيح لمشكلاتهم وان يلتزموه في الممارسة ( العمل ) ويفشلون في تطوير واقعهم ولا يتطور المجتمع إذاً ، وكلما ، جهلوا الحل ” الاجتماعي ” الصحيح لمشكلاتهم أو لم يلتزموه في الممارسة ( العمل ) .
فكيف يهتدي الناس في مجتمع معين إلى هذا الحل الصحيح ؟
بالجدل المشترك . أو ما نسميه ” الجدل الاجتماعي ” ، المعرفة المشتركة بالمشكلات الاجتماعية والرأي المشترك في حلها والعمل المشترك تنفيذاً للحل في الواقع الاجتماعي فتتحقق به إضافة تحل بها المشكلات الاجتماعية وتثور بها مشكلات اجتماعية جديدة فتحل … الخ مع ملاحظة ان حركات الجدل هذه تمثل ايقاعاً ثابتاً للقانون . معرفة المشكلة قبل معرفة الحل وشرط لها . ومعرفة الحل قبل التنفيذ بالعمل وشرط له . ولا يمكن أن تحل أية مشكلة حلاً علمياً عن غير طريق الصدفة إلا بالتزام هذا الايقاع الذي نسميه حركة الجدل . إذن فالمجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها . وبقدر ما تحل مشكلات الناس فيها تتطور لا اكثر . ولا يتم التطور إلا في المجالات الاجتماعية التي تحل مشكلات الناس فيها إلا بعد . أن ” الجدل الاجتماعي ” هو ” جدل الانسان ” في الحركة الاجتماعية ” ، أو هو الصيغة الاجتماعية ” لجدل الانسان ” . فهو حتمي . فحيثما واينما يتسق النشاط الاجتماعي معه تنشط حركة التطور . وحيثما واينما لا تتسق تبقى المشكلات الاجتماعية يعانيها الناس وتتعثر حركة التطور .
قد يكون هذا واضحاً . ولكن لماذا هذه “المشاركة ” في الجدل الاجتماعي ؟
مادام الواقع الاجتماعي الذي يثير المشكلات الاجتماعية محدداً موضوعياً وما دامت الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية محددة موضوعياً ، فلماذا لا يصح أن التطور الاجتماعي يتم ويطرد او يمكن ان يتم ويطرد ولو تولى واحد او جماعة من العلماء أو العباقرة او الملهمين … الخ ، تحديد المشكلات الاجتماعية واكتشاف حلولها الصحيحة ، ويكون على الناس بعد ذلك أن ينفذوا بقوة عملهم تلك الحلول العلمية أو العبقرية أو الملهمة … الخ ؟ لماذا لا يصح هذا خاصة إذا لاحظنا أن معرفة المشكلات الاجتماعية والحلول الصحيحة لها قد تحتاج إلى كفاءة ثقافية لا تتوافر لكل أو أغلب الناس في المجتمع ؟
لو صح هذا لما كان الجدل الاجتماعي هو القانون الحتمي للتطور الاجتماعي .
هذا واضح ايضاً . ولكنه غير صحيح .
لا نريد أن نحتج بما هو دارج في الكتابات عن التطور الاجتماعي من أن مشاركة ” الجماهير ” في حركة التطور الاجتماعي لازمة لأن أي إنسان بمفرده أو اية جماعة محدودة من الناس لا تستطيع ان تحيط بكل المشكلات الاجتماعية او بحلولها الصحيحة أو أن تقوم بكل العمل اللازم لانجاز متطلبات التطور الاجتماعي . لا نريد ان نحتج به ، لا إنكاراً لعجز أي إنسان أو اية جماعة محدودة من الناس الاحاطة بكل المشكلات الاجتماعية أو بحلولها الصحيحة والعمل المناسب للتطور الاجتماعي بما يعنيه هذا من انهم يعوقون التطور الاجتماعي الممكن بقدر عجزهم ولا انكاراً للمقدرة المضاعفة على التطور الاجتماعي التي تؤدي اليها مشاركة الناس في معرفة المشكلات الاجتماعية واكتشاف حلولها الصحيحة والعمل على تنفيذها في الواقع . لا ننكر هذا لأنه صحيح ولكننا لانحتج به لأن الاحتجاج به على حتمية قانون التطور الاجتماعي خطأ . إذ أن الحتمية في القانون موضوعية بصرف النظر عن مقدرة الناس او عجزهم عن استعماله استعمالاً صحيحاً . ثم لنحذر من الفهم الخاطيء بأن مبرر مشاركة الناس في تطوير واقعهم الاجتماعي هو عجز المتصدين لتطويره عن الوفاء بكل مسؤولياته ، وكأن الناس مجرد قوة ” احتياطية ” تحت تصرف القيادة ،

الطليعة العربية

من الطليعة العربية .. ؟؟

د . عصمت سيف الدولة

-1-

ضرورة
عرفنا من الاسس أن الظروف غير جدلية ، وان الانسان وحده هو مبدع مستقبله وقائد مصيره ، وان الزمان وحده لن يحل مشكلات الوطن العربي ، بل لا بد من قوة انسانية تتصدى لمواجهة تلك المشكلات ، على يقين منها بأن جهودها الخلاقة هي الطريق الوحيد الى تحقيق المستقبل ، وان ما يبدو مستحيلاً لا يستحيل على مقدرة الانسان أن تنجزه . من هنا يكون وجود الطليعة العربية ضرورة قومية ، إذ هي قائدة التطور الى الحرية والوحدة والاشتراكية . فهي التجسيد الحي لمصير الأمة العربية وأداة تحقيق هذا المصير . هذا حتم علمي لا يتحقق المستقبل الحر إلا به .. كذلك تدرك الطليعة العربية ذاتها إدراك الواثق بحتمية وجوده لتحقيق مصير أمته .
-2-
وتنظيم
إن وعي الطليعة العربية أن الحل الجدلي للمشكلات لا يتأتى إلا بالمعرفة الجماعية لها ، والتصميم الجماعي للحلول ، والتنفيذ الجماعي للمستقبل ، يحتم عليها أن تكون تنظيما جماعيا يلتحم داخله كل التقدميين الثوريين في حركة عربية واحدة ، يتبادلون خلالها الجدل ، فيصقل كل منهم وعي أخيه ، ويغني ثقافته ، ويدعم نضاله ، في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية .
-3-
عقائدي
إذا كانت الطليعة العربية تهدف الى تحقيق الحرية والوحدة والاشتراكية ، فإنها تتجاوز في هذا كله الحركات السياسية القائمة في الوطن العربي ، التي رفعت شعارات الوحدة ، او الحرية ، أو الاشتراكية ، أو كلها معاً . فأغلب تلك الحركات تقفز الى الحلول متأثرة في هذا بالظروف المتغيرة ، فلا تزيد على أن تكون رد فعل لا بد من أن يتغير بتغير الظروف التي خلقتها ، ويزول بزوالها . غير أنها تزعم أن حلولها مباديء وقواعد فكرية ، ثم تسمي نفسها حركات عقائدية . وما أن تتغير الظروف – المتغيرة حتماً – حتى يتسع الشق بين الحركة المنغلقة على مبادئها وبين الظروف المتغيرة دائماً . وتلهث الحركات ، التي تدعي لنفسها القيادة ، وراء الظروف محاولة ادراكها ، وعبثاً تجري ، أو تقفز ، فإن الوقت الذي كان لازما لدعوة الجماهير وتنظيمها وقيادتها الى تطبيق حلول الانطلاق ، كان كافياً أيضاً لتسبق الظروف ما اجتمعوا عليه ونظموا أنفسهم من أجله . وعندما يحين وقت التنفيذ ، تكون المشكلات قد تجاوزت الحلول والمباديء والوعود ، ويكون الشق قد اتسع حتى أصبح هاوية ، يتردى فيه الداعون والمدعوون ، فيتهم بعضهم بعضاً ، وتأكل الحركات نفسها ويأكل منها غيرها ، وتترك وراءها خيبة أمل تعرقل النضال العربي . وهكذا كان الارتباط الجماهيري بحلول لايربطها ذاتها أساس فكري واحد يمثل جرثومة الضحالة الفكرية التي فتكت بكثير من الحركات السياسية العربية .

لهذا تبدأ الطليعة بالبداية . والبداية منهجها العقائدي الواضح المحدد ، الذي يصلح لتقييم المشكلات ومعرفتها ، وينير الطريق الى حلولها ، ويرسم النضال في سبيل المستقبل ، ويقوم حكما غير جاهل عندما يختلف الرأي ، فيكشف الحق والباطل ، وبذلك تكون الطليعة العربية قادرة دائماً على قيادة الظروف مهما تغير مضمونها ، ومهما تعقدت ، وتتحصن ضد وباء الانتهازية الذي يسر لكثيرين ركوب أمواج الثورات الشعبية ، ثم تغيير جلودهم بين حين وحين . إن وحدة المنهج هي الرباط الذي يحفظ للطليعة العربية وحدتها وينسق نضالها ويحكم بين اعضائها ، ويساعدها على أن تضع لنفسها برنامجاً للتطبيق تحدد به مسئوليتها أمام الجماهير العربية .
-4-

قومي
ويحدد وعي الطليعة العربية وجودها القومي ميدان نضالها ، فتنظمه وتديره على مستوى الأمة العربية كلها ، رفضاً للتجزئة وتحقيقاً للوحدة في ذاتها ؛ ليمتد إدراكها الى منبت كل مشكلة في الوطن العربي ، فنعرفها على حقيقتها ، ولتقدم لها الحلول السليمة مستفيدة في هذا بامكانيات الكل لحل مشكلات الاجزاء ومشكلات الكل جميعاً . غير أن الطليعة العربية تعرف عن طريق منهجها الفكري أن كل مشكلة تحل في حدود ما تقدمه الظروف من امكانيات ، ولا تحل بالأماني المثالية . وتعرف ، من ناحية أخرى ، أن تجزئة الوطن العربي قد تركت آثاراً متفاوتة على مستوى تطور الاجزاء ، ونوع بعض المشكلات المحلية التي تطرحها . لهذا فإن وحدة الطليعة العربية كحركة وتنظيم لا تمنع ان تكون الطليعة العربية في كل جزء متميزة عنها في باقي الاجزاء بعبء مضاف الى رسالتها القومية ، ينعكس عليها تنظيما فرعياً من التنظيم الواحد ، ونضالا محلياً مضافاً الى نضالها القومي . وقد ينعكس هذا على توع التنظيم والنضال ، فهي مقاتلة حيث الاستعمار والرجعية الباغية ، مسالمة حيث الديموقراطية ، علنية حيث الحرية ، سرية حيث الاستبداد ، تكافح في كل الظروف طبقا لامكانياتها ، منطلقة من الواقع المتخلف الى اقصى ما أدركته الاجزاء المتقدمة ، في إطار الغايات القومية التي تمثلها الطليعة العربية ككل ، مستعينة في هذا بكل إمكانيات الطليعة العربية كتنظيم قومي واحد .
-5-
ديموقراطي
ويحتم وعي الطليعة العربية أن الجدل الاجتماعي هو الاسلوب العلمي الوحيد لمواجهة الظروف ، وحل مشكلاتها ، وتحقيق المستقبل ، ووعيها أن الصراع يعوق الجدل ، أن تطهر نفسها من امكانيات الصراع في داخلها ، بأن تنظم تنظيماً حديدياً على أسس ديموقراطية صلبة : حرية الرأي للجميع ، وعمل الجميع تنفيذاً لرأي الأغلبية . أياً كان نوع التنظيم الذي تسمح به الظروف في الأجزاء ، فإن ديموقراطية التنظيم في الطليعة مميز لها كطليعة ، وحصانة لها ضد التخريب والانحراف والانتهازية والفاشية . لا تهاون في هذا ، ولا استثناء ، مهما كانت الظروف . ولو كان على حساب المقدرة الوقتية على النضال السياسي ، فإن المقدرة غير الديموقراطية مغامرة . ولوكان على حساب الكثرة فإن الكثير الفاسد فساد كثير .
” حرية الرأي للجميع ، وعمل الجميع تنفيذاً لرأي الأغلبية ” ، قاعدة ديموقراطية مفروضة على الجميع أي انحراف عنها رجعية قاتلة .
-6-
في سبيل الوحدة
ينطلق نضال الطليعة العربية على أساس أن الوجود القومي شرط التطور ، فتعي ، وتخطط وتناضل على هدي وعيها ، لتحرير الوطن العربي من الاستعمار الظاهر والاستعمار الخفي ، وتقتلع السرطان الصهيوني اقتلاعاً ، مدركة في هذا أن تحرير الوطن العربي من العدوان عليه أول خطوة الى تطويره ، وان تطويره الكامل لا يتم الا بالوحدة السياسية . بهذا الوعي القومي تقاتل الطليعة العربية الاستعمار والصهيونية وتسحق المستعمرين وعملائهم . لا رحمة في هذا ولا تردد . ثم تفرض الطليعة العربية الوحدة على أثر التحرر ، لا تقبل في هذا عذراً ، ولا تسمح للرجعية الاقليمية في أي جزء بأن تبقى التجزئة لحسابها ، أو أن تعطل انطلاق الشعب العربي بقيود من الداخل بعد تحطيم القيود التي كانت مفروضة عليه من الخارج . والوحدة السياسية عند الطليعة العربية حتم لأنها التعبير السياسي عن الوجود القومي السابق عليها ، لا تتطلب شرطا سوى التحرر من ارادة الاستعمار التي فرضت عليه التجزئة . فوعي الطليعة العربية الوجود القومي لا يعرف سبيلا الى الوحدة إلا أن ترفع الحواجز ليلتحم الشعب العربي في جدل حياتي يحقق به مصيره الواحد . ولا تنتظر الطليعة العربية حتى تكون المشكلات في كل جزء قد حلت لكي تحقق الوحدة ؛ لأنها تعلم أن الوحدة العضوية للأمة العربية تعني ألا تحل مشكلات الاجزاء حلاً سليما إلا في الكل الشامل . بهذه الثورية ترفض الطليعة العربية تبرير الابقاء على التجزئة بآثار التجزئة ، وترفض أن توضع منها شرط لإلغاء ما يمزق الكيان الواحد . غير أن الاسلوب العلمي الذي تنتهجه الطليعة العربية لا يسمح للمثالية أن تضللها فتتجاهل ما تتطلبه المشكلات المحلية من إدارات محلية ، لأنها تعلم أن الدولة القومية لا تلغي الادارات المحلية بل تدعمها ، وتمدها بمزيد من المقدرة على مواجهة ما تطرحه الظروف المحلية من مشكلات ، إضافة من امكانيات الأمة الواحدة إلى ابناء الأمة الواحدة في أي مكان من الوطن الواحد . كما أنها لا تتجاهل ما صنعته التجزئة ، التي امتد بها الزمن ، من آثار تنظيمية واجتماعية ، ميزت بها الاجزاء في مدى التقدم الحضاري ، وبما صاغته من الوان الحياة ، فهي تدرك أن هذا ذاته مشكلة يجب أن تحل بالقضاء على التمايز المصطنع ، وان اسلوب حلها يجب أن يكون علمياً ، وتصبر – في ظل الوحدة – على ما يبقى من آثار التجزئة ، باذلة الجهد المضاعف لتطهير الوطن العربي من تلك الآثار .
-7-
والحرية
في سبيل الحرية ، حرية الانسان العربي ، وكل انسان ، تناضل الطليعة العربية على أساس أن الحرية ليست مقدرة على الفوضى ولكن مقدرة على التطور ، وأن جوهر الحرية أن تقهر الظروف ، وتفرض ارادتها لتحقق مزيداً من الحرية . لهذا لا تعرف الطليعة العربية حرية الرجعية ، والسلبية ، واللامبالاة ، كما لا تعترف بالاستغلال ، ولا تعترف بالاستغلال حرية . وهي في نضالها في سبيل الحرية تعرف حدودها ، وترفض الادعاء بالحرية المطلقة الخالدة التي لا تعرف الحدود . فحرية الوجود القومي شرط لحرية التطور . وحرية المعرفة شرط لحرية الرأي . وحرية الرأي شرط لحرية العمل .
وكما تلزم الطليعة العربية غيرها حدود الحرية تلتزم هي تلك الحدود . فحيثما تتصدى للمشكلات ، لا تعرف غير الديموقراطية سبيلا والشعب سنداً . فالشعب إذ هو الامتداد الأفقي للمجتمع ، يكون المصدر الوحيد لمعرفة المشكلات لأنها مشكلاته . إن ألف نظرية في وصف الجوع أقل بلاغة من صرخات الجائعين ، وكل ما يقال عن الديكتاتورية لا يفسرها كما تفسرها آلام المضطهدين . ولا تمتد المشكلة رأسيا إلى حيث تصبح مشكلة عامة إلا بمقدار الناس الذين تعبر عن آلامهم ، وفي هذا لا يمتاز إنسان بمهنته ، ولا بثقافته ، ولا بلونه ، ولا بدينه ، ولكن بحدة المشكلة التي يعانيها كإنسان . ولا تميز الطليعة العربية حدة المشكلة إلا بمدى اتساع جبهة الناس الذين تفسد حياتهم ، فهي ترفض التقسيم الطبقي ، كما ترفض التقسيم على أساس من الدين ، أو اللون ، أو المهنة ، وتحترم الانسان كإنسان ، وتتخذه نقطة انطلاق وغاية . ويعلمها هذا الاحترام أن ترفع عن الانسان العربي كل ما يضغط إرادته وأن تحرره ، أولا وقبل أي شيء ، من الخوف .
ثم تلقى الطليعة العربية بنفسها في أحضان الشعب العربي ، وتلتصق به ، وتتفاعل معه تفاعلاً حياً ، وتشاركه آلامه مشاركة تسمح لها بمعرفة مشكلاته ومدى آلامها . وهي تفعل هذا بحب وتسامح وصبر ؛ لأنها تعلم أن تبادل المعرفة بالمشكلة أول حركات التطور الجدلي . كما تعلم أن التصميم الجماعي لحل المشكلة هو الحركة الثانية في قانون الجدل . لهذا فهي إذ تستفيد من ادراكها الشامل للمشكلات ، فتقترح الحلول ، تعرض هذه الحلول للجدل الاجتماعي لتصقلها خلال المناقشة المتحررة من الخوف والتعصب ، ولتختبر مدى سلامتها على ضوء قبولها أو تعديلها أو رفضها من الناس أنفسهم أصحاب المشكلات التي هي حلول لها . وبهذا يصبح الشعب العربي قاعدة الطليعة العربية ومصدر ثقافتها . ولا تفرض الطليعة العربية على الشعب العربي إرادتها ، ولا تتهمه ، إذ انها تعلم أن وجود المشكلة لا يغني عن ادراكها حتى تحل ، وأن عليها ، بحكم وعيها الشامل ، أن تفجر وعي الناس لمشكلاتهم وحلولها ، وأن عليها أن تصل إلى هذه المقدرة القيادية لتتوافر لها الوسيلة الوحيدة لتحقيق الحرية والوحدة والاشتراكية : توعية الجماهير وتنظيمها وقيادتها . بهذا تتحصن الطليعة العربية ضد الفاشية والانتهازية ، وتحتفظ بثقتها التي لا حد لها بالجماهير العربية ، وبهذا تكون طليعة عربية ديموقراطية حقا ، فإن الثقة التي لا حد لها بالشعب هي جوهر الديموقراطية ، وكل شكل لها ليس أكثر من تنظيم لإطار التعبير عن تلك الثقة .
-8-
والاشتراكية

بالوحدة وخلال النضال الديموقراطي تقود الطليعة العربية تطور الوطن العربي الى الاشتراكية . ففي أي مكان من الوطن العربي ، وأياً كانت درجة النمو الاقتصادي فيه ، تلغي الطليعة العربية الاستغلال أيا كانت اسبابه . لا تسمح الطليعة العربية بأن تتخذ حرية الملكية ذريعة ليتملك تفر كل شيء تاركين الشعب العربي بدون ملكية على الاطلاق ، أو أن تكون أداة للقهر الاقتصادي . وحيثما قامت الملكية بدون استغلال فإنها تدعمها حرية مكتسبة . وفي سبيل الاشتراكية تحشد الطليعة العربية جهود الجميع في عمل منظم على خطة واحدة ، غايتها أن تحقق ، بالاسلوب العلمي ، كل ما تستطيع ظروف الوطن العربي أن تقدمه من ثروات تكفي ليتحقق لكل عربي المضمون المادي لحرياته ، إذ الاشتراكية عند الطليعة العربية حرية كاملة ، وبهذا تلتحم الحرية بالاشتراكية لتصبح الاشتراكية حياة حرة .
في سبيل هذا ، لا تقبل الطليعة العربية الاحتجاج بأي نظام متخلف في الملكية ، أو الانتاج ، أو التوزيع ، ولا تنتظر حتى تعلمها التجربة المرة ما تعلمته الشعوب من مرارة الحياة في ظل الاستغلال الرأسمالي ، بل ترفض أن تنمو في الوطن العربي بذور الرأسمالية المستغلة أصلا ، وتقتلع جذورها اينما نمت ، متجهة بالتخطيط الاقتصادي العلمي من حيث انتهى التطور الاقتصادي الى الاشتراكية رأسا ، في طريق مطهر من بدايته الى نهايته من الاستغلال والقهر الاقتصادي .
غير أن الطليعة لا تخلط بين الاشتراكية كغاية ووسائل تحقيقها . ولا تتجاهل عدم استواء النمو الاقتصادي في الاجزاء . ولا تتجاهل ما تركته التجزئة من آثار على التطور الاقتصادي في اقطار الوطن العربي . لهذا فإن التخطيط الاقتصادي ، ومواجهة مشكلات التطبيق ، ستكون على الوجه الذي تقتضيه الاساليب العلمية لتجاوز التخلف الى التنمية ثم الرخاء ، مع الاحتفاظ دائما بالحرية غاية من الاشتراكية . لهذا لا تقبل الطليعة العربية أن يحل مستبد محل مستبد ، وأن يقوم مستغل مقام مستغل ، ولا تتذرع بالاشتراكية لفرض العبودية . ولا تقبل الفاشية ولو خططت ولو أممت ، وبهذا تبقى حرية الانسان العربي في الاشتراكية العربية غاية الطليعة العربية وحداً لا يتجاوزه التخطيط الاقتصادي . بهذا الوعي تكشف الطليعة العربية الانتهازيين ولا تكون هي انتهازية ، وتسحق الفاشية ولا تكون هي فاشية ، وتبقى طليعة عربية اشتراكية ديموقراطية .
-9-
أشمل وعياً
غير أن الطليعة العربية تتجاوز كل الوحدويين والديموقراطيين والاشتراكيين ، بوعيها الشامل لتكامل الحرية والوحدة والاشتراكية في الاشتراكية العربية ، التي هي حل واحد لمشكلة حرية الشعب العربي ، ينطوي على مضامين غير قابلة للتجزئة ، لا في المحتوى ، ولا في التطبيق . فحرية وجود الشعب العربي تقتضي تحرره من الاستعمار الذي ينتقص من هذا الوجود . وإذ يجد الشعب العربي نفسه ، فينطلق الى تحقيق حريته في مواجهة ظروفه ، يحتاج الى الوحدة السياسية ، أي أداة التطور التي تحتمها وحدة المشكلات . واذ تكون المشكلات مشكلات الشعب ، والحلول حلول الشعب ، فلا بد من أن يعرف الشعب مشكلاته ، ويقترح لها الحلول ويسهم في تنفيذها ، أي لابد من الديموقراطية . وفي سبيل أن تتحقق للشعب العربي حريات ذات مضمون مادي ، وليس حريات شكلية ، لا بد من أن ينظم اقتصاد الوطن العربي إنتاجاً ، وتوزيعاً ، واستهلاكاً ، بحيث يتحقق المضمون المادي لحريات الشعب بغير استغلال ، أي لابد من الاشتراكية . وكلها يكمل بعضها بعضا لنؤلف معا نوع الحياة الواحدة التي تناضل الطليعة العربية في سبيل تحقيقها تحت اسم الاشتراكية العربية . وكما تتكامل مضامين الاشتراكية العربية في المحتوى لتكون حلاً واحداً ، تتكامل في التطبيق لتكون ثورة واحدة . فالوحدة السياسية هي أداة التطور التي تحتمها وحدة الوجود القومي . والوحدة تطرح مشكلات التطبيق على مستواها الحقيقي ، وتقدم الامكانيات الكاملة للحل الشامل . غير أن هذا الحل الشامل لن تحققه الظروف تلقائياً . فابتداء من الوحدة يقع على الجماهير العربية عبء استعمال امكانياتها لحل مشكلاتها . ولا يتم هذا إلا عن طريق الجدل الاجتماعي ، فلا بد اذن من الديموقراطية . ومن هنا لا تغني الوحدة عن الديموقراطية ولا تغني الديموقراطية عن الوحدة . إذ الوحدة نقطة انطلاق ، والديموقراطية تنظيم لخطا هذا الانطلاق ، أما غاية الانطلاق فالاشتراكية . الوحدة شرط لمعرفة المشكلة معرفة صحيحة ، والديموقراطية شرط لحلها حلا سليما ، والاشتراكية تنفيذ لهذا الحل ، وبذلك تكون معا الحركة الجدلية للنضال العربي .
لا ينقص التقدميين العرب إلا الوعي الشامل ليعرفوا هذه الوحدة العضوية لغايات الشعب العربي . وبهذا الوعي الشامل تتجاوز الطليعة العربية التقدميين العرب لتكون به طليعة النضال العربي .
-10-
نقطة الانطلاق
في سبيل تلك الغايات ، وعلى هدى وعيها الشامل ، تقود الطليعة العربية نضال الشعب العربي على أسس علمية ، لا مدعية ولا متمنية ، إذ لا مكان للمثالية في تطوير الشعب . فالخطوة الاولى في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية تبدأ من حيث انتهى التطور . من واقع الاستعمار وفي ظله يبدأ النضال في سيل التحرر . وفي الاقطار المجزأة يبدأ النضال في سبيل الوحدة . ومن التخلف الاقتصادي تبدأ المسيرة الى الاشتراكية . لهذا تعلم الطليعة أن التطبيق الاشتراكي في مصر مثلا لن يكون مماثلا في نفس الزمان للتطبيق الاشتراكي في اليمن أو العراق أو الحجاز أو السودان أو غيرها من الاقطار العربية . ولن تتحقق الديموقراطية في الوطن العربي بمجرد توحيد نظم الانتخاب والتمثيل . ولن يعود كل قطر الى حظيرة الوطن العربي الكبير بأسلوب واحد . ولن يتحقق كل هذا بالوعود ، أو العهود ، أو بالالفاظ ترص رصا في البيانات والدساتير والقوانين . إنما يتحقق بالمواجهة الثورية للظروف ، وتطبيق الحلول العلمية الملائمة لمشكلاتها ، للقضاء في النهاية على التجزئة والتخلف والاستبداد ، مع احتفاظ الطليعة العربية دائما ، وفي كل الظروف ، بالغايات القومية ، فتقود الظروف الى تلك الغايات لا تنحرف ولا تتوه ولا تتراجع .
-11-

ثم الثورة
إن عمق الوعي وشموله ، ووضوح المنهج الفكري يحدد الثورة اسلوبا لنضال الطليعة العربية ، تستمد المقدرة عليها من ثقتها بأمتها ، وبنفسها ، وبأنها تناضل في سبيل غايات منتصرة . وفوق هذا تعرف الطليعة العربية ما الثورة ، وضد من تثور ، وتحدد على ضوء هذا موقفها من الظروف ، ومن الناس ، ولا ترفع شعار الثورة إدعاء وتضليلا ، ولا تتخذه ذريعة الى الاجرام الدامي ، فحيثما كان الشعب العربي قادرا مقدرة مشروعة قانونا على الكفاح الديموقراطي في سبيل غاياته ، يكون اسلوب نضال الطليعة العربية توعية الجماهير ، وتنظيمها ، وقيادتها ، في نضال ديموقراطي لتحقيق غاياتها ، إذ حيث تقوم الديموقراطية لا يوجد مبرر الثورة إلا مجازا ببذل الجهد المضاعف لبناء الحياة . أما حيث تفرض على ارادة الجماهير قيود تسلبهم حريتهم : ببطش الاستعمار ، أو الاستبداد الفاشستي ، أو القهر الاقتصادي ، أو القتال الباغي ، فإن الطليعة العربية تحطم النظم والقوانين والعلاقات التي يصوغها المستبدون قيودا على ارادة الجماهير . وحيث تبيح القوانين العنف ضد الشعب ترد الطليعة العربية العنف بمثله ، وتحطم القيود لتعود بالشعب الى الحرية ، فتعود الى توعيته وتنظيمه وقيادته لا تقتل ولا تقهر ولا تستبد . وعلى هذا تحدد الطليعة العربية موقفها من اعدائها ، فلا تطغى ولا تقبل الطغيان . عندئذ فإن مسئولية الدماء ستكون على رؤوس المعتدين ، ولن تتوقف الثورة احتراماً لإرادة المستعمرين والمستبدين والرجعيين . أما التقدميون فإن الطليعة العربية مفتوحة الأبواب لكل طليعي منهم .
-12-
فمن الطليعي
لا يكفي الوعي الاكاديمي لأفكار الطليعة العربية وقبول مبادئها ، ولا يكفي الانضباط الديموقراطي داخل الطليعة ، ولا تكفي المقدرة على النضال الثوري ، ليكون التقدمي طليعياً . فقد تعلمت الطليعة العربية من التجربة المرة كيف ينحرف من كانوا يبدون أكثر الناس وعياً ، وكيف يخون من كانوا يبدون أكثر الناس اخلاصا ، وكيف ينهزم من كانوا يبدون أكثر الناس مقدرة على النضال . ورأت الطليعة العربية – وتعلمت مما رأت – خيانة فقهاء الوحدة للوحدة ، وخيانة فلاسفة الاشتراكية للاشتراكية ، وخيانة الديموقراطية من دعاة الديموقراطية ، واتضح من التجربة المرة في الوطن العربي أن المعول النهائي في أية حركة سياسية على نوعية اعضائها ، وان انضباط التنظيم ، واتساع القاعدة ، وحتى سلامة الاتجاه في أية حركة سياسية ككل ، لا تمنع الخيانة والانحراف والتخريب ، عندما تصل الى مرحلة التنفيذ وتحمل المسئولية . لقد اثبتت التجربة كيف أن أروع المباديء تصبح نفاية قذرة في الايدي الملوثة ، وأجمل الدعوات تصبح تضليلا قبيحاً من أفواه الكذابين . وبذلك اثبتت الحياة ذاتها أن أي مذهب أو نظام لا يكون قابلا للترجمة الى ما يغني حياة الانسان ماديا وخلقيا وفكريا لغو لا يستحق أن يبذل جهد من أجله ، وأن الاستقامة الخلقية ليست ضرورة في الاعضاء فحسب ، بل غاية في الحركة ايضا . وبهذا لم يعد مفهوما كيف يؤدي الفقر الخلقي الى اغناء حياة الناس ، وكيف يمكن لأية حركة تجرد اعضاءها من غاياتها أن تحقق تلك الغايات . كان هذا حصاد التجربة ، فلما أن ثبت علميا أن الانسان غاية كل تطور ، أصبحت أية حركة مفرغة من مضمون اخلاقي عاجزة حتما عن تحقيق مستقبل أفضل . لهذا لابد للطليعة العربية من أن تكون غنية حتى تغنى ، وان تكون الاستقامة الخلقية شرطا في اعضائها ، وغاية من غاياتها ، وبذلك تتجاوز الطليعة العربية كل الحركات السياسية المعاصرة ، ويصبح لها ، بالإضافة الى الفكر الذي تقيس عليه مدى الوعي ، والتنظيم الذي تقيس عليه مدى الانضباط الديموقراطي ، والثورة التي تقيس عليها مدى المقدرة على النضال ، مفهوم اخلاقي تقيس عليه مدى صلاحية الواعي المنظم المناضل ليكون طليعياً .
-13-
اخلاق الطليعة
إن ضرورة المضمون الاخلاقي في أية حركة سياسية لا تعني اصطناع نماذج خلقية لا جذور لها في المجتمعات التي تعيش فيها . تلك مثالية عقيمة . ولكن تعني أن تكون شاملة لقضايا الانسان تأكيدا لأصالتها ، وصدق تعبيرها عن ضرورات الحياة التي تتصدى لتطويرها . وقد تكفلت الممارسة الطويلة للحياة المشتركة ، وتفاعل الناس في كل مجتمع بإرساء قواعد السلوك السوي والسلوك المنحرف . واستمدت الشعوب القيم الخلقية السائدة فيها من التجارب التي صقلتها حتى انقلبت الى حقائق في وجدان المجتمع تصلح للحكم دون تقصي علة الادانة . ففي كل مجتمع حصيلة غنية من القيم التي كانت وليدة تاريخه الخاص . ومهما بعدت المبررات الاجتماعية التاريخية للقيم الخلقية ، فإن تلك القيم حقائق كافية تظهر عند أي استفزاز سلوكي ، فتدينه الجماهير طبقا لمقاييسها السائدة . وتكون هذه الحصيلة من القيم عنصرا هاما من عناصر ظروف كل أمة ، فيه اصدق الدلالات على إمكانيات تطويرها واتجاه هذا التطوير . لهذا يكون عبثا أن تحاول أية حركة سياسية الاسهام في تحقيق مصير أمة متجاهلة خصائصها الخلقية ، غير مقومة تلك الخصائص ، وغير معدة لمستقبلها قيمه الخلقية ، وغير مبررة كل هذا على هدى نظرية علمية صلبة . ذلك أن المقاييس المستمدة من الماضي قد تصلح للحكم على مثل ما كان موضع تجربة ماضية ، إلا أن الحياة تطرح في كل يوم جديداً . وتحتاج في كل يوم الى تقييم أنواع من السلوك لم يكن لها مقابل فيما مضى . ولا شك في أن التاريخ الطويل الذي قضته الأمة العربية في ظل الدين الذي تكونت به أمة ، ثم صنعت الحياة على هدى القيم التي أرساها ، قد وفر بها حصيلة بالغة الخصوبة والسمو معا يمكن أن تسمى أخلاقا اسلامية . ولا يزال العربي يتميز بالعزة والصدق والشجاعة والمروءة والكرم … الخ ، مميزات لم تأته من البداوة الضارية ولكن من حياة الأخوة في ظل الثقافة الاسلامية . غير أن السمة الانسانية العامة للقيم الخلقية الاسلامية تركت الفرصة للمغرضين من أدعياء الدين ، الجاهلين به ، لكي يتلمسوا من تاريخ المسلمين ما يثبتون به قيم التخلف والهزيمة . يعارضون بحصيلة الانحطاط في بعض مراحل التاريخ أسمى القيم الخلقية كافة ، بحجة أن المنحطين كانوا حينئذ مسلمين . لهذا لابد من ارساء القيم الخلقية على أساس علمي ، فإن صح المنهج الذي يرسيها فلا بد أن يتفق مع الحق مما ينسب الى الدين ؛ لأن جدل الانسان لا ينقض الاديان ، ولكن يفسر بالمنهج العلمي في زمان معين ما يخص زمانه ، قدرا مما جاءت به الاديان لكل زمان .
وسيلة الطليعة العربية الى تحديد الاساس العلمي لنظريتهما في الاخلاق لابد أن يكون ذات المنهج الذي يحكمها حركة ووعيا ونضالا . واستيعاب ذلك المنهج والاحاطة بابعاده يضع في ايدي الطليعة العربية مقياسا دقيقا لاستواء السلوك الخلقي أو انحرافه . لهذا تركز الطليعة العربية على نضج الوعي العقائدي والالتزام الديموقراطي لتثبيت القيم الخلقية واستواء السلوك المعبر عنها . وهكذا لا تعرف الطليعة العربية الفصل بين القيم الخلقية وبين اهدافها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ولا يمكن أن تقلل من دلالة الانحراف الخلقي على الانحراف العقائدي والنضالي معاً ، وشعارها في هذا أن الانسان المفرغ من القيم الخلقية لا يمكن أن يكون واعيا أو مناضلا أو تقدميا .
وجدل الانسان يزود الطليعة بمقياس التقييم الخلقي . معنى هذا انها تستطيع على هديه تحديد القيمة الخلقية لأي نمط من السلوك مهما كان مضمونه . وانماط السلوك لا حصر لها ؛ لهذا يكفي عرض بعض المفاهيم الخلقية التي يمكن أن يؤدي اليها استيعاب جدل الانسان .
في الاجابة عن السؤال الأول : ما الفضيلة وما الرذيلة ؟ ما الخير وما الشر ؟ يقدم جدل الانسان اجابة غير مشوبة بالمعاني المجردة التي تصاغ لتأييد مواقف سابقة . فإذ يحدد جدل الانسان الحركة الجدلية التي يتم خلالها التطور تكون الاجابة على الفور . إن كل ما يسهم في التطور ويساعده فضيلة ، وكل ما يقف في سبيل التطور ويعرقله رذيلة . وبذلك يكون للفضيلة وللرذيلة أساس علمي فلا تختلطان ؛ فهما قيمتان مرتبطتان بحركة المجتمع نفسه . ولما كانت حركة المجتمع تتم على أسس علمية ، وكان تحليل الحركة ذاتها يكشف عن ترتيب خاص ، فإن الانضباط المحكم لحركة التطور هو ذاته الذي يضبط تقييم الفضيلة والرذيلة ، دون أن يترك ثغرة للمثالية العقيمة . هذا الارتباط بين الفضيلة والرذيلة وبين حركة التطور يحدد ابعاد الفضيلة والرذيلة أيضا .
فإذا كان التطور اندفاعا من الماضي الى المستقبل يخلف وراءه في كل وقت ما يفقد قيمته ، فما يكون جديدا يصبح ماضيا ليخرج منه جديد ، فإن مؤدى هذا أن قيمة مضمون التطور مرتبطة بالزمان الذي يقتضيها ، والزمان الذي تتم فيه ، وأنها قيمة نسبية في الزمان . ومن هنا لايصح ما يقال له الخير المطلق أو الشر المطلق . إن أسمى الفضائل في عصر من العصور قد تكون أحط الرذائل في عصر غيره ، لأن الفضيلة والرذيلة ، إذ هما مرتبطتان بالتطور ، لا يمكن أن تتخطياه . فكما أن حاجة المجتمعات متغيرة ، فإن القيم المعبرة عنها متغيرة معها . لا يقدح في هذا اختلاف مدى التغيير وامكان ادراكه . فإن كانت بعض الفضائل تبدو كما لو أنها مطلقة لأن الادراك لم يتصل بالماضي الذي سبقها ، ولم يتصل بالمستقبل الذي يتخطاها ، فليس معنى هذا انها خالدة أو مطلقة ، ولكن معناه ، أنه على مدى الادراك في زمان معين ، تبدو تلك الفضائل متفقة مع ضرورات الحياة التي يحيط بها الادراك ، لا أكثر من هذا .
كل شيء نسبي في الزمان حتى الفضيلة والرذيلة . غير أنه منذ أن وجد الانسان وجدت معه قيم متصلة به كإنسان ، فهي وإن كانت عامة ، إلا أنها ليست مفهوما مجردا ، أو فكرة مطلقة ، بل قيمة انسانية لا تنسب مثلا الى الحيوان ولو كان الحيوان قد سبق الانسان وجوداً . وسنلتقي فيما يرد من حديث ببعض من هذه القيم التي استمدت سمة الفضيلة فيها من أنها للانسان وحده وأنها بعض انسانيته .
أول أثر لهذا أن الفضائل التي تتصل بالإنسان كإنسان فضائل عامة لا يحدها مكان . وفيما بعد هذا تتحدد نقطة انطلاق كل مجتمع من ظروفه ، وتطبع الظروف المشكلات التي تطرحها بطابعها ، وتقدم امكانيات الحلول الخاصة بها ، ليستطيع الانسان الذي يعيش في تلك الظروف أن يحقق مستقبلا خاصا به . ومعنى هذا أن مضمون التطور يختلف من مجتمع الى مجتمع في المكان ، وتختلف معه القيم المعبرة عنه . صحيح أن هذا التخصيص غير دائم ، لأن المجتمعات الانسانية مندفعة الى تخطي حواجز التخلف بينها ، ولكن الى أن يستوي التطور على درجة إنسانية واحدة ، تبقى لكل مجتمع مشكلاته الخاصة ، وفضائله الخاصة ، ويمكن هنا القول بأن الفضيلة والرذيلة ليستا مطلقتين في المكان كما أنهما ليستا مطلقتين في الزمان . لكل مجتمع فضائله ورذائله . لكل مجتمع اخلاقه.
-14-
أخلاق الطليعي العربي
على ضوء هذه الوحدة بين الوعي والتنظيم والاخلاق ، يتحدد موقف الطليعي حيال سلوك غيره ويتحدد سلوكه هو . فالطليعي العربي لا يدين سلوكا كان وليد ظروف مجتمع غير المجتمع العربي ، إلا أن يكون عدوانا على انسانية الانسان ؛ لأنه وهم شركاء في المجتمع الانساني . أما في غير هذا ففضيلته الخاصة أن يحترم عادات وتقاليد وأخلاق الشعوب كافة . لأن الطليعي العربي يعرف أنه مهما تبدو تلك العادات والتقاليد وقواعد السلوك شاذة في نظره ، بل حتى لو بدت له رذائل يعجب كيف يطيقونها ، فإنها من صنع ظروفهم ، وأن تغييرها رهن بمعاناتهم حيث يعيشون ، ومن حيث ينطلقون . وبذلك يتميز الطليعي العربي بهذه النظرة المتسامحة المفعمة بحب الناس كلهم ، وقبولهم كما هم ، المؤسسة على إدراك القيمة النسبية المتساوية لأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم . وبهذه النظرة ذاتها يرفض الطليعي العربي التفوق الطبيعي الذي تدعيه بعض الاجناس ، ولا يدعيه لنفسه .
وادراك الطليعي العربي نسبية القيم الخلقية تحرره من الشعور بالنقص إزاء اخوة له من بني البشر ، وتغني ثقته بنفسه وبأمته وتقاليدها وأخلاقها وتمنحه الوضوح الكافي لكشف الوسائل المغلفة بدعوات اخلاقية التي تهدف في حقيقتها الى فرض قيم غريبة على أمته تمهيداً لاهدار ذاتيته . كا أن الطليعي العربي لا يضيق بما تفرضه عليه امته من قواعد الاخلاق ، ولا يصطنع لنفسه سلوكا مستعارا من خارج بيئته ؛ لأنه يعلم أن السلوك السوي لا يكون بالافلات الفردي من الظروف القومية ، والانتماء المشبوه الى مجتمعات غريبة ، بل يكون بالتعاون الجماعي لحل مشكلات الظروف المشتركة .
وفي مواجهة نفسه يستمد الطليعي العربي من وعيه قيمه الخلقية كإنسان :
فهو يعرف أنه متأثر بغيره مؤثر فيه غير منفصل عن الناس أو عن الظروف ، وأنه في تأثره وتأثيره متحرك جزءا مع الكل حركة دائمة ، ومتغير معه تغيرا غير منقطع حتى لو لم يدركه حسيا ، وأن التأثير والتأثر والحركة الدائمة والتغير المستمر قوانين حتمية تحكمه وتحكم كل شيء معه . من هذه القاعدة الاولى يكوّن الطليعي العربي قيمه الخلقية الاولى ، فلا يكون سلبيا ، او لا مباليا ؛ لأن السلبية واللامبالاة ليست انحرافات خلقية فحسب بل جدب وفراغ خلقي أيضا إذ هي مضادة لقوانين الحياة . كذلك كل ما يتصل بها ويتفرع عنها من انماط السلوك كالأنانية ، والطمع ، والغرور ، والاستعلاء ، انحرافات خلقية ؛ لأنها تعبر عن انكار ، أو تجاهل ، التأثير المتبادل بين الانسان والنوع الذي ينتمي اليه . وبينه وبين الظروف التي يحياها . إن الطليعي العربي لا يمكن أن يتصور لحظة واحدة أنه قائم بذاته ، غني عن الناس ، وعن الاشياء ، وأنه المحور الوحيد الذي يجب أن تدور عليه افكاره واحلامه . ولا يمكن أن يسقط كل مصلحة إلا مصلحته ، أو يحاول أن يحقق مستقبلا موهوما على حساب مستقبل غيره ، ولا أن يحل مشكلاته على انقاض حياة الناس . تلك قيم خلقية تضبط سلوكه استمدها من علمه أنه جزء من كل وأنه ليس المؤثر الوحيد في كل شيء الذي لا يتأثر بأي شيء .
ثم أن الطليعي العربي ، يعرف أن التأثير المتبادل يؤدي في حركته الى تغير دائم ، وأن أحداً ، لا يفلت من هذا المصير . عندئذ تصبح التقدمية خلقا طليعيا ، وتصبح الرجعية عقما اخلاقيا محضا . إن الطليعي العربي لا يعرف شيئا أو احدا ، يستحق الخلود ؛ لأن قوانين الحياة لا تسمح بهذا الخلود . ويعرف بهذا أن معرفة التاريخ علم ، ومحاولة اعادته انحراف جاهل . لهذا يطهر نفسه من كل القيم والتقاليد والاخلاق التي كانت حصيلة الاطوار التاريخية التي انتهت الى غير رجعة . لقد ولى العهد القبلي فحتم أن يكون الطليعي العربي مطهرا من التعصب القبلي . وانقضت المجتمعات الدينية فحتم على الطليعي أن يكون مطهرا من التعصب الديني . إن الطليعي العربي لا يتحيز للماضي ، ولا يعطل المستقبل ، ومن هنا يعرف لماذا لا يمكن أن يكون الانفصالي ، او الاقليمي ، أو الرأسمالي على خلق . ومن هنا ايضا يعرف الطليعي العربي لماذا تمثل القومية والديموقراطية والاشتراكية قيما خلقية بالاضافة الى كونها حلولا اجتماعية وسياسية واقتصادية . ويعرف أخيرا لماذا لا يمكن الاعتداد بنداءات الحرية والوحدة والاشتراكية تخرج من أفواه المنحرفين أخلاقيا ، ويعرف أن انضباطه الخلقي ليس أكثر من تعبير عن وعيه العقائدي وجدية نضاله السياسي .
وإذ يعرف الطليعي العربي أن الانسان وحده هو الجدلي وصانع المستقبل ، يكسب من معرفته فضيلة حب الانسان والثقة في مقدرته الخلاقة ، فيدين بشدة ، وبكل وسيلة مناسبة ، أي احتقار للانسان ، أو حط من مقدرته ، أو حجب للثقة التي هو أهل لها . لهذا يدين الاستبداد ولا يكون مستبداً ، ويدين العنصرية والكراهية والحقد ولا يتعصب هو ولا يكره ولا يحقد . والثقة المطلقة بمقدرة الانسان تطهر الطليعي العربي من الانهزامية . إن يقينه بأنه وحده – كإنسان – القادر على تحقيق مصيره تكسبه الجرأة والشجاعة اللازمتين لتحقيق هذا المصير . إن شجاعة الطليعي العربي فضيلة غير قائمة على الاندفاع الجاهل بالظروف ، ولكن على معرفته الواعية بأنه سيد الظروف وقائدها .

ويعرف الطليعي العربي أن الانسان إذ يبدع مستقبله ، يتوقف نجاحه على المعرفة الشاملة بالظروف ، وان هذا لا يتم إلا بالمساهمة الجماعية في هذه المعرفة ، ثم الاشتراك في تصميم الحل ، بحكم أن المشكلات من ماض مشترك ، وأن المستقبل للجميع ، وان هذا كله يقتضي اتصال الظروف بوعي الانسان كما هي بغير تحريف ، وان التعبير عن الظروف بغير صدق ليس تعويقا للتطور فحسب ، بل تضليل يهدر الجهود الانسانية إذ تنطلق من واقع غير صحيح . لهذا فإن الطليعي العربي لا يكذب ويعتبر أن الكذب قاع الانحطاط الخلقي . إذ هو تزييف للظروف وتخريب لمعرفة الناس بها معرفة صحيحة . واذا كان الطليعي العربي لا يكذب لأنه لا يزيف الظروف فإنه لا ينافق ولا يضلل ولا يغش ولا يغدر ولا يخون ، ويعرف من وعيه قوانين التطور أن كل تلك الانماط من السلوك تحول دون الكشف الصادق عن المشكلات ، وتبدد طاقات الانسان في حلول مشكلات غير حقيقية ، أو تحول تلك الجهود عن مشكلات قائمة . فيدينها كقيم خلقية منحرفة . والاساس العلمي الذي حدد الكذب والنفاق واخواتهما انحرافات خلقية ايجابية ، هو الذي يحدد الاستبداد بالرأي والتبرم بالناس والضيق بآرائهم انحرافت خلقية سلبية . لهذا يبرأ الطليعي العربي من النزوع الديكتاتوري والتسلط . إن الديموقراطية عنده فضيلة خلقية ونظام سياسي معاً . والديكتاتورية انحطاط خلقي .

وبعد الحل يتحقق التطور بالعمل المشترك من الجميع لحساب الجميع . لهذا يتميز الطليعي العربي بالشعور الجماعي ، والتعاون ؛ ويعتبرهما قاعدتين أخلاقيتين يلتزمهما ، ويدين على هديهما الفردية والاستغلال والانتهازية ، وكل نمط من السلوك يخرب علاقات الناس ويقف بينهم حاجزا دون التعاون ويبذر فيهم بذور الكراهية والتفكك ، لهذا فإن الطليعي العربي لا يعتدي على حرمات الناس أو أعراضهم أو كراماتهم أو مشاعرهم ولا يقبل هذا العدوان عليه أو على غيره .
تلك بعض القيم الخلقية التي يحددها الطليعي العربي على أساس منهجه العلمي ، ويقيس عليها أي نمط من السلوك ، سلوك الناس وسلوكه , عندما يرى الطليعي العربي أن أغلب ما يهتدي اليه من القيم الخلقية طبقا لمنهجه متفق مع ما يعرفه من القيم الخلقية العربية ، يصبح الاقتناع الفكري عقيدة ، فلا يحتاج الا الى الممارسة الفعلية للنضال المنضبط في الطليعة العربية ليتخلص من رواسب القيم المنحرفة ويتحصن ضد اغراءات الانحراف . فمع الوعي العقائدي ، والمقدرة على النضال السياسي ، والانضباط الديموقراطي ، تمثل الاستقامة الخلقية في الحياة الخاصة والعامة كلتيهما شرطا لازما ليكون التقدمي العربي طليعيا عربيا .
-15-

ومدرسة
إذ تعرف الطليعة العربية أن القيم الخلقية مرتبطة بالوعي العقائدي ، فإن أول مراحل الانتماء اليها تكون مدرسة للوعي ، لايدان فيها أحد ، ولا يحقر ، ولا تسخف آراؤه ، ولا يتهم ، بل يؤخذ بيده في تسامح وحب ، ورغبة صادقة في التعاون ، ليعي بنفسه عقيدة الطليعة العربية كما هي بدون ادعاء أو مبالغة ، وليكشف بنفسه ما يكون من نقص في وعيه ، أو ضعف في مقدرته الثورية ، أو انحراف في خلقه ، بدون خجل أو سخرية ، فإن وعي المشكلة أول الطريق الى حلها . إن الطليعة العربية لا تشهر بالناس ، ولكن تضع امكانيات المعرفة والثقافة والوعي تحت تصرف الاخوة العرب ليختاروا أنفسهم القيم التي يرتضونها . وإذا كانت الطليعة العربية تدين القيم المنحرفة فإنها لا تدين المنحرفين دائما ، وإن كانت ترد الانحراف في كل وقت ؛ لأنها تعلم أن المشكلات بنات الظروف . ويلزمها تفكيرها العلمي أن تعرف الاسباب قبل أن تدين الضحايا المنحرفين ، ففي هذا إمكانيات التغلب على الانحراف . إن احترام الطليعة العربية للانسان ، والثقة به .. تحول دون اعتباره مذنبا دائما ، وانما المذنب – عند الطليعة العربية يمثل مشكلة لا بد من أن تحل . إن غضبة الطليعة العربية كلها ، ونضالها كله ، ضد الظروف التي تسمح بتخريب حياة الانسان ، ثم ضد الذين يحولون دون أن تحل مشكلات تلك الظروف ، أو يعمقون جذورها . وفي هذا كله لا تعول الطليعة العربية على ما يدعيه أي واحد لنفسه من وعي ومقدرة وخلق ، ولا على ما ينسبه الى غيره من جهل وعجز وانحراف ، بل تترك للمارسة الحية مهمة الكشف عن نوعية التقدميين . ومن خلال النضال المنظم ، تتاح لكل فرد في الطليعة العربية أفضل الوسائل لوضع وعيه ومقدرته وخلقه موضع التجربة . وبهذا تكون الطليعة مدرسة للوعي وتربية للخلق وقائدة للنضال معاً

يكتبها : حبيب عيسى
” أنصار الطليعة العربية ” : ( 1 من 5 )
الـمـيــلاد … وتـعـثـّـر النمــو …!

( صدر عن “مركز دراسات الوحدة العربية” كتاب يحمل عنوان : “الأحزاب والحركات والتنظيمات القومية في الوطن العربي” تأليف عدد من الباحثين بإشراف الأخ والصديق العزيز الأستاد محمد جمال باروت يتضمن ما يمكن اعتباره توثيق مرجعي للمحاولات التي بدأت مع بداية القرن المنصرم لمأسسة النضال القومي العربي في منتديات وجمعيات وحركات وأحزاب وعندما فاتحني الأستاذ باروت بالفكرة اعتبرتها خطوة هامة لتقييم تلك المرحلة وما رافقها من نجاحات وإحفاقات ولم أتردد بالموافقة على المساهمة بتقديم بحث عن “أنصار الطليعة العربية” أرجو أن أكون قد وفقت في الإضاءة على هذه التجربة التي منحتها ما مضى من العمر ، وسأمنح ما تبقى منه لمحاولة الانتقال إلى غائيتها ببناء “الطليعة العربية” ،أن هذا البحث يحتمل الكثير من الإضافات والتفاصيل والتوثيق ، وبالتالي فأنا لا أتحدث عن تجربة ولدت وانتهت ، وإنما عن تجربة حية تنبض روحها وتنتفض لمواجهة هذا الخراب والتخريب الذي أحدثه هذا النظام الإقليمي الفاسد التابع المخرّب بين المحيط والخليج ، لهذا أرى أن جميع القوميين العرب التقدميين ، أو من تبقى منهم ممسكاً بالبوصلة المنهجية مدعويين لافتراش “بساط الثلاثاء” على مدى الحلقات الخمس القادمة للإضافة والتعديل واقتراح الحلول للمشكلات التي أعاقت الانتقال من المرحلة الإعدادية إلى “الطليعة العربية” والأهم : كيف يمكن استئناف المسيرة باتجاه هذا الهدف النبيل .)
( ما يعنيني بالدرجة الأولى هو وضع هذه التجربة ، وهذا المشروع بين أيادي الجيل العربي الجديد ، وبتصرفه ، فهو المعني بصياغة مستقبل هذه الأمة ووضع الأسس وإبداع الأساليب لتجاوز مرحلة الخرائب وحقول الألغام التي زرعتها أنظمة الفساد والقمع والتبعية والعصبويات المدمرة للنسيج الاجتماعي والتي غيبتّ أجيالاً عربية – على مدى العقود السابقة – عن الفعل قمعاً واستلاباً وخوفاً فتم إجهاض مشروع النهوض والحرية والتقدم في هذه الأمة … إنها دعوة للفعل في الحاضر باتجاه المستقبل … !)
دمشق : 21/10 /2014
حبيب عيسى

( الحلقة الأولى : 1 من 5 ) :
“أنصار الطليعة العربية”
الميلاد ، الأهداف ، العوائق
حبيب عيسى
( 1 )
أعترف ابتداء أن هناك محاذير كثيرة تحيط بالتأريخ لحركة سياسية امتد عمرها الزمني عقوداً عديدة من دون أن تترك آثاراً ظاهرة للعيان ، وهو ما يعني ، في حقيقة الأمر أننا نتحدث عن مجرد مشروع لحركة سياسية لم تكتمل تكويناً رغم تضحيات لا يستهان بها بذلها روادها .
ولعل تلك المحاذير في تفاقم ، خاصة ، أن هذا التأريخ صادر عن أحد المعنيين بتلك الحركة ، أو بذلك المشروع ميلاداً ومآلاً … الأمر الذي يجعل الشكوك تحيط بموضوعية هذا التأريخ وحياديته ، لكن على الرغم من ذلك سأحاول أن أقدم إضاءة على الأحلام ، وعلى الظروف الموضوعية التي رافقت ميلاد ذلك المشروع في الوطن العربي ، ثم العثرات التي صادفته ، وحدّت من تأثيره سواء كانت عثرات ذاتية خاصة بالمشروع ، أو عثرات موضوعية عامة .
ومع أني واحد من المعنيين بتلك المحاولة فإنني سأحاول بقدر ما تسمح به الطبيعة البشرية أن أتجرد من العواطف والهوى ، وأقدم قراءة موضوعية ، قدر الإمكان ، لتأريخ هذه الحركة والتعريف فيها سواء من حيث الميلاد ومبرراته ، أو من حيث المصير الذي آلت إليه ، وأسباب الفشل ، خاصة أنني ما زلت أميناً للغاية التي استهدف ذلك المشروع تحقيقها ، وأعطيتها عمري ، وحمّلت ذلك المشروع أحلامي لمستقبل عربي مختلف ، وإن كنت أقوم بمراجعة شاملة للأساليب التي تجاوزها الزمن ، وتخطتها الأحداث ، فالمراجعة هنا محصورة في الأساليب ، أما الأهداف فهي عندي الآن أكثر رسوخاً من أي وقت مضى .
( 2 )
نحن أولاً أمام مصطلح مركب : ” أنصار الطليعة العربية ” وهو يحتوي على عنصرين : أنصار ، والطليعة العربية .
وهكذا فإن تفكيك هذا المصطلح يؤدي إلى أن ” الطليعة العربية ” هي التنظيم المنشود وأن ” أنصار الطليعة العربية ” هي مرحلة إعدادية يصل من خلالها ” الأنصار ” إلى هدفهم بإقامة التنظيم القومي ، الذي هو ” الطليعة العربية ”
ولكل من العنصرين مرجعيته وخصوصيته ، فللطليعة العربية مرجعية فكرية ، عقائدية ، منهجية ، نظرية تمثلت في منهج ” جدل الإنسان ” ونظرية مقترحة للثورة العربية ، وبذلك تكون ” الطليعة العربية ” سابقة على ” الأنصار ” فقد تم إشهارها في 15 كانون الثاني / يناير 1965 في كتاب د. عصمت سيف الدولة أسس الاشتراكية العربية ، الذي صدر عن المؤسسة المصرية العامة للتأليف والبناء والنشر ( الدار القومية للطباعة والنشر ) في القاهرة ، وأعيدت طباعته ضمن الأجزاء السبعة لـ نظرية الثورة العربية الصادرة عن دار المسيرة في بيروت 1979 .
أما ” أنصار الطليعة العربية ” فهي مرحلة إعدادية تقتصر مهمتها على الإعداد لمولد تلك ” الطليعة العربية ” في تاريخ محدد ومرجعيتها تنظيمية تتمثل في ” بيان طارق ” اللاحق لمرجعية ” الطليعة العربية ” بفارق عام ونصف العام ، فقد كُتب ” بيان طارق ” في منتصف عام 1966 وتم تداوله بين الشباب العربي سراً ، إلى أن تم نشر متنه التأسيسي في ختام الجزء الثاني من كتاب عصمت سيف الدولة “الطريق إلى الوحدة العربية” الصادر عن مؤسسة ناصر للثقافة ” دار الوحدة ” في بيروت عام 1975 .
كما أننا سنعتمد بالإضافة إلى ذلك وثيقة ثالثة كتبها عصمت سيف الدولة في زنزانته بعد اعتقاله في 15 شباط / فبراير 1972 تحت عنوان ” ملاحظات للدفاع في الجناية /37/ لسنة 1972 أمن دولة عليا ” ، وقد قمت بنشر تلك الوثيقة مع ” بيان طارق ” في الحلقات 7 – 17 من حلقات ” على بساط الثلاثاء ” المنشورة على الموقع الالكتروني Google- 2008 حبيب عيسى ، إضافة إلى كتاب عصمت سيف الدولة أيضاً “الطريق إلى دولة أريحا” الصادر عن ” دار الأنصار للطباعة والنشر ” في دمشق .
( 3 )
“الطليعة العربية ” :
تعتمد الطليعة العربية في الأسس على منهج ” جدل الإنسان ” الذي يمكن وضعه في الصيغة المختصرة التالية كما جاء في 15 كانون الثاني / يناير 1965 : ”
1- في الكل الشامل للطبيعة ، والإنسان .
2- كل شيء مؤثر في غيره ، متأثر فيه .
3- كل شيء في حركة دائمة .
4- كل شيء في تغير مستمر .
5- في إطار هذه القوة الكلية يتحول كل شيء طبقاً لقانونه النوعي .
6- ينفرد الإنسان بالجدل قانوناً نوعياً لتطوره .
7- في الإنسان نفسه يتناقص الماضي والمستقبل .
8- يتولى الإنسان نفسه حل التناقض بالعمل .
9- إضافة فيها من الماضي ومن المستقبل .
10- لكن تتجاوزها إلى خلق جديد …..”(1)
يترتب على ذلك أن أية محاولة لـ تغيير الواقع في ضوء التسليم بأن الإنسان هو العامل الأساسي في عملية التغيير تفرض علينا أن نبدأ بتحديد واقعنا البشري من خلال الإجابة عن السؤال التالي : من نحن ؟ ويجيب :
” نحن امة عربية واحدة ، والأمة العربية هي مجتمعنا الذي ننتمي إليه .. ما دمنا أمة عربية واحدة ، فإن هذا يعني أن تاريخنا الذي قد نعرف كل أحداثه ، وقد لا نعرفها قد استنفد خلال بحث أجدادنا عن حياة أفضل كل إمكانيات العشائر والقبائل والشعوب قبل أن تلتحم معاً لتكون أمة عربية واحدة ، وأنها عندما اكتملت تكويناً ، كانت بذلك دليلاً موضوعياً غير قابل للنقض على أن ثمة ” وحدة موضوعية ” قد نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي أياً كان مضمونها ، وأنها بهذا المعني ” مشكلات قومية ” لا يمكن أن تجد حلها الصحيح إلا بإمكانيات قومية وقوى قومية ” (2)، ويضيف :
” في نطاق المصير القومي .. بناء على ذلك عندما نكون في مواجهة أمة ، فإن وحدة الوجود القومي تحتم وحدة الدولة فيها ، بمعنى أن الدولة القومية التي تشمل الشعب والوطن كما هما محددان تاريخياً ، هي وحدها التي تجسد سيادة الشعب على وطنه القومي ، ومشاركته التاريخية فيه ، وهي لابد أن تكون شاملة البشر والأرض جميعاً لتكون دولة قومية مكتملة السيادة ، إذ عندما يخرج عن نطاقها أي جزء من الشعب ، يكون هذا الجزء قد حرم من ممارسة سيادته على وطنه ، وعندما يخرج عن نطاقه أي جزء من الوطن ، يكون الشعب قد حرم من ممارسة سيادته على ذلك الجزء من الوطن .. فالسيادة أشمل من السلطة ، إذ السلطة هي ممارسة السيادة ، وأن حق السيادة هو مصدر حق السلطة .. يترتب على هذا أن من يمتلك حق السيادة يملك حق السلطة .. وبما أن الأمة هي تكوين اجتماعي من شعب معين وأرض معينة خاصة به ، ومشتركة فيما بينه فإن هذا يضيف إلى مفهوم السيادة مضموناً جديداً هو المشاركة التاريخية فيما بين الأجيال المتعاقبة من الشعب .. وننتهي إلى عدم شرعية تنازل الشعب ” أي جيل من الشعب ” عن السيادة على الأرض وأن شرعية الدولة ذاتها منوطة باتفاق نطاقها البشري الإقليمي مع التكوين التاريخي للمجتمع .. بناءً على ذلك ، فإننا عندما نكون في مواجهة أمة ، فإن وحدة الوجود القومي تحتم وحدة الدولة فيها (3).
حاولنا أن نستخلص من ” أسس الاشتراكية العربية ” بعض العناوين التي شكلت المرجعية العقائدية للطليعة العربية ، وتم من خلالها قراءة الواقع العربي ، حيث أن كل شيء في هذا الواقع الراهن مناقض لما يجب أن يكون عليه في تلك المرجعية العقائدية : تجزئة ، ودول فعلية تقطع أوصاله ، وتنشر الفساد والإفساد والاستبداد وأجزاء محتلة واختلال واسع في البنى الاجتماعية نتيجة الاستغلال الداخلي والنهب الخارجي وهوية الأمة المهددة .. تهديداً شديداً ، وهذا يحتم على التقدميين العرب الوعي بأن التناقض الذي يحرّك التطور قائم بينهم ، وبين ظروف أمتهم ، وأن جهودهم الرئيسية يجب أن تندفع بكل طاقاتها لتحقيق “الحرية والوحدة والاشتراكية ” وان أداتهم للتغيير وتحقيق ذلك هي : ” الطليعة العربية ” ؟
ثم جاء في الفصل الأخير من “أسس الاشتراكية العربية” 15 بنداً تحدد خصائص ” الطليعة العربية ” المنشودة نورد هنا ملخصاً لها حيث “الطليعة العربية” :
– ضرورة : لابد من قوة إنسانية تتصدى لمواجهة مشكلات الوطن العربي (4).
– تنظيم : إن الحل الجدلي للمشكلات لا يتأتى إلا بالمعرفة الجماعية لها (5).
– عقائدي : إن وحدة المنهج هي الرباط الذي يحفظ للطليعة العربية وحدتها ، وينسّق نضالها ، ويحكم بين أعضائها ويساعدها على أن تضع لنفسها برنامجاً للتطبيق تحدد به مسؤوليتها أمام الجماهير العربية (6).
– قومي : يحدد وعي “الطليعة العربية” ، وجودها القومي كميدان لنضالها فتنظمّه وتديره على مستوى الأمة العربية كلها رفضاً للتجزئة وتحقيقاً للوحدة في ذاتها (7).
– ديمقراطي : إن “الجدل الاجتماعي” هو الأسلوب العلمي الوحيد لمواجهة الظروف وحل المشكلات ، وتحقيق المستقبل ، و” الطليعة العربية ” تعي أن الصراع يعوق الجدل لهذا تطهّر نفسها من إمكانية الصراع في داخلها بأن تقوم على أسس ديمقراطية صلبة ، حرية الرأي للجميع ، وعمل الجميع تنفيذاً لرأي الأغلبية ، لهذا فإن ديمقراطية التنظيم في ” الطليعة العربية ” مميز لها كطليعة وحصانة لها ضد التخريب ، والانحراف والانتهازية والفاشية ، لا تهاون في هذا ولا استثناء مهما كانت الظروف ، ولو كان ذلك على حساب المقدرة الوقتية على النضال السياسي ذلك ” أن المقدرة غير الديمقراطية مغامرة ، حتى ولو كان على حساب الكثرة ………” فإن الكثير الفاسد فساد كثير ” (8).
– “في سبيل الحرية : حرية الإنسان العربي وكل إنسان .. الحرية ليست مقدرة على الفوضى ، ولكن مقدرة على التطور” (9) .
– “والوحدة : الوجود القومي شرط التطور ، فتعي ” الطليعة العربية ” وتخطط ، وتناضل على هدي وعيها لتحرير الوطن العربي من الاستعمار الظاهر ، والاستعمار الخفي ” (10).
– “والاشتراكية : بالوحدة ، وخلال النضال الديمقراطي تقود ” الطليعة العربية ” تطور الوطن العربي إلى الاشتراكية والمساواة والعدالة الاجتماعية فتلغي ” الطليعة العربية ” الاستغلال أياً كانت أسبابه ” (11) .
– أشمل وعياً : لا تغني الوحدة عن الديمقراطية ولا تغني الديمقراطية عن الوحدة ، والاشتراكية باعتبارها غاية الانطلاق ، فالوحدة شرط لمعرفة المشكلات معرفة صحيحة ، والديمقراطية شرط لحلها حلاً سليماً ، والاشتراكية تنفيذ لهذا الحل ، وبذلك تكوّن معاً الحركة الجدلية للنضال العربي . (12)
– نقطة الانطلاق : من حيث انتهى التطور من واقع الاستعمار وفي ظله يبدأ النضال في سبيل التحرر ، وفي الأقطار المجزأة يبدأ النضال في سبيل الوحدة ومن التخلف الاقتصادي تبدأ المسيرة إلى الاشتراكية للقضاء في النهاية على التجزئة والتخلف والاستبداد . (13)
– ثم الثورة : تعرف ” الطليعة العربية ” ما الثورة ؟ وضد من تثور .. ولا ترفع شعار الثورة ادعاءً وتضليلاً ، ولا تتخذه ذريعة إلى الإجرام الدامي . (14)
– فمن الطليعي ؟ : لابد للطليعة العربية من أن تكون غنية حتى تغني ، وأن تكون الاستقامة الخلقية شرطاً في أعضائها ، وغاية من غاياتها ، فبالإضافة إلى الفكر الذي تقيس عليه مدى الوعي والتنظيم الذي تقيس عليه مدى الانضباط الديمقراطي ، والثورة التي تقيس عليها مدى المقدرة على النضال مفهوم أخلاقي ..تقيس عليه مدى صلاحية الواعي ، المنظم ، المناضل ، ليكون طليعياً . (15)
– أخلاق الطليعة : إن الإنسان المفرغ من القيم الخلقية لا يمكن أن يكون واعياً ، أو مناضلاً ، أو تقدمياً ..إن قيمة مضمون التطور مرتبطة بالزمان الذي يقتضيها والزمان الذي تتم فيه ، وأنها قيمة نسبية في الزمان . (16)
– “أخلاق الطليعي العربي : يتميز الطليعي العربي بالشعور الجماعي والتعاون ويعتبرهما قاعدتين أخلاقيتين يلتزمهما ، ويدين على هديهما الفردية والاستغلال والانتهازية ، وكل نمط من السلوك يخرب علاقات الناس ويقف بينهم حاجزاً دون التعاون ، ويبذر فيهم بذور الكراهية ، والتفكك .” (17)
– “ومدرسة : لا تعّول ” الطليعة العربية ” على ما يدعيه أي واحد لنفسه من وعي ومقدرة وخلق ولا على ما ينسبه إلى غيره من جهل وعجز وانحراف ، بل تترك للممارسة الحية مهمة الكشف عن نوعية التقدميين ، ومن خلال النضال المنظم .. وبهذا تكون ” الطليعة العربية ” مدرسة للوعي ، وتربية للخلق ، وقائدة للنضال معاً ” (18).
تلك كانت المرجعية الفكرية والعقائدية للطليعة العربية ، أما كيف تولد ” الطليعة العربية ” فقد جاء الجواب في 15 كانون الثاني /يناير 1965 : هذا حديث آخر فمتى كان هذا الحديث الآخر ؟
( يتبع : 2 من 5 )
حبيب عيسى
Email:habeb.issa@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)عصمت سيف الدولة ، نظرية الثورة العربية الجزء الثالث – المنطلقات – دار المسيرة ، ص 125
(2)المصدر نفسه ، ص 141 ، (3)المصدر نفسه ، ص 145
(4) المصدر نفسه – الجزء الثاني ، ص 129 ، (5) المصدر نفسه ، ص 129 ، (6) المصدر نفسه ، ص 130
(7) المصدر نفسه ، ص 131 ، (8) المصدر نفسه ، ص 132 ، (9) المصدر نفسه ، ص 134
(10) المصدر نفسه ، ص 133 ، (11) المصدر نفسه ، ص 136 ، (12) المصدر نفسه ، ص 137
(13) المصدر نفسه ، ص 139 ، (14) المصدر نفسه ، ص 139 ، (15) المصدر نفسه ، ص 140
(16) المصدر نفسه ، ص 142 ، (17) المصدر نفسه ، ص 145 ، (18) المصدر نفسه ، ص 150

الطليعة العربية:

كما هو معلوم أطلق الرئيس عبد الناصر في خريف عام 1963 نداءه التاريخي بضرورة بناء الحركة العربية الواحدة ( التنظيم القومي ) ، ويتسم بأهمية كبيرة التأكيد على أن هذا النداء لم يكن حصيلة تأملات فكرية أو فلسفية بل هو حصيلة ظروف شكلت بمجملها مسارا طويلا من التجربة والخطإ خاضه عبد الناصر مستهدفا في كل مرة دولة الوحدة. ( وللوقوف على هذه الظروف يرجى الرجوع إلى ورقة أعددتها في إطار المساهمة في مشروع الوثيقة الفكرية للناصريين بعنوان الحركة العربية الواحدة أو التنظيم القومي) . وعلى الفور اختار عبد الناصر خمسة من المفكرين العرب والمناضلين تحت قيادته وطلب إليهم أن يضعوا مشروع ميثاق للحركة فوضعوا وثيقة فكرية حررت من نسخة واحدة بخط يد الأستاذ أديب نحوي ( من سوريا ) وسلمت إلى الرئيس ثم كتم أمرها كما كان متفقا عليه ولكن أمرها ظل مكتوما ولم يزل ( رواية الدكتور عصمت سيف الدولة ) … أما على المستوى التنظيمي فلم يكن متاحا لعبد الناصر إلا ما يملكه: جهاز الدولة ، فيعهد عام 1964 إلى المغفور له فتحي الديب رئيس مكتب الشؤون العربية في رئاسة الجمهورية ونائب رئيس المخابرات العامة وقتئذ مهمة تكوين الحركة العربية الواحدة سرا التي اختير لها اسم ” الطليعة العربية” ولم يكن مبرر السرية الحفاظ على أمن التنظيم، بل كان مبررها أن عبد الناصر لم يكن قائدا قوميا فقط وإنما كان رئيس دولة أيضا بكل قيود الدولة المعروفة والحركة العربية الواحدة ليست مجرد تدخل في شؤون الدول العربية الداخلية بل هي إعداد القوى للثورة العربية ضد استقلالها ذاته . ولدرء أية شبهة تدخل من قبل دولة مصر في شؤون الدول العربية الأخرى بل وحرصا على أمن دولة مصر ذاتها ( التشديد من عندي) حل السيد فتحي الديب مشكلة التناقض بين إقليمية الدولة وقومية التنظيم بأن أخرج الجماهير العربية في مصر من نطاق التنظيم بذريعة أن هذه الجماهير منظمة في تنظيم ” طليعة الاشتراكيين ” ( وهذا مفهوم طبعا ؛ إذ لا يمكن أن تسمح أجهزة الأمن في الدولة – أية دولة – لتنظيم يستهدف إلغاء الدولة ذاتها…) ونشط بكل أدوات ووسائل الجهاز الذي يتبعه في الدعوة والاستقطاب والتجنيد من بين الطلبة العرب الوحدويين غير المصريين الدارسين في القاهرة وأوروبا ومن بعض الشخصيات القومية ذات الصلة بالموضوع ( كما أشار إلى ذلك الأستاذ الدكتور خالد الناصر ) ولم يكن مباحا لأي مصري أن يكون طليعيا عربيا إلا في مراكز المساعدة المكتبية للسيد فتحي الديب وهو الأمر الذي تحفظ عليه مثلا المغفور له د . عبد الله الريماوي ورفضه بشدة المغفور له د. عصمت سيف الدولة وقبله د. يحي الجمل. ويتسم بأهمية بالغة في سياق تقييم هذه التجربة ( تجربة الطليعة العربية) إيراد بعض من أسباب رفض د. عصمت سيف الدولة لعرض السيد فتحي الديب:
أ- إن المميز الأساسي للحركة العربية الواحدة التي دعا إليها عبد الناصر على أثر فشل محاولات الوحدة الثلاثية سنة 1963هو قومية التكوين الداخلي للتنظيم ، ولم تجر الأمور على هذا النحو بالنسبة “للطليعة العربية” بسبب استثناء الجماهير العربية في مصر (ثلث الأمة العربية وقتئذ) من نطاقها وإقامة نواتها الأولى على قاعدة إقليمية. وتشكل “الطليعة العربية” بهذا البناء الناقص- وهذه مفارقة- إعادة إنتاج ذات التجربة التي فشلت في ربيع 1963 والتي أعلن على أساسها نداء الحركة العربية الواحدة.
ب- إن التنظيم القومي لا يكون قوميا إذا أنشأه قائد ولو كان قائدا قوميا فذا مثل عبد الناصر، لأن مواثيقه حينئذ ستكون صبغة لأفكار قائده أو لأفكار صفوة يختارهم قائده ويرضى عنهم وسيكون مؤسسوه ممن يعجبون قائده أو ممن يعجبون به ( وهذا بالضبط ما فعله عبد الناصر حين اختار خمسة مفكرين يرضى عنهم لصياغة ميثاق الحركة) وسيكون اختيار القيادات والكوادر ممن يعرفهم القائد معرفة “شخصية” ويثق فيهم ثقة “شخصية” أو ممن يستطيعون- صادقين أو منافقين- أن يدخلوا دائرة معرفته أو يكسبوا ثقته. وستكون إرادة النمو والانتشار أو التوقف والانكماش متوقفة على إرادة القائد المؤسس. باختصار سيكون تنظيم مؤسسه أو حواريه ولن يكون بالقطع تنظيم الأمة العربية وأداة الشعب العربي في ثورته الوحدوية.
ج- إن التنظيم القومي لا يكون قوميا إذا أنشأته دولة ولو كان رئيس الدولة قائدا قوميا فذا مثل عبد الناصر ولو كانت الدولة ذات ثقل كمصر… إن الدولة هي التجسيد الحقوقي لجريمة التجزئة القومية، إنها نقيض الوحدة . إن إلغاءها هو هدف الثورة العربية ولما كان التنظيم القومي هو أداة هذه الثورة فكيف يمكن أن تنشئ الدولة – أية دولة – أداة الثورة ضد وجودها ذاته… إضافة إلى أن رئيس هذه الدولة سينكر علاقته بقواعد التنظيم إن كشفت وسيتخلى عن الدفاع عنها إن ضربت بسبب القيود التي تمنع الدولة من التدخل في شؤون الدول… لهذا فإن الدولة – أية دولة – إذ تنشئ تنظيما تسميه قوميا ستنشئه خارج حدودها ليكون – حينئذ – أداتها من خلال رئاسة الدولة فلن يكون قوميا ، إنها ستحول دون أن ينتشر داخلها بحجة أن وجود القائد يغني عن وجود التنظيم فلن يكون قوميا ( وهذا ما حدث بالضبط بالنسبة إلى “الطليعة العربية”)… إلخ وللأسف أثبتت الأحداث صحة الأسباب التي استند عليها الدكتور سيف الدولة في رفضه عرض السيد فتحي الديب ؛ إذ ما إن توفي القائد الرئيس في 28 سبتمبر 1970 حتى انهارت “الطليعة العربية”… ولقد أمكن لبعض المناضلين الناصريين من بينهم المغفور له د. أحمد صدقي الدجاني أن يعيدوا تأسيسها من جديد بعيدا عن الأجهزة الأمنية كان ذلك سنة 1973 . وتتسم بأهمية كبيرة رؤية هؤلاء المناضلين للإجراء المتعلق بإبعاد الجماهير العربية في مصر من نطاق التنظيم باعتباره إجراء كارثيا ؛ إذ لم يستطع تنظيم “طليعة الاشتراكيين” المستقل منطلقات وغايات ووسائل عن تنظيم ” الطليعة العربية” أن يملأ الفراغ الذي تركه القائد بعد وفاته، وكيف له بذلك ؟ !! وهو الواقع منذ البداية تحت السيطرة الكاملة للحلف ” البيروقراطي الرأسمالي” سيئ الذكر… لذلك عمل هؤلاء المناضلون على تصحيح الخطإ الجسيم، فأسسوا سريا في مصر سنة 1974 ما أسموها “بالخلية النواة”… ونشطت ” الطليعة العربية” في صيغتها الثانية فعقدت المؤتمرات وشكلت القيادات القطرية منها والقومية ، إلا أنها لم تكن بعيدة عن التطورات المتلاحقة عربيا ودوليا، لاسيما تلك المتعلقة ” بالحرب الأهلية” في لبنان وتوقيع السادات لاتفاقيات كامب ديفيد… إلخ على أن أبرز تطور في تقديري تمثل في دخول دولة عربية أخرى – كانت توصف أيامذاك بأنها دولة تقدمية – على الخط وحصل هذا بشكل أساسي عن طريق المال فنشأ ما يشبه الاستقطاب أو الفرز التنظيمي داخل ” الطليعة العربية” بين قلة تؤمن بضرورة مد جسور مع الدول العربية ” التقدمية” بذريعة الحاجة إلى المال وإلى قواعد خلفية على الأرض و أكثرية تؤمن بالاستقلالية وبعلوية مؤسسات التنظيم… ولعب المال لعبته القذرة في شراء الذمم… فانهار التنظيم نهائيا بعد انكشافه واعتقال أغلب قياداته سنة 1986…

2- الدروس المستفادة من تجربة “الطليعة العربية”:

لكي يكون التنظيم قوميا ويضمن استمراره يتعين:
أ- ألا يقوم على تأسيسه قائد ولو كان قائدا قوميا فذا مثل عبد الناصر.
ب- ألا تقوم على تأسيسه دولة عربية ولو كان رئيس الدولة قائدا قوميا فذا مثل عبد الناصر.
ج- أن يكون له امتداد يتسق مع مكانة مصر الجيوستراتيجية ودورها الحاسم في أي عمل وحدوي ، فهذا حكم التاريخ والجغرافيا.
د- أن يتمتع بقومية التكوين الداخلي:
* يرفض رفضا قاطعا استخدام مبدأ التمثيل الإقليمي ( القطري) ويصار إلى اعتماد مبدأ الكفاءة في التمثيل.
* يرفض رفضا قاطعا أن تتبع فروعه خطوط التجزئة.
و- أن يتمتع بالاستقلال المالي التام.
هـ – أن يسبقه تنظيم انتقالي لإعداد الكوادر اللازمة له فكريا ونضاليا عبر التفاعل الديمقراطي من القاعدة إلى القمة ويبقى بعد قيامه ليمده باستمرار بهذه الكوادر بعد إعدادها…

3- الأنصـــــــــــــــار:

في محاولة لحل مشكلة بناء التنظيم القومي بعيدا عن ” الطليعة العربية” القائمة على أساس من الانفصال، دعا الدكتور عصمت سيف الدولة عام 1966 في وثيقة عرفت باسم ” بيان طارق” ونشرت باسم حركة الوحدويين الاشتراكيين المناضلة ضد الانفصاليين في سوريا في ذلك الوقت – إذ لم يشأ أن يضع اسمه عليها حتى لا يكون موقف القارئ من مضمون هذه الوثيقة متأثرا بالموقف من صاحبها سلبا أو إيجابا كما قدر وقتئذ رحمه الله- دعا الشباب العربي إلى إعداد أنفسهم فكريا ونضاليا ضمن تنظيم مرحلي انتقالي يسبق مولد التنظيم القومي ( ويبقى بعده مؤسسة من مؤسساته) من أجل وحدة هذا الأخير – أي التنظيم القومي- تحت قيادة عبد الناصر… وهذه الوثيقة في واقع الأمر عبارة عن خطة لإعداد الشباب العربي للالتحام تحت قيادة عبد الناصر عام 1970 . لماذا عام 1970 ؟ لأن عبد الناصر كان قد وعد بالدعوة إلى مؤتمر “وطني” في هذا العام لإعادة النظر في ميثاق العمل الوطني الذي أصدره عام1962 ، ولأن عبد الناصر عبر أكثر من مرة عن رغبته في أن تتاح له فرصة التخلي عن رئاسة الدولة ليتولى قيادة الاتحاد الاشتراكي العربي كما فعل ماوتسي تونج. وكان الدكتور عصمت سيف الدولة يحسب أن كل الظروف مساعدة على أن تكون الفرصة عام 1970 ؛ حيث يتخلى القائد عن رئاسة دولة إقليمية ، وحيث يحضر الشباب العربي الذي وقع إعداده ضمن التنظيم الانتقالي المؤتمر الوطني ويشارك في مناقشة الميثاق الوطني من أجل تحويل المؤتمر الوطني إلى مؤتمر قومي وتحويل الميثاق الوطني إلي ميثاق قومي وتأسيس الحركة العربية الواحدة في القاهرة تحت قيادة عبد الناصر…
… نشرت الوثيقة وانتشرت وتكونت حولها حلقات من الشباب العربي في أقطار متفرقة عرفوا باسم ” الأنصار” . يعنون بذلك أنهم ليسوا التنظيم القومي عينه( ليسوا حزبا) ، بل إنهم فقط أنصار التنظيم القومي الذي يعملون على إعداد أنفسهم للانخراط فيه حينما تكتمل شروط تأسيسه… وللأسف الشديد، فهمت الأجهزة الأمنية برئاسة السيد فتحي الديب خطأ أن الدكتور عصمت سيف الدولة يقوم على تنظيم سياسي قومي مواز ومناهض ” للطليعة العربية” إلى حد اعتبرت نشاطه ” تخريبا” وهذا غير صحيح على الإطلاق كما يتبين من سياق سردي “لقصة” الأنصار وكما أكدت ذلك وزارة الداخلية ذاتها بعد رقابة صارمة وطويلة. إنما الذي لاشك فيه هو أن الدكتور عصمت سيف الدولة كان يناهض الأسلوب الأمني الفوقي الدولتي الفاشل في تكوين ” الطليعة العربية” لا أكثر . ولم يكن استحقاق عبد الناصر قيادة التنظيم القومي محل شك لديه في أي وقت من الأوقات؛ فاستحقاقه هذه القيادة كما قال الدكتور عصمت عن حق ” حقيقة تاريخية يشهد لها ويشهد بها عشرات الملايين في الوطن العربي. وما يشهدون بما ادعاه عبد الناصر أو تلقاه منحة من أحد ولكن بما اكتسبه بحق خلال تاريخ طويل من النضال الذي بدأ مصريا ثم تطور خلال المعارك الحية فأصبح قوميا “…على أي حال بددت النكسة وتداعياتها التي انتهت بموت عبد الناصر المفاجئ عام 1970 هذه الفرصة أو ما كان يعتبر على الأقل فرصة سانحة بيد أن الجوهري في وثيقة “بيان طارق” يتمثل بلا شك في فكرة التنظيم الإعدادي الانتقالي الذي يسبق مولد التنظيم القومي وهي فكرة نبتت نتيجة فشل التجارب التنظيمية السابقة لاسيما تجربة حزب البعث ، وتجربة القوميين العرب وأخيرا تجربة ” الطليعة العربية” وهي تجارب قام بها قوميون لاشك في قوميتهم ومناضلون لم يدخروا جهدا في سبيل وحدة أمتهم ؛ مؤداها أنه لكي يكون التنظيم قوميا لابد من أن يختار ويراقب ويستبدل قيادته أو أن يكون قادرا على هذا إذا أراد، وأن عملية إنشائه يجب أن تكون كإنشاء الجيوش الحديثة لأول مرة، لا يبدأ بالقادة “الجنرالات” ولا يبدأ بالتجنيد ولكن يبدأ بالضباط. منهم تنبثق القيادة بقياس الكفاءة وإليهم يجند الجند ليدربوهم ويقودوهم وبهذا يكتمل الجيش تكوينا ثم يبقى قوة ضاربة مهما تغير الجند ومهما تغير القادة ولا يتوقف التنظيم القومي وجودا وعدما، حركة وصعودا، فكرا وممارسة على قيادته. لابد إذن من تنظيم لإعداد “الضباط” يسبق تأسيس التنظيم القومي…وهكذا تتضح فكرة أن تجربة “الأنصار” ليست من صنف التجارب التنظيمية الحزبية لنحكم عليها بالنجاح أو الفشل، ولا تدور بالضرورة حول فكر عصمت سيف الدولة ومنهجه ؛ فهي منذ انطلاقتها في العام 1966 وإلى اليوم حالة للإعداد الجماعي المنظم فكريا ونضاليا لاسيما وأن مشروع “نظرية الثورة العربية” المثير للجدل ظهر للوجود لأول مرة سنة 1972 ( وربما لم يكن ليظهر بالشكل الذي ظهر به لو لم يكن لظهوره قصة روى بعضها على أي حال الدكتور سيف الدولة في كتابه : عن الناصريين وإليهم) … ومع ذلك أقول أنه بالرغم من البداية الصحيحة لهذه التجربة ، إلا أنها في المحصلة لم تنجح في تأسيس التنظيم القومي، الشيء الذي دفع بالكثير من القوميين الذين علقوا عليها الآمال العظام إلى التخلي عنها وانقلب الأمر إلى حد التشكيك ليس في قدرة هذه الصيغة فقط بل وفي فكرة التنظيم القومي ذاته وهو ما دفع أكثرهم إلى الانكفاء على تجارب تنظيمية قطرية تقليدية باعتبارها تجارب الحد الأقصى…

4- لماذا تعثرت تجربة “الأنصار” في تأسيس التنظيم القومي؟

تعثرت لثلاثة أسباب متكاملة على الأقل :
أ- لم يكن لها امتداد يذكر في مصر يتناسب مع القاعدة العريضة للناصريين هناك ، وليس من الصعب تفسير ذلك؛ فالموقف المعادي الذي وقفته الأجهزة الأمنية برئاسة السيد فتحي الديب من الدكتور عصمت سيف الدولة على خلفية رفضه التعاون معها في مسألة تأسيس “الطليعة العربية” على النحو المذكور حال دون ذلك وانعكس بعدئذ- أي بعد وفاة عبد الناصر وانقلاب السادات- في مواقف أغلب ناصريي مصر الذين وصل الأمر ببعضهم إلى حد التشكيك في ناصرية الدكتور عصمت سيف الدولة !! …
ب- اتخاذها منحى غير بناء في العمل السري في عصر لم يعد يحتمل بشكل جذري غلو هذا النمط من العمل ، الأمر الذي أصابها بالجمود فكرا وحركة…
ج- المبالغة في الاعتقاد بأهمية الوحدة الفكرية الجذرية على حساب العمل النضالي والاهتمام بالوحدة النضالية وفهم الأمر على نحو قدري من اتجاه واحد وفقا للمقولة النسقية الصماء: الوحدة الفكرية تؤدي حتما( ولا تسبق فقط) إلى الوحدة التنظيمية وهو ما برهنت على عكسه في كثير من الأحيان خبرة المؤسسات والتنظيمات العقائدية عبر التاريخ…

5- المؤتمر الناصري العام

وهكذا تتبلور الصيغة المناسبة لمولد التنظيم القومي فيما يلي :
أ- قيام تنظيم انتقالي مرحلي ذي صفة قومية، يكون مفتوح العضوية لكل المناضلين القوميين المهمومين بمسألة إنشاء التنظيم القومي أفرادا وجماعات وعلى اختلاف مواقعهم الحزبية والأهلية في الوطن والمهجر، ينتدب نفسه لإنجاز مهمة محددة : إقامة التنظيم القومي. إن صفة الانتقالية والمرحلية- وأشدد على هذا- لهذا التنظيم ، وكونه تحديدا ليس حزبا وإنما إطار يعد من خلاله القوميون أنفسهم فكريا ونضاليا لبناء حزب قومي واحد يتجاوز كل التنظيمات القطرية القائمة أو التي ستقام ، سيجنبه التصادم- في هذه المرحلة على الأقل- مع هذه التنظيمات ، حيث ستكون هذه الأخيرة – فضلا عن كونها أدوات معارك الممكن- ساحات للإعداد النضالي اليومي إلى حين قيام التنظيم القومي وتشكيل فروعه ( التي لن تتبع بالضرورة خطوط التجزئة الإقليمية ) ، حينئذ سيحدد الولاء للأمة ولمصلحتها الانخراط في التنظيم القومي وسيشكل الحسم في هذا الخيار البرهان الأكبر على صدق قوميتنا. أما فيما يتصل بالعلاقة التي ستنشأ فيما بعد بين التنظيم القومي وبين التنظيمات القطرية فإنها ستتوقف تعاونا أو عداء على طبيعة الموقف الذي ستتخذه هذه الأخيرة منه. من ناحية أخرى، فإن صفة الانتقالية والمرحلية ستنشئ وضعا تنظيميا ملائما ينهض بموجبه القوميون التقدميون بعملية بناء تدريجي للتنظيم المنشود يبدأ من صلب القاعدة الجماهيرية النشطة وينتهي صعودا عند القمة القيادية.وستشكل الديمقراطية ( وأشدد على هذا) بوصفها نظام الجدل الاجتماعي الأكثر فعالية الرافعة الأساس في هذه العملية ، كذلك سيمنح هذا الوضع الفرصة كاملة لتجاوز حواجز التجزئة النفسية والواقعية في اتجاه تحقيق ما أسميه قومية التكوين( اعتماد معايير الكفاءة في الفرز بغض النظر عن الانتماء والتمثيل القطريين)… وأخيرا سيرسي هذا الوضع الإطار المناسب الذي ستتظافر من خلاله الجهود المخلصة لحل كافة الإشكالات ذات العلاقة بالجوانب المادية للتنظيم المنشود من أول مشكلة التمويل والتي أتفق في شأنها مع الأستاذ الدكتور في أنها ترتقي إلى مستوى أهمية التنظيم ذاته إلى آخر مشاكل التسيير والمحاسبة على قاعدة الدروس المستفادة من تجارب الماضي وأولها أن يتمتع التنظيم بالاستقلال المالي التام…إلخ
ب- أن يلعب القوميون أو ( الناصريون) في مصر الدور الأساسي في قيام هذا التنظيم الانتقالي المرحلي؛ فاستمرارية هذا الأخير وإمكانية أن يتشكل منه لاحقا التنظيم القومي الواحد ويبقى بعد قيامه منظمة من منظماته على المعنى الذي أوردته سابقا ستتوقفان على حجم ومساهمة ناصريي مصر أو ( قومييهم) في تشكيله… من جهة أخرى يستمد هذا الدور أهميته الاستثنائية في هذه العملية من حقيقة كونه يتصل بإعداد القوى الرئيسية المنوط بعهدتها مهمة حسم المعركة – بالأسلوب المناسب- ضد الردة لصالح مصر العربية. وضمن منطلق الولاء القومي ووعي أبعاد وقوى المعركة القومية التي أصبحت مصر ( بعد الردة) ساحتها الرئيسية أرى أنه واجب على كل ناصري قومي من خارج مصر نحو أمته، أن يبذل كل ما يستطيع من جهد للإسهام أو المساعدة من خلال هذا التنظيم الانتقالي المرحلي على أن يلتحم ناصريو مصر في تنظيم حقيقي( وأشدد على هذا) يكون قادرا بجماهيره على حسم هذه المعركة كما يمكن أن يكون في مرحلة لاحقة وبعد النصر – بإذن الله- في الإقليم القاعدة ( مصر) قابلا للنمو تنظيما قوميا

وليس المؤتمر الناصري العام بأكثر من هذه الصيغة التنظيمية المرحلية الانتقالية المفقودة؛ فهو من حيث المنطلق ، انتدب نفسه لتحقيق مهمة رئيسية محددة: توحيد التيار الناصري في مصر فكريا ونضاليا ضمن أفق توحيده تنظيميا. وهو من حيث الهيكلية ليس حزبا، بل هو إطار مفتوح جامع لكل القوى القومية الناصرية أفرادا وجماعات من الوطن والمهجر، يشتغل منذ البداية على بلورة وثيقة فكرية ناصرية ستشكل مرجعية موحدة للتيار القومي الناصري ككل ويعمل بوجه عام من أجل وحدة مستقبل العمل الناصري. وهو أخيرا من حيث الاستهدافات النهائية لا يخفي بل يعلن وبكل وضوح أنه يأخذ على عاتقه شرف حفر الطريق أمام مهمة بناء التنظيم القومي الواحد…
لذلك وبغض النظر عن بعض ” السلبيات” التي أحاطت بانعقاده الأول والتي تدخل في رأيي ضمن وظيفة الفرز العادية التي تنهض بها الممارسة على قاعدة أن قوة واحدة ولو كانت أقل عددا تلتزم خطة واحدة ولو كانت أطول مدى تقود خطاها ولو كانت أبطأ حركة أنفع وأصلح وأجدى ألف مرة من قوة أكثر عددا مشكلة- وهما- بالادعاء فقط، بغض النظر عن هذه الظواهر الطبيعية وبعيدا أيضا عن بعض الأسماء “الرنانة” المفلسة والتي ليس لها من الناصرية إلا ما أتاحته لها الأقدار أو الصدف من إمكانية العمل بجوار عبد الناصر… يتعين علينا أن نتعاطى بإيجابية مع هذا المؤتمر، وأن نعمل على تطويره من موقع الشريك لا من موقع السنيد وأن ننظر إليه أخيرا باعتباره المدماك الذي سيشيد فوقه صرح تنظيمنا القومي الواحد بإذن الله…
6-…. كلمة أخيرة

هناك تجربتان هامتان تمثلان بلا شك جزءا من إرث الحركة القومية العربية ؛ أعني تجربة حزب البعث وحركة القوميين العرب اللذين حاول كل منهما أن يكون التنظيم القومي- ولم يكن أي منهما في أي وقت تنظيما قوميا- ومع ذلك ، فإنني لم أعطهما مكانا في هذا الحديث لأنني أعتبر أنهما قد انتهيا تاريخيا وموضوعيا في اللحظة التي تولى فيها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر قيادة النضال العربي مع وجودهما وبعيدا عن أي اتصال بهما وعلى وجه لم يقم وزنا لأي منهما . وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى الدلالة العميقة لقبول قيادة البعث شرط حل حزب البعث في مقابل تحقيق الوحدة ؛ فعندما يكون إلغاء أداة قامت من أجل الوحدة شرطا مقبولا منها لتحقيق الوحدة لا يعني هذا أقل من إعلان وفاة الأداة ذاتها…

من هم التقدميون

من هم التقدميون في الوطن العربي  ؟
لو كنا ماركسيين لكان جوابنا : التقدميون هم الطبقة العاملة . والثوار هم الحزب الشيوعي طليعة الطبقة العاملة فيما يزعمون . ولشد ما يسعد المستعمرين والصهيونيين والإقليميين والرجعيين هذا المنطق ” العلمي ” جدا . إذ سيبقى كل شيء كما هو عليه الى أن نفتش في الوطن العربي عن الطبقة العاملة فلا نجدها ، ونفتش عن الشيوعيين فنجدهم مشغولين بما تشغلهم به نظريتهم : إلغاء الملكية الفردية لأدوات الإنتاج ، والصراع الطبقي ، ومصلحة الطبقة العاملة في الأمم جميعا . وستفتقد الثورة عندئذ ، كل الذين لم تتح لهم فرصة ليكونوا طرفا عاملا في علاقات الإنتاج الصناعية ، وهم اغلبية الشعب العربي حيث لا وجود لهذه العلاقات أصلا في كثير من أجزائه . لو كنا ماركسيين لتهنا بحثا عن التقدميين في بلادنا المتخلفة ، وكذلك يتوه الشيوعيون في كل البلاد النامية التي لم تبلغ الطور الرأسمالي بعد .

فمن هم التقدميون في الوطن العربي ومن هم الثوار ؟
قلنا ” لما كان جدل الإنسان قانونا حتميا للتطور بالنسبة إلى الفرد وإلى المجتمع ، ففي أي زمان معين ، في مجتمع معين ، لا يكون ثمة إلا حل واحد صحيح للمشكلة الواحدة التي تتطرحها الظروف الواحدة ، سواء أكانت مشكلة فردية ام جماعية ام مشتركة . وهذا يفرض اتساق الجدل الفردي مع الجدل الإجتماعي لإمكان حل المشكلات أيا كان نوعها أو شمولها أو حدتها . وقد سبق ان اشرنا إلى صورة اختلاف الجدل الفردي عن الجدل الإجتماعي ، أو ما أسميناه الصراع الإجتماعي ، وعرفنا دوره المعوق للجدل الإجتماعي ، أي دوره المعوق للتطور . ولما كان التطور حركة المجتمع في الزمان من الماضي الى المستقبل خلال الجدل الإجتماعي ، فإن النظر إلى الصراع الإجتماعي ، في أي زمان محدد ، على ضوء الحل الموضوعي الواحد، يؤدي إلى إكتشاف تجمع المتصارعين اجتماعيا في مجموعتين ، طبقا لموقفهم من الحركة الجدلية . فالذين يدركون مشكلات ظروفهم إدراكا صحيحا عن طريق المعرفة الصحيحة بالظروف ( الطبيعة والمجتمع والتاريخ ) وقوانين تطورها ، وتأثيرها في مقدرة الإنسان على تحقيق حريته ، أداة وعائقا ، ثم يبدعون لتلك المشكلات حلولها العلمية ، أي المؤسسة على إحترام تلك القوانين ، وتغيير الظروف ـ لا بتخطيها وتجاهلها ـ ولكن بتغيير شروط فاعلية قوانين تحولها لتكون اداة للتقدم وليس عائقا في سبيله ، ثم يبذلون الجهد في أنجاز تلك الحلول وتحقيقها بالعمل وأدواته حلا فعليا للمشكلات ، أولئك ، هم صانعو التاريخ وقادة التطور . هم الذين يحققون المستقبل ، ويحلون التناقض بين ظروفهم ومثلهم العليا ، ويحققون بالعمل حرية الإنسان . هم الذين نعنيهم عندما نقول إن التطور يتم خلال حل التناقض بين الإنسان وظروفه . هم التقدميون ” .
ثم عرفنا أن الحل الموضوعي العلمي الواحد ، للمشكلات التي تطرحها ظروف الامة العربية في هذا الزمان هي : الحرية والوحدة والإشتراكية معا .
على ضوء هذا تتحدد المواقف في الشعب العربي .
فالتقدميون هم كل ضحايا الإستعمار الذين يرفضون استمراره ويناضلون في سبيل التحرر . وكل ضحايا التجزاة الذين يريدون إلغاءها من مستقبل امتهم ويناضلون في سبيل الوحدة . وكل ضحايا الإستبداد الذين يريدون ويكافحون من اجل الحرية . وكل ضحايا التخلف والإستغلال الذين يرفضون نوع الحياة التي يحييونها ، ويبذلون الجهد في بناء الإشتراكية . كل هؤلاء تقدميون ، لأنهم يرفضون ان يمتد الماضي كما هو في المستقبل ، فيتصدون لتغييره وبناء مستقبل عربي أكثر حرية . وانهم لجبهة عريضة تضم الأغلبية الساحقة من الشعب العربي ، نجدهم في كل مكان من أقطاره ، مبعثرين في تجمعات ، ونقابات ، وتنظيمات ثقافية وسياسية ، وأحزاب ومنظمات جماهيرية ن يجمعهم الألم الذي يعبر عن إدراكهم مشكلات أمتهم ، ومدى تناقض ظروفها مع مستقبلها ، ويبذلون كل قدر طاقته ، الجهد في سبيل حل تلك المشكلات وتغيير الظروف ، وإن كانوا مع هذا متمييزين : فهم متميزون تبعا للإقليم الذي يعيشون فيه ، ومتميزون تبعا للمهن التي يمارسونها ، ومتميزون تبعا لمدى لإدراكهم المشكلات ، أي مدي ثقافتهم ، ومتميزون تبعا لمدى مقدرتهم على إبداع الحلول ، أي مدى مقدرتهم الفكرية ، ومتميزون تبعا لطاقتهم على العمل . وقد يؤدي تميزهم إلى اختلافهم في أولوية الحلول في التطبيق ، ولكن هذا لا يخرجهم من صف التقدميين ….
المهم ان كل أولئك الذين يرفضون التجزاة والإستبداد والتخلف والإستغلال ، ويناضلون في سبيل الحرية والوحدة والإشتراكية تقدميون ، حتى لو اختلفوا في مناهج التطبيق وفي اولوية الحلول ، لا ينقصهم الا الوعي الشامل ليعرفوا ان الحرية والوحدة والإشتراكية مضامين متكاملة للإشتراكية العربية ولا تفاضل بينها في التطبيق .

في مواجهة التقدميين العرب تقف الرجعية العربية .
والرجعيون هم الذين لا يدركون مشكلات ظروفهم إدراكا صحيحا ، أو يتجاهلون تلك الظروف أو يبتكرون ظروفا ومشكلات لا وجود لها ، والذين لا يستطيعون ان يجدوا الحلول العلمية الصحيحة للمشكلات التي أدركوها يضللهم الجهل أو المثالية ( الفكرية والمادية ) ، والذين تقعد بهم السلبية عن بذل الجهد حلا للمشكلات ، توهما أن المشكلات تحل ذاتها ، أو اتكالا واختلاسا لعمل الآخرين ، فهم عبء على جهود الاولين وعائق في سبيل التطور .
طبقا لهذا المقياس يتحدد الرجعيون جبهة واحدة معادية للحرية والوحدة والإشتراكية ، تضم كل الذين لا يقبلون الظروف ولا يعملون لحل مشكلاتها ، أو يعملون أبقاء لمشكلات الظروف بدون حل . فالذين يهادنون الإستعمار الظاهر ، ويتآمرون مع الإستعمار الخفي ، رجعيون أيا كان وضعهم الإقتصادي . والذين يقفون ضد الوحدة ويدعمون التجزئة ، عملا او فكرا ، أو سلبا لا عمل ولا فكر ، رجعيون سواء كانوا ملوكا أو وزراء ، أم رأسماليين أم عمالا أم انتهازيين أم شيوعيين . والذين يقفون ضد الديمقراطية ويدعمون الإستبداد ، أو يقبلونه ، رجعيون ولو كانوا وحدويين ، أو كانوا إشتراكيين . والذين يقفون ضد الإشتراكية ويدعمون التخلف او الإستغلال أو يقبلونه ، جهلا أو قناعة أو إكتفاء بما عندهم ، رجعيون سواء أكانوا رأسماليين ام عمالا وحتى لو كانوا معدمين . إن كل إنسان يتحدد بموقفه من المشكلات القائمة وليس بنوع العمل الذي يؤديه . وقد قلنا ان الرجعيين في جدل الإنسان ليسوا نقيضا لازما للتطور ولكنهم عبء يعطل جهود التقدميين ، كذلك الرجعية العربية ، إنها ليست ضرورة لا يتطور المجتمع إلا بها ، ولكنها عقبة في سبيل التطور . إنهم يعطلون تحقيق الوحدة والحرية والإشتراكية ، إما بتشبثهم بالواقع أو بإنعزالهم وعدم مبالاتهم ، أو بجهلهم ، او لأنهم عملاء للذين يهمهم الإبقاء على الوطن العربي مستعمرا مجزءا متخلفا ، فهم أكثر عداوة من الجاهلين ، ويستوي الجميع في الرجعية .

موقفهم الرجعي هذا يحدد موقف التقدميين منهم . أن إنطلاق التقدميين كله إلى الأمام ، وثورتهم كلها ضد الإستعمار والتجزئة والإستبداد والتخلف والإستغلال . اما الرجعيون كعبء ، فإن إلغاءهم ، أو تقتيلهم ، او سحلهم ، لن يحقق الحرية والوحدة والإشتراكية ، فليس التقدميون سفاحين . ولكن ما يستلزمه تحقق المستقبل هو ان تجرد الرجعية من امكانية الوقوف في طريقه. عندئذ لا يكون تجريدهم من أسلحتهم إعتداء على حرياتهم ، لان حرياتهم الفردية محدودة بحرياتهم الإجتماعية . ولن يستعمل التقدميون ضدهم العفنف إلا دفاعا عن مقدرتهم على التطور . عندئذ هم المعتدون . بهذا يكسب التقدميون من حقهم في الردع شجاعة النضال الثوري ضد الرجعية . فكل الذين يناهضون الحرية والوحدة والإشتراكية معتدون ن وعلى قدر أسلحتهم يتحتم على التقدميين ان يختاروا أسلحة الدفاع عن مصير أمتهم ، فإن أعدوا للعنف فبالعنف يدفعون ولن يكونوا جائرين .
ما هي قوى الصراع الاجتماعي ؟
هناك أولاً الذين يعون الحل التقدمي ويلتزمونه ويناضلون من أجله . أولئك هم التقدميون . وهناك ثانياً . الذين يعون تناقض ” مصالحهم الخاصة ” مع الحل القومي التقدمي فيدافعون عنها ، ابقاء على الواقع ضد التطور ، أولئك هم الرجعيون . وفيما بينهما ومن حولهما تتذبذب فئات من الناس لهم مصلحة في الابقاء على الواقع فهم مع الرجعية ، ويتطلعون الى المزيد عن طريق تغيير الواقع ، ” فيستغلون ” القوى التقدمية ويحالفونها وهم يخفون نواياهم في الغدر بها والوقوف ضد ان تصل حركتها الى نهايتها – أولئك هم الانتهازيون . ثم هناك – أخيراً – قطاع عريض من الناس لايعون مصالحهم ” كما هي محددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته ” اين تقع ، أو لا يقدرون على النضال ( بمؤثر يضعف مقدرتهم ) ، فيقفون خارج الصراع الاجتماعي ولا يسهمون فيه

هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً ؟

هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً ؟

د.عصمت سيف الدولة

هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً ؟

قلنا من قبل ان بعض الاحكام التي جاءت في الميثاق كانت قد نفذت قبل اصداره سواء بالقوانين والقرارات التي صدرت عام 1961 أو بقواعد العزل والابعاد التي صدرت بعد ذلك. فلما ان صدر الميثاق بديء في تنفيذ بقية أحكامه. وكان أولها انشاء الاتحاد الاشتراكي العربي .
كان المؤتمر الوطني للقوى الشعبية قد أصدر قرارا بتفويض الرئيس جمال عبد الناصر في تشكيل لجنة تنفيذية عليا مؤقتة تقوم باتخاذ القرارات اللازمة لتشكيل تنظيمات الاتحاد . فأصدر قراراً بتشكيل الامانة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي من : أنور السادات ، حسن ابراهيم ، حسين الشافعى، كمال الدين حسين ، علي صبري ، الدكتور نور الدين طراف ، المهندس أحمد عبدة الشرباصي ، كمال الدين رفعت ، عباس رضوان ، محمد عبد القادر حاتم ، محمد طلعت خيري ، أنور سلامة .
وصدر القرار رقم 1 لسنة 1962 بقانون الاتحاد الاشتراكي العربي . وعلى أساسه تمت انتخابات الوحدات الاساسية للاتحاد الاشتراكي العربي . ثم توالت الانتخابات من 1962- 1964 انتخابات اللجان النقابية. انتخابات مجالس ممثلي العمال في مجالس الادارات . انتخابات الجمعيات التعاونية. انتخابات مجالس النقابات المهنية. انتخابات مجلس الامة.. الى آخره .
وفي 27 سبتمبر 1962 صدر اعلان دستور بتنفيذ ما جاء في الميثاق عن القيادة الجماعية فتشكل مجلس رئاسة من : جمال عبد الناصر وعبد اللطيف البغدادي وعبد الحكم عامر وعلي صبري والدكتور نور الدين طراف والمهـندس أحمد عبده الشرباصي وكمال الدين رفعت .
نلاحظ هنا ملحوظة على جانب كبير من الاهمية. ونتذكرها لأننا سنعود اليها . تلك هي ان تسعة من أعضاء الامانة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي كانوا أعضاء في مجالس الرئاسة.
وفي 23 مارس 1964 صدر دستور 1964 مقننا للثورة . وأسمي (الدستور المؤقت) إلى أن يتم مجلس الامة الجديد وضح الدستور الدائم . بدأ الدستور المؤقت أحكامه بالنص على ” ان الجمهورية العربية المتحدة دولة ديموقراطية اشتراكية تقوم على تحالف قوى الشعب العاملة والشعب المصري جزء من الأمة العربية ” . اما عن الاتحاد الاشتراكي العربي فقد نص في المادة الثالثة . ” ان الوحدة الوطنية التي يصنعها تحالف قوى الشعب الممثلة للشعب العامل ، وهي الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية هي التي تقيم الاتحاد الاشتراكي العربي ليكون السلطة الممثلة للشعب والدافعة لامكانيات الثورة والحارسة على قيم الديموقراطية السليمة “. وأصبحت عضوية الاتحاد الاشتراكي لازمة فيمن يرشح لمجلس الامة ( القانون رقم 158 لسنة 1963 المعدل بالقانون رقم 47 لسنة 1964 ) ، ولعضوية النقابات المهنية (القانون رقم 31 لسنة 1966 ) ولمجالس ادارة التشكيلات النقابية ( قرار وزير العدل رقم 35 لسنة 1964) والجمعيات التعاونية ( قانون رقم 87 لسنة 1964 )
والعمد والمشايخ ( قانون رقم 59 لسنة 1964) ومجالس الادارة المحلية ( كان القانون 124 لسنة 1960 يشترط عضوية الاتحاد القومي فاعتبروا ان الاتحاد الاشتراكي العربي حل محل الاتحاد القومي واشترطت عضويته بدون تعديل القانون ) . وانشىء التنظيم السياسي القائد للتحالف ” سرا ” عام 1963.

النجاح:
على مستوى الحرية الاجتماعية (العنصر الاول للديموقراطية) حققت الثورة نجاحا لا شك فيه. فلاول مرة في مصر وضعت الثورة خطة اقتصادية للتنمية ونفذتها الى حد كبير هى الخطة الخمسية الأولى ( 60 / 1961 – 64 / 1965 ) ، التي كان نكوص الرأسمالية المصرية عن تنفيذها سبباً مباشراً في ثورة 1961 كما ذكرنا . كان هدف الخطة زيادة الدخل القومي في نهايتها بنسبة 40% مما كان عليه في سنة الاساس وقدرت الاستثمارات اللازمة بحوالي 1576.9 مليون جنيه . وقد بلغت الاستثمارات المنفذة خلال مدة الخطة مبلغ 1513 مليون جنيه أي بنسبة 95.9% من الاستثمار المتوقع ، وبمتوسط سنوي قدره 302.6 مليون وهو يعادل 19% من الدخل القومي في المتوسط خلال سنوات الخطة . وقد ساهمت المدخرات القومية في تمويل هذه الاستثمارات بمبلغ 1095.6 مليون جنيه أي بنسبة 72.4% وبمتوسط سنوي قدره 219.1 مليون جنيه وهو ما يساوي 13.2% من الدخل القومي في المتوسط ، بينما ساهمت القروض الاجنبية بمبلغ 417.4 مليون جنيه فقط أي بنسبة 27.6% وبلغت الزيادة المتحققة في الدخل القومي في نهاية الخطة 37.1% مما كان عليه في سنة الاساس مقابل الزيادة المتوقعة والمقدرة في الخطة بنسبة 40% وبلغ متوسط معدل النمو السنوي 6.5% أي تجاوز معدل النمو الاقتصادي في مصر- لاول مرة – معدل زيادة السكان الذي بلغ خلال سنوات الخطة 2.8%. في المتوسط وكان ذلك مبشراً بحل مشكلة الفقر. وانطلق الانتاج الصناعي من مصر الزراعية!! بعد ذلك ، وفي أشد الظروف صعوبة ( الهزيمة والحرب من 1077.618 مليون جنيه عام 66 / 67 الى 1169.419 مليون عام 67 / 1968 الى 1322.968 مليون جنيه عام 68 / 69 الى 1421.987 مليون جنيه عام 69 / 1970 واصبحت مصر الزراعية دولة مصدرة للمصنوعات من 82.238 مليون عام 1966 الى 134.066 مليون عام 1970 كانت تلك هي الفترة الرائعة ، حين كان كل ما نستعمله ونأكله ونشربه ونركبه يحمل ذلك العنوانت العظيم ( صنع في ج . ع . م ) .
وانعكس كل هذا على الشعب فزاد نصيب الفرد من الدخل القومي ما بين 60 / 1965 بنسبة 28 % وجذبت فرص العمل الجديدة اليها الايدي القومية التي لم تكن تجد فرصة عمل فزاد عدد العاملين مليونا ونصف تقريبا في خمس سنوات من ( 6000600 عام 1960 الى 7333400 عام 1966 بزيادة 22.1% أغلبهم كانوا رجالا راكدين في مستنقعات الريف ، فأصبحوا عمالا نشيطين في المدن . بما تحمله المدن الى البشر من ثقافة وعلم وتقدم ونشاط سياسي أيضا (كان سكان المدن عام 1960 يمثلون 37% من عدد المواطنين فأصبحوا يمثلون 40% عام 1966 ) . ولم تكن تلك الهجرة لأن الارض الطيبة قد انكمشت بالعكس حول السد العالي العظيم 836 ألف فدان من ري الحياض الى الري الدائم وأضاف اليها 850 ألف فدان جديدة . ولم تنتقص تلك الهجرة من الانتاج الزراعي بالعكس زاد في عامين فقط من 68 الى 1969 بنسبة 15 % . وزاد المتعلمون بنسبة 132 % – عام 1966 عنهم في عام 1954 فبلغوا 4.502 مليوناً ، وفي كل شهر تبنى مدرسة فبلغت نسبة الاستيعاب في مرحلة التعليم الالزامي 69.7% وفتحت أبواب العلم لأبناء الشعب بدون مقابل فاستقبلت الجامعات أبناء العمال والفلاحين والكادحين ، وانتقلت اليهم الجامعات في الاقاليم وبدأ تكوين أغلى ثروات هذا الشعب : ” البشر المنتجون ” . وزادت البعثات للتخصص العلمي من 238 بعثة عام 1960 الى 1575 بعثة عام 1966 . وزاد الانفاق على الخدمات من 12 مليوناً عام 1960 الى 22.9 مليونا عام 1965 وتولت الدولة بواسطة أجهزتها عملية تعليم وتثقيف واسعة النطاق من خلال الصحف (التي كان قد تملكها الشعب بالقانون رقم 156 لسنة 1960) ، والاذاعة والتليفزيون، وترجمت الى اللغة العربية وبيعت بثمن يسير آلاف الكتب في سلاسل متنوعة تناولت كل مجالات الثقافة وخاصة الفكر الاشتراكي وأصبح أبناء مصر يدرسون المواد القومية ( الثورة – الاشتراكية- القومية) في كل مرحلة تعليم بصيغ متدرجة حتى المستوى الجامعي … الى آخره…
ولكن والحق يقال، والشهادة لله . حرم شعب مصر الفقير في تلك الفترة من العمارات الشاهقة والسيارات الفارهة، والكباريات الداعرة ، و ألافلام الهابطة، وحرم المنتجات الاميركية وأدوات التجميل الفرنسية والسجائر الفرنجية ومن الاصواف الانجليزية والحرائر اليابانية ، ثم انه افتقد السمسار والقمار والدولار ولم يتعامل الا بعملته، والى حد كبير حرم حق الاختيار اذ كان عليه ان ينتج والا يستهلك الا مما تصنع يديه .. هذا بالاضافة طبعا – الى انه حرم من الليبرالية ودعاويها وأفكارها وأقلامها اذ لم تسمح الثورة لأحد بأن يخاطب الشعب ويعلمه ويثقفه إلا إذا خاطبه عن مشكلاته وعلمه كيف يحلها وثقفه بأساليب حلها . فهل حرم شعب مصر من شيء .
أكاد أرى ليبرالياً يتململ ” اشمئزازاً ” مما يقرأ ، ويتمتم : ما علاقة هذا بالديموقراطية ؟ وهل يغني الخبز عن الحرية ؟ .. ما الفرق – اذن- بين البهيمة وبين الانسان يفكر ويريد ويدبر. وهل يستوي عند هذا الكاتب الانسان والبهيمة؟.. سيدي صبرك . ان كنت لا ترى علاقة التحرر من الحاجة الاقتصادية والتحرر من الجهل والتحرر من المرض ، بالديموقراطية فنحن مختلفان في فهم الديموقراطية. لكم دينكم ولي دين . اما ان الخبز يغني عن الحرية فهو قول جاهل . يجهل- على الاقل- ان الانسان ليس بهيمه.. انما الخبز شرط للحرية لآن الجوعى المرضى المشغولين ليل نهار بالحصول على ” لقمة العيش ” ليأكلوا، وقطعة قماش ليلبسوا ، وجحر فارع ليسكنوا ، أو لئك الذين يهد حيلهم المرض فلا يجدون ثمن الدواء ، ويقترضون حين ينجبون أولادهم كما يقترضون حين يدفنون موتاهم ، اولئك يا سيدي- صدقني او انزل الى الشعب لترى – لا يهمهم كثيراً او قليلا ما أنت مشغول به من حرية الرأي لأنهم لا يعلمون ، او حرية الصحافة لأنهم لا يقرأون ، او حرية ألاحزاب لأنهم لا يبالون بمن قال ومن نشر ومن حكم .. ولا يستطيعون ان يبالوا قبل ان يأكلوا ويشربوا ويسكنوا .. فان كنت ديموقراطيا حقا فابدأ بحفظ حياة البشر لأن الموتى أو الذين يوشكون على الموت – جوعاً أو مرضاً – لا يستطيعون الاستماع الى آرائك أو قراءة صحفك أو الانضمام الى احزابك . وحين تبدأ حل مشكلة الحياة ( مأكلاً وملبساً وسكناً ) تبدأ ممارسة الحياة فكراً وسياسة .. وويل – حينئذ – للذين يتوهمون أن الخبز يغني عن الحرية ..
ولقد بدأت ثورة 1961 بحل مشكلة حرية الحياة وحققت نجاحا كبيرا فهل حلت مشكلة الحرية السياسية؟ .

الاخفاق:
نستطيع أن نقول ببساطة ويقين أن ” النظرية ” الديموقراطية التي جاء بها الميثاق لم تطبق – في جانبها السياسي – على وجه الاطلاق . انشئ تحالف من قوى الشعب العاملة ولكنه ليس التحالف الذي نص عليه الميثاق . قامت منظمة باسم الاتحاد الاشتراكي العربى ولكنها ليست الاتحاد الاشتراكي العربي الذي جاء في الميثاق . مارس الاتحاد الاشتراكي العربى- الذي أقيم- مهمات سياسية و لكن ليست هي المهمات التي جاءت في الميثاق . انشىء التنظيم السياسي الذي يقود التحالف ، و لكنه ليس التنظيم السياسي الذي جاء في الميثاق .
منذ خمسة عشر سنة وكل الناس يتحدثون عن تحالف قوى الشعب العاملة ، وعن الاتحاد الاشتراكي العربي ، وعن التنظيم السياسي السري يؤيدونه ويهاجمونه ويحلونه ويعيدون تشكيله ويطورونه ويصنفونه ويختلفون في هذا اختلافا كبيرا أو قليلاً دون أن يفطن أحد ، أو لم يقل الذين فطنوا ، ان مصر قد عرفت ثلاث مؤسسات مختلفة تحمل جميعها اسم الاتحاد الاشتراكي العربي . المؤسسة الأولى انشئت عام 1962 واستمرت حتى عام 1971 والمؤسسة الثانية في عام 1971 واستمرت حتى عام 1976 والمؤسسة الثالثة هي القائمة اليوم والتي حلت بتقسيمها الى ” أحزاب ” … ثم – وهذا هو الاهم – ان أيا من هذه ” الاتحادات الاشتراكيات العربيات ” لا تمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى الاتحاد الاشتراكي العربي الذي جاء في الميثاق .. ولا تمت بصلة قريبة او بعيدة لا بقوى الشعب العاملة ولا بتحالفها، اللهم الا استعارة الاسماء والعناوين واللافتات .. درءا للشبهات.. ذلك لأن الرأسمالية المتحالفة مع البيروقراطية قد سرقت الاسماء والعناوين واللافتات لتضعها فوق مؤسساتها التابعة لها التي لم يكن أي منها اتحادا، او اشتراكيا أو عربياً ولنبدأ من البداية .

السباق الى النفاق:
ما ان قدم جمال عبد الناصر ” الميثاق ” حتى انضمت الى جماعة المؤمنين به جمهرة الانتهازيين فأصبحوا جميعاً ” ميثاقيين ” (ما زلنا نذكر ان واحدا من جهابذة الكتاب وأعلاهم صوتا وأكثرهم بذلا للجهد في تأصيل التجربة- أية تجربة- كان قد بادر فأنشأ- في ذهنه- جماعة ” الميثاقيون ” وانتمى اليها وتحدث باسمها على صفحات الجرائد.. الى ان قيل له كفى فكف. وما زلنا نذكر انه حين تقرر تدريس ” الاشتراكية العربية ” في المدارس والجامعات تسابق عدد من أساتذة الجامعات والمعلمين ينشئون كتبا مطولة وكتبا مختصرة في بيان ماهية الاشتراكية العربية . فلما خطر لجمال عبد الناصر ان يقول ان الاشتراكية واحدة ونحن نطبقها تطبيقا عربيا ، سارع الاساتذة الكبار الى اعادة طبع كتبهم وغيروا جلودها ليغيروا عناوينها بعد ان غيروا جلودها . وما زلنا نحتفظ بأصول كتاب عن ” الطريق الى الاشتراكية العربية ” قدمناه الى الدار القومية للطباعة والنشر ( 1966 ) دفاعاً عن الاشتراكية العربية فأشار عليه مدير الدار بعدم النشر ” لأن الرئيس جمال عبد الناصر قد حسم الخلاف في هذه القضية ” ولقد وافقت رقابة عبد الناصر على نشر الكتاب لأن عبد الناصر – وحده تقريبا – هو الذي كان يصر على أن مصر تمر بمرحلة التحول الاشتراكي وان الميثاق دليل عمل وان شيئاً لم يحسم وان كل شيء سيعاد فيه النظر على ضوء الممارسة بعد عشر سنوات .. ولسنا في حاجة الى القول بأن أولئك المنافقين قد انقلبوا على انفسهم فانقلبوا على عبد الناصر وميثاقه . وكذلك يفعل الانتهازيون دائماً .
نهايته !!
نعود الى الموضوع فنقول ان الانتهازية ليست خاليه من مضمون . نعني ان الناس لا ينافقون ويهدرون كراماتهم ويزحفون على بطونهم- كالديدان- الا متجهين الى غاية، مثلهم في هذا مثل السائرين على أقدامهم . والواقع انه لا يوجد موقف بدون مضمون سواء كان موقفا أخلاقيا او موقفا غير أخلاقي لهذا نستطيع ان نتجاوز الجانب الاخلاقي لننتبه الى المحتوى الموضوعي لظاهرة الانتهازية ونسأل : ما هي ” الفرصة ” التي كان يسعى الى اهتبالها الانتهازيون؟
انها فرصة التحول الاشتراكي ذاته.
فابتداء من عام 1961 لم تعد الدولة سلطة حكم او مساندة او تمويل بل أصبحت جهاز ادارة رئيسي للاقتصاد القومي . تملك القدر الأكبر من أدوات الانتاج ، وتديرها ، وتنتج ، وتوزع ، وتتاجر ، وتستهلك . هي التي تعين الوزراء والمديرين وهي التي تشغل العاطلين وهي التي تحدد الاجور وهي التي توفر المأكل والملبس وتبني السكن وتعلم وتعالج .. الى آخره . وكانت هذه الدولة ، ربة العمل ، قد انتزعت اغلب ما تملك وما تدير من الرأسماليين الكبار وأضافت اليه طولاً وعرضاً وعمقاً منشآت جديدة ومصادر رزق جديدة فيما عرف باسم ” القطاع العام ” . ولكنها ابقت بجواره ما أسمي بالقطاع الخاص و ” بالرأسمالية الوطنية ” . فكيف ” تربح ” هذه الرأسمالية الوطنية ؟ .. بالتطفل على القطاع العام تعيش من باطنه وتتاجر معه و ” تسمسر ” على صفقاته وتسرق وترش . فتحول القطاع العام – أي الدولة – الى مصدر جديد للرأسمالية . و هي رأسمالية طفيلية غير منتجة تتعاون في تكوينها على طريقة ” شيلني واشيلك ” البيروقراطية المنحرفة والقطاع الخاص الطفيلي وكانت الثغرة التي تسرب منها هذا الحلف هو ما أشرنا اليه من قبل من ان قواعد العزل السياسي لم تطبق على الذين أضيروا بقوانين يوليو 1961 او الذين تتناقض مصالحهم مع التحول الاشتراكي . اولئك الذين أسمتهم اللجنة التحضيرية ” أعداء الثورة الاجتماعية الاشتراكية ” فصدر القانون رقم 34 لسنة 1962 خاليا من عزلهم . فقدوا ما يملكون او أغلبه فالتحقوا بخدمة المالكة الجديدة ( الدولة ) بحجة خبرتهم و علمهم و (وطنيتهم ) وأيضا أصبحوا عماد البيرو قراطية في الدولة والقطاع العام والرأسمالية الطفيلية التي تمتصه . ولما كانوا أضعف من أن يقاوموا فقد نافقوا . وبادروا الى تنفيذ مشروع الثورة الديموقراطي ” الاتحاد الاشتراكي العربي ” قبل أن يصدر الدستور . وكانوا وراء قرار ” انتهازي ” أصدره المؤتمر الوطني للقوى الشعبية قبل أن ينفض وهو ” تفويض ” الرئيس جمال عبد الناصر بتشكيل لجنة تنفيذية عليا مؤقتة لتضع القانون الاساسي للاتحاد الاشتراكي العربي .
تأملوا…
الميثاق يقول ان تحالف قوى الشعب العامل هو الذي يقيم الاتحاد الاشتراكي العربى ، فاذا بالمؤتمر يفوض رئيس السلطة التنفيذية في ان يختار المؤسسين للاتحاد الاشتراكي العربى ، قلة يسميها اللجنة التنفيذية العليا المؤقتة، لتقيم هي الاتحاد الاشتر اكي العربي وتضع قانونه الاساسي . والميثاق يحرص على القول بان الاتحاد الاشتراكي العربي هو السلطة الممثلة للشعب ومفهوم انها سلطة في مواجهة باقي السلطات او فوقها ، فيعهد المؤتمر الى السلطة التنفيذية بانشاء السلطة الممثلة للشعب . من قبل نبهنا الى دلالة ان يكون تسعة من أعضاء الامانة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي أعضاء في مجلس الرئاسة. والميثاق يقول انه بعد سقوط تحالف الرجعية ورأس المال ” لا بد ان ينفسح المجال بعد ذلك ديموقراطياً للتفاعل الديموقراطى بين قوى الشعب العامل “.. وهو ما يعني بان ينشأ الاتحاد الاشتراكي العربي من القاعدة المتفاعلة ديموقراطياً الى القمة ، فإذا بالاتحاد الاشتراكي العربي ينشأ بالقمة التي تتولى هي انشاء القاعدة … على ما تهوى .
هل انشأته على ما تهوى؟
نعم، وذلك بأنها:
اولا: الاتحاد الاشتراكي العربي هو تنظيم تحالف قوى الشعب العاملة ” الممثلة للشعب ” والشعب هو صاحب السيادة بحكم الميثاق وبحكم الدستور. وهذا يعني انه طبقا للميثاق والدستور كليهما، تكون سلطة السيادة للاتحاد الاشتراكي العربي . لم تختلف أغلبية أساتذة القانون الدستوري في هذا، وعبروا عن آرائهم في مناقشات ” اللجنة التحضيرية للدستور الدائم ” التي تشكلت يوم 30 مايو 1966 لوضع مشروع دستور دائم قال الدكتور سليمان الطماوي عميد كلية حقوق عين شمس : ” الاتحاد الاشتراكي ليس مجرد سلطة دستورية له علاقة بالحكومة ولكنه أكبر من ذلك “. قال الدكتور ثروت بدوي استاذ القانون الدستوري بكلية حقوق القاهرة قال مفاخرا : ” انني اول من قالوا بان الاتحاد الاشتراكي العربي هو أعلى سلطة في الدولة ” وقال الدكنور طعيمة الجرف استاذ القانون الدستوري في كلية حقوق القاهرة : ” ان الاتحاد الاشتراكي العربى سلطة سيادة عليا “. وقال الدكتور عبد الحميد حشيش استاذ القانون الدستوري في كلية حقوق عين شمس : ” اما فيما يتعلق بالاتحاد الاشتراكي العربى فانني اتفق مع الزملاء الذين سبقوني في هذا المجال من أن الاتحاد الاشتراكي سلطة عليا ” .. اما الدكتور مصطفى أبو زيد فقد عبر عن رأيه بطريقته فقال : ” اذا قلنا ان مجلس الامة هو الذي ينظم الاتحاد الاشتراكي فهذا يعني ان مجلس الامة أصبح أعلى من الاتحاد الاشتراكي وهذا ما لا يجوز ولا يمكن القول به، وأذا قلنا ان الحكومة تنظمه بقرار جمهوري او بقرار وزاري فهذا يعني ان الحكومة أعلى منه وهذا لا يجوز “.. الى آخرهم .
لم يكن هؤلاء الاساتذة ينافقون بل كانوا يعبرون عن حقيقة الاتحاد الاشتراكي العربى كما أراده الميثاق وكما أراده الدستور . و لكن ” المصالح ” لا يهمها القانون فقد تشكلت اللجنة التنفيذية العليا، وأصدرت القرار رقم 1 لسنة 1962 بالقانون الاساسي للاتحاد الاشتراكي العربى وبعد ان سردت في مقدمته فقرات من الميثاق وحددت وظيفته فقالت عن وظيفة المؤتمر القومي الذي هو أعلى سلطة .
(أ) دراسة ومناقشة تقرير اللجنة العامة للاتحاد الاشتر اكي العربي.
(ب) دراسة سياسة الاتحاد الاشتراكي العربى وخططه العامة و اصدارها.
(خ) مراجعة وتعديل القانون الاساسي للاتحاد الاشتراكي العربى اذا دعت الحاجة الى ذلك
(د) انتخاب واعفاء اللجنة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي او اعضائها الاحتياطيين.
وهكذا تحول المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي الذي هو سلطة تمثل الشعب ، وفوق الحكومة وفوق مجلس الأمة ، تحول الى جمعية لدراسة التقارير ليقدمها الى اللجنة التنفيذية العليا . واصيب منذ مولده بالعقم ، وعبثاً حاول كل الذين تولوا أمره بعد ذلك ” تنشيطه ” وبعث الحياة فيه . ذلك لأنهم قد سلبوه روحه حين سلبوه سلطته فلم يبق منه الا ” هيكل ” مجوف يجتمع فيه الناس وينفضون لا حول لهم ولا قوة . ومن هنا نعرف كيف أن الذين هاجموا وأدانوا الاتحاد الاشتراكي العربي واتهموه بالسلبية ، وبالذيلية ، ينسون ما قال الشاعر :
” لقد اسمعت لو ناديت حياً … ولكن لاحياة لمن تنادي ”
وماذا عن التنظيم القائد الذي قال الميثاق انه : ” يجند العناصرالصالحة للقيادة وينظم جهدها ويطور الحوافر الثورية للجماهير”… لقد تم تشكيله فعلا ولكن ” الحلف البيروقراطي الرأسمالي ” الذي أنشأ الاتحاد الاشتراكي العربى هو الذي شكله. لقد اخروا انشاءه حتى عام 1964 اي الى ان تمكنوا من السيطرة على الاتحاد الاشتراكي العربى وعندما نشأ انشأته قيادة الاتحاد الاشتراكي نفسها ( قيادة التنظيم) وأختير لانشائه وقيادته – من كل القوى المتاحة – وزير الداخلية شخصياً وكأن وزارة الداخلية قد كانت ” ناقصة ” أجهزة استطلاع وتقارير.
ثانيا : ان الاتحاد الاشتراكي العربي هو تنظيم تحالف قوى الشعب العاملة . ومن بين تلك القوى العمال والفلاحون . ويزيد الميثاق والدستور كلاهما فيشترطان خمسين في المائة من المقاعد على الأقل للعمال والفلاحين . ومع ذلك نشأ الاتحاد الاشتراكي وقد استبعد من عضويته العمال والفلاحين الا أقلية ضئيلة.
شيء غريب أليس كذلك ؟
نعم غريب ولكنه حدث من خلال تولي الحلف ” الرأسمالي البيروقراطي ” تعريف العامل والفلاح .
فالفلاح عندهم هو من لا يزيد عما يحوزه من أرض زراعية على خمسة وعشرين فدانا. تصوروا ان في مصر الفلاحين حيث عمال التراحيل والمعدمون بالملايين وحيث يكون من يملك خمسة أفدنة شيخا للقرية ومن يملك عشرة أفدنة يكون عمدة لها ومن يملك أكثر من الاعيان . يعتبر فلاحا من يملك خمسة وعشرين فدانا. اما العامل عندهم فهو كل من تتوافر فيه شروط العضوية للنقابات العمالية ( تقرير لجنة الميثاق الذي أخذ به في تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي) .
وهكذا انبرى الذين يحوزون 25 فداناً في الريف أو حتى عشرة ، فاحتلوا مقاعد الفلاحين في التحالف وطردوا ملايين من العمال الزراعيين وعمال التراحيل ، والأجراء، والمستأجرين ، وصغار الملاك. وهكذا انبرى لاحتلال مقاعد العمال في التحالف وكلاء الإدارات ورؤساء الأقسام وخريجو الجامعات من الأطباء والمحامين والمهندسين والصحفيين ومن إليهم من العاملين في المؤسسات و الشركات.
فلما أراد جمال عبد الناصر تصحيح هذا الوضع الشاذ عام 1968، فأصدر بصفته رئيساً للاتحاد الاشتراكي العربي تعريفا يقوق ان العامل ” هو الذي يعمل يدويا او ذهنيا في الصناعة أو الزراعة أو الخدمات ويعيش من دخله الناتج عن هذا العمل ولا يحق له الانضمام إلى نقابة مهنية ولا يكون من خريجي الجامعات والمعاهد العليا أو الكليات العسكرية وتستثنى من ذلك من بدأ حياته عاملأ وحصل على مؤهل جامعي وبقي في نقابته العمالية”. وأن الفلاح ” هو الذي لا يحوز هو وأسرته أكثر من عشرة أفدنة علي أن تكون الزراعة مصدر رزقه أو عمله الوحيد وأن يكون مقيماً في الريف “.. وجرت على أساسه انتخابات وتشكيلات الاتحاد الاشتراكي العربي ، أوقف الحلف البيروقراطي الرأسمالي عملية الانتخاب عند مستوى المؤتمر القومي الذي لا ينعقد إلا كل سنتين ، أما لجان المحافظات واللجنة العامة واللجنة التنفيذية، أي اللجان القيادية، فقد تم تشكيلها بالتعيين، تفادياً لتسرب فلاح أو عامل ، اي فلاح او اي عامل ، إلى القيادة..
على هذا الوجه أنشأت الطبقة الجديدة التي أصبحت، بعد سقوط الرأسمالية الكبيرة عام 1961 وتصفية المؤسسة العسكرية عام 1967، تضم ” البيروقراطيين والرأسمالية الطفيلية ” . انشأت الاتحاد الاشتراكي العربي إطاراً لتحالفها وأداة لسيطرتها ، وأهدرت الرؤية الديموقراطية التي جاءت في الميثاق ، وأهدرت الاحكام الديموقراطية التي جاءت في دستور 1964 ، فلم يكن الاتحاد الاشتراكي العربي منذ البداية تحالف العمال والفلاحين و … الى آخره …

السلطة التنفيذية :
في دستور 1964 ينتخب رئيس الجمهورية من الشعب وهو الذي يضع بالاشتراك مع الحكومة السياسة العامة للدولة في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادارية ويشرف على تنفيذها. وله حق دعوة مجلس الوزراء للانعقاد وحضور جلساته وتكون له رئاسة الجلسات التي يحضرها . وله حق اقتراح القوانين و الاعتراض عليها وإصدارها . فاذا رد مشروع قانون إلى المجلس فلا يصدر إلا إذا أقره المجلس ثانية بأغلبية ثلثي أعضائه. وإذا حدث فيما بين أدوار انعقاد مجلس الأمة أو في فترة حله مما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير جاز لرئيس الجمهورية أن يصدر في شأنها قرارات لها قوة القانون . ولرئيس الجمهورية في الأحوال الاستثنائية بناء على تفويض من مجلس الأمة أن يصدر قرارات لها قوة القانون . وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة . وهو الذي يعلن الحرب بعد موافقة مجلس الأمة . و هو الذي يبرم المعاهدات ويبلغها إلى مجلس الأمة . وهو الذي يعلن حالة الطوارىء وله أن يستفتي الشعب في المسائل الهامة التي تتصل بمصالح البلاد العليا . أما الحكومة فهي أداة تنفيذ .
على هذا الوجه كان لرئيس الجمهورية القرار وكان على الحكومة التنفيذ . ولكن من يسأل أمام مجلس الأمة ؟ الحكومة وحدها ( المادتان 84 و 90 ) . وهكذا عرفت مصر نظاماً مختلطاً عجيباً لا تقترن فيه السلطة بالمسئولية . من له السلطة الفعلية لا يسأل . ويسأل الذين لهم سلطة . وتضخمت سلطات رئيس
الجمهورية واندمجت في يده السلطات بشكل لا مثيل له في النظام الرئاسي ( حيث ليس للرئيس حق التشريع ) ولا في النظام النيابي ( حيث ليس للرئيس سلطة منفردة عن الوزارة ) . ولما كان الرئيس الذي أصبح يملك أغلب السلطات لا ينفذها بنفسه ولكن ” بأجهزة الدولة ” طبقاً للبيانات و المعلومات و الآراء التي ترفعها إليه ” أجهزة الدولة ” فقد خول دستور 1964 لأجهزة الدولة التي يسيطر عليها الحلف ” البيروقراطي الرأسمالي ” أفضل غطاء لانحرافاتهم وأصبح كل شيء ينسب إلى عبد الناصر ما دامت كل السلطات على صفحات الدستور لعبد الناصر، وأصبح كل نقد لهم نقد لعبد الناصر، ما داموا أجهزة عبد الناصر، وأصبحت مواجهتهم تآمراً على عبد الناصر ما دام أمنهم قد اختلط بأمن عبد الناصر.
هل كان من ذلك مفر؟.
يجب أن نعترف بأنه حيث تكون الدولة اشتراكية، أي تقوم على توظيف الموارد البشرية و المادية المتاحة لإشباع الحاجات المادية والثقافية للشعب ، طبقآ لخطة مركزية شاملة فلا بد من مركزية السلطة. يستحيل- دستورياً واقتصادياً- إقامة نظام اشتراكي بدون سلطة تنفيذية مركزية قوية لتضمن تنفيذ الخطة في كل مجالاتها ، تأمر وتتابع وتراقب وتحاسب . من ناحية أخرى لا يعرف النظام الاشتراكي المناصب الشرفية. لا يتفق معه منصب رئيس دولة لا يعمل أي لا يكون رئيساً للسلطة التنفيذية. ومن هنا فإن كل السلطات التي خولها دستور 1964 لرئيس الجمهورية سلطات طبيعية ومتسقة مع دوره في مجتمع يتحول اشتراكياً . ثم تبقى الثغرة التي انفرد بها نظام الحكم في مصر؟.. من الذي يأمر ويتابع ويراقب ويحاسب السلطات التنفيذية ذاتها؟ من الذي يوافق على الخطة ويتابع تنفيذها ويحاسب على نتائجها؟.. مجلس الأمة ، ومن الذي يتابع ويراقب ويحاسب مجلس الأمة؟.. الشعب.. كيف ؟ عن طريق الاتحاد الاشتراكي العربي الذي هو سلطة سيادة عليا ، وهو ممثل الشعب ومن حقه على هذا الوجه أن يتابع ويراقب ويحاسب – إلى حد العزل – رئيس الجمهورية والوزراء والنواب . ولقد كان الدستور- دستور 1964- في مادته الثالثة يخول الاتحاد الاشتراكي العربي هذه السلطة . سلطة متابعة ومراقبة ومحاسبة كل سلطة أخرى ومنها رئيس الجمهورية. وكان هذا يقتضي استقلال الاتحاد الاشتراكي العربي استقلالاً تاماً – بصفته مؤسسة دستورية- عن السلطة التنفيذية. و لكنه نشأ- كما رأينا- تابعاً للسلطة التنفيذية فبقيت للسلطة التنفيذية كل السلطات بدون متابعة أو مراقبة أو محاسبة.

محاولة أخيرة :
ذكرنا من قبل كيف حاول جمال عبد الناصر عام 1968 تصحيح الوضع المختل في تكوين الاتحاد الاشتراكي العربى بتقديم تعريف جديد للعامل والفلاح . ونعرف أنه صفى المؤسسة العسكرية في ذلك العام . ولكنه في المقابل كان قد تفرغ بعد هزيمة 1967 لإعادة تكوين القوات المسلحة واستئناف القتال واستغرقته معركة التحرير، فكانت فرصة مضافة الى البيروقراطية والرأسمالية . فبدأت الرأسمالية تسترد بعض ما كانت فقدته . رفع اسعار بعض الحاصلات الزراعية ، الاستيراد بدون تحويل عملة . وقف الانتقال التدريجي لقطاعي تجارة الجملة والمقاولات الى القطاع العام . أما البيروقراطية فقد قضت بضربة واحدة على محاولة جديدة كانت القيادة قد لجأت إليها لحل مشكلة الديموقراطية .
ففي عام 1965 كان يبدو أن جمال عبد الناصر قد يئس من محاولة حل مشكلة الديموقراطية على المستوى الشعبي من خلال جيل نشأ رأسمالياً بيروقراطياً ولم يزل . فأعلن يوم 20 يناير 1965، أمام مجلس الأمة، بعد ترشيحه رئيساً للجمهورية برنامجه للسنوات القادمة. وإذ به يضع في أول ذلك البرنامج مايلى :
” إن المهمة الأساسية التي يجب أن نضعها نصب عيوننا في المرحلة القادمة هي أن نمهد الطرق لجيل جديد يقود الثورة في جميع مجالاتها السياسية والاقتصادية والفكرية. ولسنا نستطيع أن نقول إن جيلنا قد أدى واجبه إلا إذا كنا نستطيع قبل كل المنجزات وبعدها أن نطمئن إلى استمرار التقدم ، وإلا فإن كل ما صنعناه مهدد بأن يتحول- مهما كانت روعته- إلى فورة ومضت ثم انطفأت.. إلى بداية تقدمت ثم توقفت. إن الأمل الحقيقي هو في استمرار النضال ويتأكد الاستمرار حين يكون هناك في كل وقت جيل جديد على أتم الاستعداد للقيادة ولحمل الأمانة ومواصلة التقدم بها .. أكثر وعياً من جيل سبق . أكثر طموحاً من جيل سبق . وينبغي أن ندرك أن التمهيد لهذا الجيل واجبنا واننا نستطيع بالتعالي والجمود أن نصده ونعقده وبالتالي نعرقل تقدمه وتقدم امتنا . . إن علينا بالصبر ان نستكشفه دون مّن عليه ولا وصاية، وعلينا بالفهم أن نقدم له تجاربنا دون أن نقمع حقه في التجربة الذاتية وعلينا في رضا أن نفسح الطريق له دون أنانية نتصور غروراً أنها قادرة على شد وثائق المستقبل بأغلال الحاضر وعلينا أن نتجه له بفكره الحر أن يستكشف عصره دون أن نفرض عليه قسراً أن ينظر إلى عالمه بعيون الماضي”…
ولم تكن تلك مجرد خطبة، بل كانت في رأينا محاولة أخيرة لحل مشكلة الديموقراطية بعد أن يئس من حلها عن طريق الاتحاد الاشتراكي العربى الذي أنشأته أجهزة دولته . والواقع أن جمال عبد الناصر قد عبر في مناسبتين سابقتين عن هذا اليأس . الأولى يوم أن قبل إنشاء المنظمات الشعبية في ميثاق الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسورية التي كانت موضع دراسة وبحث واتفاق عام 1963. والمناسبة الثانية يوم أن وجه نداء إلى الشباب العربى بأن يبادر إلى إنشاء الحركة العربية الواحدة لأنها ” أصبحت ضرورة تاريخية “، عام 1963 أيضاً ، على أي حال فما أن قدم برنامجه حتى نفذه . وانشئت منظمة الشباب الاشتراكي من جيل الثورة ، مستقلة إلى حد كبير عن الاتحاد الاشتراكي العربي وأولاها عناية خاصة مليئة بالعطف والأمل ، ولأول مرة ترى مصركيف يمكن أن يتم تكوين تنظيم سياسي تكويناً علمياً يختلط فيه النمو الفكري بالنمو الحركي . ونجحت التجربة نجاحاً فائقاً إلى درجة أنه في فبراير 1968، بعد الهزيمة، كانت هي القوة الوحيدة التي قادت الجماهير في مظاهرات صاخبة تطالب بمحاسبة المسئولين و لم تستثن من المحاسبة حتى جمال عبد الناصر نفسه وكان ذلك برهاناً على أن أملاً شعبياً ديموقراطياً تقدمياً قد بدأ في مصر ، وأن الثورة – أخيراً – قد أنجبت جيلها . أما عبد الناصر فقد تجاوز عما أصابه من أبناء ثورته واستجاب لندائهم وأصدر بيان 30 مارس متضمناً ما كانوا يطالبون به. أما البيروقراطية ” المعششة ” في الاتحاد الاشتراكي العربي فقد أفزعها المولود الجديد الذي شب مبكراً على الطوق فأصدر أمين الاتحاد الاشتراكي العربي (علي صبري) قراراً بتجميد نشاط منظمة الشباب وطرد خيرة قياداتها من صفوفها . وضربت التجربة الجديدة الوليدة .. إلى حين .

هل كان يعلم:
هل معنى هذا ان عبد الناصر كان يعلم ان الرجعيين و الانتهازيين والبيروقراطيين قد نفذوا الى تجربته الجديدة وسيطروا على الاتحاد الاشتراكي العربى وافشلوا مشروعه الديموقراطي الثالث (كانت هيئة التحرير هي المشروع الاول ، وكان الاتحاد القومي هو المشروع الثاني ).. هل كان يعلم؟..
يجيب عبد الناصر نفسه:
قال في 12 نوفمبر 1964: ” ان الميول البيروقراطية في مرحلة الانتقال من الاقطاع والرأسمالية الى الاشتراكية تمثل قوى اجتماعية خطيرة . وهذه البيروقراطية موجودة وستحاول بكل الوسائل ان تكوّن لها مكاسب . ان البيروقراطية في مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية ستعمل على آن تحصل بكل الوسائل على أكبر قدر من السلطة حتى تستطيع ان تقوم بدور حاسم في الانتاج وفي العلاقات الاجتماعية وان تحتكر هذا الدور. وتستطيع البيروقراطية بفضل هذا الاحتكار ان تأخذ مكان الرأسمالية في المجتمع الرأسمالي “.
بقيت نقطة أريد ان أتكلم عنها ، وهي العيوب الاساسية، وأبرز هذه العيوب بان الاتحاد الاشتراكي لم يستكمل دوره ليكون تعبيرا أصيلا وكاملا عن الديموقراطية الاشتراكية … لقد تابعت مؤتمرات الاتحاد الاشتراكي في الوحدات الاساسية والتي عقدت أخيراً وكان فيها حياة وحيوية وفيها نبض . ويجب ان نجد الوسيلة التي تجعل هذا النبض يرتفع كصوت ، وأهم من مجرد ارتفاعه ان يؤثر في الحوادث . و ليست الديموقراطية السيامية الحقيقية والمعبرة عن الديموقراطية الاجتماعية الحقيقية هي أن نجعل الناس يغيرون بارادتهم ما يريدون تغييره . هل وصلنا الى هذا حتى الان … لم نصل بعد… ”
لماذا؟.
قال في 16 مايو 1965: ” … فيه حزب رجعي موجود وحايفضل موجود بدون اعلان وبدون ترخيص وعارفين بعض واتلموا على بعض ومنظمين قوي أحسن من الاتحاد الاشتراكي … اذن في هذه المرحلة لا سبيل إلا تحالف قوى الشعب العاملة في تنظيم واحد هو الاتحاد الاشتراكي العربي .. مع تطهير الاتحاد الاشتراكي باستمرار من القوى الانتهازية او القوى الرجعية التي تسللت داخل الاتحاد الاشتراكي …
أكثر من هذا صراحة ما ردده في أحاديثه غير العلنية في اجتماعات الامانة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي ابتداء من عام 1965. نشر بعضها أخيرا تحت عنوان ” مفهوم العمل السياسي “. ففيها يقول : ” ان لدينا مشكلة عويصة وهي ان العناصر المضادة للثورة والاشتراكية موجودة بالفعل داخل الاتحاد الاشتراكي وهي عناصر حركية .. ونحن ينقصنا داخل الاتحاد الاشتراكي وجود العناصر الحركية المخلصة بشكل منظم … ” وقال ” هناك خطأ آخر له صفة الانحراف يضعف من تحالف قوى الشعب العاملة وذلك الخطأ هو ظاهرة البيروقراطية… “.
وفي 7 مارس 1966 يضرب أمثلة للفشل في الريف : ” ان الجمعيات التعاونية تحتاج الى تطوير. فما زال كبار الملاك مسيطرين عليها.. فكبار الملاك لهم نفوذ ويستطيعون وضع رجالهم في مجالس ادارات الجمعيات التعاونية ، وربما كان هذا هو الذي أثر على فكرة الديموقراطية التي تكلمت عنها فلن تكون هناك ديموقراطية حقيقية بهذا الشكل … ”
كان يعلم اذن
فماذا فعل؟…
حيث يجيب عبد الناصر على هذا السؤال، سنكتشف قمة النضج في مفهومه للديموقراطية مشكلة والديموقراطية حلا، ويكون علينا بتلك الاجابة، القادمة، ان نختم الحديث عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر مودعين مرحلته التاريخية وقد انتهت الى تحديد بالغ الوضوح لمشكلة الديموقراطية في مصر وفكر بالغ النضج في كيفية حلها.. ذلك لأنه- رحمه الله – لن تسمح له الظروف القاهرة بان يضع فكره الذي بلغ قمة النضج موضع التطبيق لحل مشكلة بلغت قمة الحدة .
****************

خاتمة
(15) الموقف ” الناصري ” من المشكلة

عبد الناصر… و” الناصرية ” :
في جلسة مباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسورية التي انعقدت مساء يوم 20 مارس 1963 هاجم عبد الناصر تعبير ” الناصرية والناصريين “.. وأسند التعبيرين الشعارين إلى القوى المعادية له وللثورة . قال : ” .. خرجوا بعملية الناصريين . طلعوها بعد الانفصال . قبل الانفصال ما كانش فيه حاجة اسمها ناصريين .. اعداؤنا علشان يمثلوا العملية بشخص ويركزوا عليه قلبوا العملية كلها إلى شخص جمال عبد الناصر وبدأو الحملة عليه وعلى اللي سموها الناصرية والناصريين .. ما كانش فيه حاجة اسمها ناصرية ولا ناصريين .. ” .
أما الآن ، وبعد وفاة عبد الناصر، فإن الناصريين قوى جماهيرية متعاقبة في الوطن العربي وفي مصر حتى لو لم تكن موحدة أو منظمة . و” الناصرية ” مفهوم يحدد انتماء الناصريين ، على خلاف قليل أوكثير في المضمون وتأخذ مكاناً يتسع بإطراد في القاموس العربي للمبادىء السائدة أو المرشحة للسيادة .
وحتى الذين يقفون من الناصرية والناصريين موقف العداء يعترفون بموقفهم هذا بوجود الناصرية فكرة والناصريين بشرا، وإلا فهل يقفون موقف العداء من أشباح معدومة ؟.. بل إن تهمة ” أدعياء ” الناصرية تتضمن اعترافاً بأن الناصرية ليست موجودة فقط بل إنها- أيضاً- ذات إغراء يسمح، لا بالانتماء إليها فحسب ، بل بادعائها أيضاً…
فكيف حدث هذا؟
كيف أن ” الناصرية ” تكون اصطناعاً معادياً في حياة عبد الناصر، ثم تكون راية موحدة لجماهير عبد الناصر بعد وفاته ؟ ..
لقد قدم الرئيس جمال عبد الناصر نصف الإجابة في حديثه الذي أوردنا نصه. أريد بالناصرية في حياته تقليص القضية لتكون شخصاً تمهيداً لضرب الشخص وهو أسهل من ضرب القضية . أو تجريد الموقف من الانتماء المبدئي والتشهير به عن طريق تحويله إلى انتماء وولاء لشخص عبد الناصر. النصف الثاني من الإجابة لم يقله عبد الناصر لأنه يتعلق بظاهرة نشأت بعد وفاته.
نجيب نحن ، تطوعاً ، وعلى مسئوليتنا. ونستمد مادة الإجابة من موضوع الحديث عن ” عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر “. وان كانت اجابتنا تصدق- فيما نعتقد- أيآ كانت مادة الحديث ما دام الحديث يدور عن عبد الناصر وتجربتة الطويلة الغنية..
باختصار،
لقد كان ثمة عوامل متعددة حالت دون أن تكون ” الناصرية ” ذات دلالة موضوعية محددة يمكن الانتماء إليها في حياة عبد الناصر، وقد انقضت تلك العوامل بوفاة الرئيس الراحل وبالتالي أمكن ، موضوعياً ، أن يكون لتعبير الناصرية و الناصريين دلالات موضوعية .
أول تلك العوامل أن عبد الناصر قائد المسيرة الثورية منذ 1952 حتى وفاته كان ينتهج التجربة والخطأ والتصحيح . ولقد عرفنا ذلك من اعترافه ومن تتبع الحديث عن علاقته بمشكلة الديموقراطية في مصر وبالتالي فلم يكن من الممكن ، في حياة عبد الناصر، تثبيت التجربة عند حصر فكري أو تطبيقي معين ليقال حينئذ أن هذي هي الناصرية . ذلك أن عبد الناصر كان إلى آخر يوم في حياته قادراً مقدرة متزايدة على أن يكتشف أخطاء الممارسة وأن يبدع لها حلولاً جديدة على المستوى الفكري والمستوى التطبيقي كليهما . وقفت تلك التجربة بوفاة عبد الناصر. مات القائد فتحدد مضمون مرحلته التاريخية مات المعلم فتوقفت تعاليمه. وأصبح ممكناً – حينئذ فقط – تحديد الحصيلة النهائية فكراً وممارسة ليقال ان هذي هي الناصرية .
العامل الثاني أشرنا إليه في أكثر من موضع في هذا الحديث ، وأوردنا عليه أدلته مما قال عبد الناصر ومما فعل . وخلاصته أن عبد الناصر كان ينمو وينضج ويتقدم فكرياً من خلال التجربة والخطأ والتصحيح . كان تفاعله الجدلي مع الظروف العينية في كل مرحلة يثمر في كل خطوة ثماراً فكرية أكثر نضجاً من عناصر تكوينها . وكان في حركته الجدلية يتقدم مخلفاً وراءه مواقفه وأفكاره السابقة. ولقد عبرنا عن ذلك من قبل حين قلنا إن عبد الناصر 1961 كان يثور على عبد الناصر 1952 ومن هنا يقوم الفارق المميز بين أفكار عبد الناصر وبين الناصرية .. على وجه يحول دون التطابق بينهما.
ذلك لأن كل مفردات المسيرة، فكراً أو ممارسة ، كما وقفت في زمانها تنسب إلى عبد الناصر، فيقال إنها أفكار أو مواقف عبد الناصر، أما ما ينسب إلى ” الناصرية ” فهي مجموع الأفكار والمواقف التي انتهى إليها بعد أن قطع إليها طريقه الطويل الشاق خلال التجربة والخطأ.. ولعل أوضح الأمثلة على ذلك موقفه من ” الوحدة الوطنية ” ومفهومه لتعبير الشعب .. على الوجه الذي عرفنا تطوره من قبل .
يضاف إلى هذين العاملين عامل ثالث هو- في تقديرنا- أكثر من العاملين السابقين أهمية. لقد ذكرنا من قبل أن عبد الناصر كان يتوقع عام 1962 أن ستنشأ أفكار أكثر تطوراً وتقدمية بعد عام 1970 أو 1971 قد ترى تطوير الميثاق أو تعديله أو الاضافة إليه.. كما عرفنا دعوته الحارة لفتح أبواب الإبداع لجيل الشباب بدون وصاية . ان هذا يعني – في رأينا- ان الناصرية ليست مقصورة على حصيلة تجربة عبد الناصر فكراً أو ممارسة حين وفاته ولكنها لا بد- طبقاً لرؤية عبد الناصر نفسه وتوقعاته – أن تكون قد اكتسبت مضامين مضافة إلى ما خلفه الزعيم الراحل مما ” حدث ” بعد أن غاب عبد الناصر. بل أنني أزعم أن الدروس المستفادة من تجربة الحياة في مصر وفي الوطن العربي بعد غياب عبد الناصر قد أثبتت أن شخصيته التاريخية العملاقة كانت قد حجبت عنه ، وعنا، أفكاراً واتجاهات لم تكن تملك شجاعة الظهور في حياته فظهرت وعربدت ونجحت بعد وفاته. وأصبح ما انتهى إليه عبد الناصر فكراً وممارسة يفتقد تكملة هي الجواب على السؤال : ماذا كان يقول عبد الناصر أو يفعل لو أن كل تلك الأفكار والاتجاهات التي أخفاها الجبن عنه في حياته قد واجهته وواجهها .. ثم ماذا كان يقول عبد الناصر أو يفعل لو أن العمر امتد به حتى اليوم ؟.. ثم ، ماذا كان يقول عبد الناصر أو يفعل لو أنه عاش المستقبل مع شعبه. طبيعي أن ليس في تراث عبد الناصر اجابات محددة على هذه الأسئلة . إذ لم يكن عبد الناصر نبياً ، الإجابات التي تكمل مفهوم الناصرية مسؤولية أولئك الذين لم تكمل معرفتهم بتجربة عبد الناصر إلا بعد أن ظهر بعد وفاته ما ومن كان مختفياً أثناء حياته وأولئك الذين لا يكتبون التاريخ بل يصنعونه.
وأخيراً فإن عبد الناصر في حياته كان المفكر والقائد معاً . وكان يقدم إلى الجماهير العربية من تاريخه معها ضماناً ضد مخاطر التجربة والخطأ . الآن غاب القائد وقد بقيت الأفكار أو خلاصتها النامية. فكيف يمتلىء مكان القيادة التاريخية الشاغر؟.
هل باصطناع أو اختلاق أو ” ادعاء ” عبد الناصر جديد؟..
مستحيل . بل نقول أنه عبث . عبد الناصر صنعه التاريخ .
ولن يستطيع أحد أن يقوم بدور التاريخ في خلق الزعماء والقادة من أمثال عبد الناصر. وما تزال ترن في أذهاننا الكلمات الصادقة الحكيمة التي قالها الرئيس أنور السادات وهو يتلقى من مجلس الشعب قرار ترشيحه خليفة لعبد الناصر في موقع رئاسة الجمهورية ، تأكيداً بأن سيادته أو أي شخص آخر لا يستطيع أن يملأ- وحده – الفراغ الذي تركه القائد العملاق ..
إذن، فإما أن تبقى جماهير عبد الناصر بدون قيادة أو أن تقودها المبادىء الناصرية. وهذا يعني أن ” الناصرية ” ليست قائمة مبوبة بالأفكار التي خلفها عبد الناصر أو خلاصاتها، أو ما كان يمكن أن تكون عليه تلك الأفكار لو أنه بقى يطورها، بل هي أفكار ومباديء ” صالحة ” لتؤدي ” دور القيادة “. صالحة للالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام إليها عند الخلاف . وهي لا تكون كذلك إلا إذا أرسيت على قاعدة منهجية علمية تفرز من بينها المبدأ من الاستراتيجية عن التكتيك . الاستراتيجية والتكتيك عناصر لصيقة بالقيادة بكل خصائصها الفذة وظروفها التي انقضت فهي من مفردات التجربة التي تنسب إلى عبد الناصر. أما المبدأ فهو وحده الذي يبقى مميزاً ” للناصرية “…
ومن ناحية أخرى ، فإن هذا المنهج العلمي القادر على أن يستخلص من تجربة عبد الناصر ” نظرية ” ناصرية يمثل ضرورة، مهما كانت لازمة حتى في حياة عبد الناصر، فإنها الآن حتمية. ذلك أن ” الضمان ” الذي كان يقدمه شخص عبد الناصر ضد مخاطر التجربة والخطأ قد سقط بوفاة الزعيم الذي كان محل ثقة الجماهير العربية. وبالتالي فإن مخاطر التجربة والخطأ بعد عبد الناصر، قد أصبحت بدون حدود ، وأصبح محتماً أن يستبدل بمنهج التجربة والخطأ الذي فقد الضمان ضد مخاطر منهج علمي يحصن المسيرة المقبلة ضد الجنوح إلى التجريب بحجة أن عبد الناصر قد جرب من قبل .. وهكذا نرى أن ثمة فارقاً مميزاً أساسياً بين تجربة عبد الناصر والناصرية ، هو أن ضابطاً لحركة تجربة عبد الناصر كان ” التجربة والخطأ ” وأن ضابط الحركة الناصرية هو ” المنهج العلمي “.. أو لا بد أن يكون كذلك .. وهو عبء لا بد لمن يريدون للناصرية أن تقود الجماهير من أن ينجزوه …
إذا صح ما تقدم ، وهو عندنا صحيح ، فقد صحح ما قال به عبد الناصر من أن اصطناع ” الناصرية ” في حياته كان اختلافاً معادياً له وللثورة . لأنه إذا صح أنه لم يكن من الممكن في حياة عبد الناصر أن توجد ” الناصرية ” فإن دلالة ” الناصرية ” في ذلك الوقت لم تكن تزيد عن الانتماء إلى عبد الناصر الشخصي . تمهيداً لضرب التجربة في الشخص نفسه. ودلالة ” الناصريين ” في ذلك الموقف لم تكن تزيد عن الولاء لعبد الناصر الشخصي تشهيراً بموقف الولاء للقضية التي كان يناضل من أجلها عبد الناصر…
يترتب على هذا أيضاً أن ” المفردات ” من الرجال الذين عرفوا عبد الناصر أو عاشروه أو صادقوه أو أسهموا معه في الثورة أو شاركوه مسيرتها ، أو ناضلوا تحت قيادته، أو كانوا له أعواناً ومستشارين وجنداً .. الخ ، يحسبون على عبد الناصر تبعاً لعلاقة كل واحد منهم به وموقعه منه .. ولكن هذه العلاقة أو الموقع لا تؤهل أياً منهم ” بالضرورة ” ليقول أو يقال عنه أنه ناصري ..
” الناصري ” لا ينتمي إلى عبد الناصر ولكنه ينتمي إلى ” الناصرية ” بخصائصها التي ذكرناها وبالتالي فإن كل الذين لم يكملوا المسيرة مع عبد الناصر إلى أن بلغت ذروة نضجها فتخلوا عنها في مراحل سابقة على وفاته، أو كل الذين أكملوا المسيرة معه ” موظفين ” تحت قيادته ثم توقفوا بوفاته، أو كل الذين اهتبلوا فرصة وفاته فتنكروا لمسيرته أو ارتدوا عنها أو حاولوا الرجوع إلى المواقع الفكرية والتطبيقية التي كان عبد الناصر قد تجاوزها .. كل أولئك ، بالإضافة إلى الذين ينقضون بناءه لبنة لبنة لا يستحقون أن يكونوا ناصريين ولا ينسبون إلى الناصرية مهما كانت علاقاتهم الحميمة والقريبة والطويلة مع عبد الناصر… أما الذين توقفوا فكراً وحركة بوفاة عبد الناصر ويقضون أيامهم الراكدة يجترون أفكاره ويترحمون عليه فاولئك ” لا شيء ” أنهم يبعدون عن حركة الحياة كلها بعد عام 1970 عن الحاضر المتجدد أبداً..
على ضوء هذا، ما هو الموقف ” الناصري ” من مشكلة الديوقراطية في مصر ؟
نحدد أولاً عناصر المشكلة كما تركها عبد الناصر ، وحلها وأسلوب الحل :

المشكلة والحل:
قبل أن يغيب عبد الناصر كانت مشكلة الديموقراطية في مصر قد وصلت إلى الوضع الآتي :
أولأ)
كانت الثورة في نطاق اتجاهها الديموقراطي العام ، قد رفضت المفهوم الليبرالي للديموقراطية أي عدم تدخل الدولة في حل مشكلات الشعب (1952) وأقلعت- بعد تجربة فاشلة- عن التدخل خدمة للرأسمالية فاتجهت إلى التخطيط الشامل من أجل حل التنمية بقيادة القطاع الخاص (59 / 1960) فلما نكص القطاع الخاص (الرأسمالية الوطنية) عن أداء دوره الوطني أخذت بالتنمية الاشتراكية (1961) ونجحت نجاحاً فائقاً في الحد من الفقر الذي هو أعتى عقبات الديموقراطية إلى أن تعرضت لعدوان 1967 وأصيبت بهزيمة قاسية فاتجه عائد التنمية المتزايدة ، أو أغلبه، من خدمة رفع مستوى المعيشة إلى خدمة إعادة بناء القوات المسلحة وحرب الاستنزاف واستطاع القطاع العام فعلاً أن يوفر كل الامكانات المادية والمالية والتكنولوجية التي استعملها جنودنا في حرب اكتوبر 1973.
وكان حل مشكلة الفقر حلاً نهائياً ، باعتباره قيداً على الممارسة الديموقراطية يقتضي مزيداً من التحول الاشتراكي ومزيداً من سيطرة القطاع العام ومزيداً من ” اقتصاد الحرب ” لتستطيع الدولة أن تزيد من معدلات التنمية والحفاظ على المقدرة العسكرية في الوقت ذاته.
ثانياً)
وكانت الثورة، في نطاق اتجاهها الديموقراطي العام ، قد قضت أو أضعفت أعداء ديموقراطية الشعب من الاقطاعيين (1952- 1961) والرأسمالية الكبيرة الصناعية والتجارية والزراعية عام (1961) والمؤسسة العسكرية الارهابية (1968) ولم يبق إلا البيروقراطية التي تضخمت وتكثفت سلطاتها وأفلتت من المسؤولية عن طريق إسناد أعمالها أو تغطيتها بالسلطات المركزية الكبيرة التي خولها الدستور 1964 لرئيس الجمهورية.
وكان حل هذا الجانب من المشكلة يقتضي الحد من سلطات رئيس الجمهورية وتوزيعها على أجهزة الدولة ليكون شاغل كل سلطة مسؤولاً عن ممارسة سلطته بدون احتماء أو اختفاء وراء أسم وهيبة رئاسة الجمهورية.
ثالثاً)
وكانت الثورة في نطاق اتجاهها الديموقراطي العام ، قد خطت خطوات كبيرة نحو تحرير الفلاحين والعمال ( 1952 – 1961 ) ، وعزلت أعداء الشعب ( 1963 – 1964 ) وأستعملت كل الأساليب التي خطرت على بالها لإخراج الشعب من سلبيته، بالتعلم والثقافة والإعلام والتنظيم (هيئة التحرير / الاتحاد القومي / الاتحاد الاشتراكي العربى) ، وأقرت للشعب المنظم بسلطات دستورية محدودة في دستور 1956، وبسلطة السيادة في دستور 1964 ، ولكن البيروقراطية المتحالفة مع الرأسمالية الطفيلية، اغتصبت تلك المؤسسات الشعبية وسيطرت عليها وسخرتها لمصالحها فأصبح كل منها ، منذ نشأته وإلى أن قضى أداة تابعة للسلطة التنفيذية .
وكان حل هذا الجانب من المشكلة يقتضي رفع يد الحكومة عن الاتحاد الاشتراكي العربى ، واستقلاله عن السلطة التنفيذية، ليستطيع أن يباشر حقوقه السيادية على كل السلطات .

حدة المشكلة:
كانت تلك هي الجوانب الرئيسية لمشكلة الديموقراطية في مصر كما انتهت إليها عام 1970 وكانت تلك هي حلولها الواجبة والممكنة. وبالرغم من أن ثورة 1952 وثورة 1961 كانتا قد تقدمتا خطوات كبيرة نحو حل مشكلة الديموقراطية – كما أوضحنا من قبل- على وجه لا تمكن مقارنته بما كانت عليه مصر منذ حكم الفراعنة حتى حكم الملوك، فإن المشكلة، مشكلة الديموقراطية كانت قد زادت حدتها أضعافاً مضاعفة عام 1970 عنها عام 1952 أو ما قبله من أعوام .
لماذا؟
لأن حدة المشكلة، أية مشكلة، لا تتوقف على حدها الموضوعي بقدر ما تتوقف على الوعي بها. نعني وعي الناس بالتناقض بين ما يريدون وبين ما هو متحقق لهم فعلاً . الحد الأول من التناقض وهو الإرادة التي يخلقها وينميها الوعي عامل أساسي في مدى الشعور بحدة المشكلات الاجتماعية بمعنى أنه مهما تحقق للناس من تقدم مادي أو سياسي أو ثقافي أو اجتماعي فإن وعيهم بما يريدون وإرادة تحقيقه هو الذي يحدد في النهاية الشعور بعمق التناقضات الاجتماعية وما إذا كانت قد زادت أو خفت وانتهت. وحين يسبق وعيهم تقدمهم تزداد المشكلة حدة بالرغم مما يكونون قد أصابوه من تقدم . كالذي يعاني مشكلة استرداد دين يحسبه قليلاً فيرضيه مايسترده إلى أن يعرف أنه كان ضحية ” نصب ” وان حقه أكثر مما استرد فيصبح أكثر معاناة لمشكلة الاختلاس بالرغم مما أسترد . كالفلاحين القانعين برضا ” السادة ” يتبينون أنهم ليسوا عبيداً ولا الآخرون سادة فيصبحون أكثر شعوراً بحدة مشكلة القهر والعبودية. كالعمال الذين يكتفون بما يعطيهم رب العمل من أجور فيقال لهم إن القطاع العام ملك للشعب، ملككم، فيصبحون أكثر شعوراً بتسلط الإدارة . كالجماهير السلبية الراكدة اللامبالية بالنشاط السياسي، تنتظم في مؤسسة شعبية لها سلطة السيادة فتشعر بحدة مشكلة الاستبداد وهي ترى البيروقراطية قد استولت على تنظيمها..
ولقد استطاعت الثورة، بأساليب شتى، منذ 1952 حتى 1970، ان تحرك الركود الاجتماعي والسياسي وأن تفتح عيون النائمين وتوقظ طموح القانعين وتعلم الناس أن لهم حقوقاً مسلوبة منذ حين . وتولت انجازاتها المحسوسة في التنمية في فتح شهية البشر لمزيد من الرخاء باعتباره حقاً لمن ينتجه . وتولت أجهزتها الإعلامية- باقتدار فائق- القضاء على كل شك في مبدأ ” المساواة ” وأن تدخل في نطاق إدراك المغبونين أن لهم حقوقاً لم يكونوا من قبل يعرفون أنها لهم . ولقد حاولت الثورة – طوال عمرها- أن تحقق للشعب مزيداً مما يريد ولكن نجاحها في التوعية والإيقاظ كان أكثر بكثير من نجاحها في الفعل والانجاز. وبالتالي فإن مشكلة الديموقراطية كانت تزداد حدة مرحلة بعد مرحلة منذ 1952 لأن وعي الناس بمعوقات الديموقراطية كان يزداد عمقا مرحلة بعد مرحلة منذ 1952 بالرغم من أن الثورة قد رفعت منذ 1952، عقبات كثيرة في كل مرحلة من مراحلها.
وتضاعفت حدة مشكللة الديموقراطية حين تضاعف عدد المصريين خلال عمر الثورة . فهذا جيل جديد هو جيل الثورة، قد أصبح صلب التركيب الاجتماعي وبدأ يربي على يديه جيلاً ناشئاً بعده ، قوامه الأخوة الصغار. وجيل الثورة لم يرث من الجيل الذي سبقه ” كنز القناعة ” الذي لا يفنى والذي دفنته الثورة. والمساواة عنده بديهية إنسانية كما علمته الثورة . ولم يعرف أحد منه ” عز ” امتلاك الابعديات وسكنى السرايات ودولة المليونيرات والأمراء والأميرات والبكوات والباشوات ، فذلك عالم قضت عليه الثورة . وهو قد سمع وتعلم فآمن بقيم الحرية والمساواة والتقدم والديموقراطية فهو يعاني أكثر من اي جيل مضى مما يمس هذه القيم أو يحول دون تحويلها إلى حياة فعلية . لأنه يعرف – أكثر من أي جيل مضى- إن تلك حقوق له لا بد لها من أن تصبح واقعاً يحياه . ولقد تمرد، أوكاد أن يتمرد؟ هذا الجيل، حين كان ناشئاً ، على الثورة وقائدها عام 1968، لأن التناقض بين ما كان يريد وما وقع فعلاً كان أكثر حدة مما عرفه أي جيل آخر. ولم يتوقف كثيراً ليعرف أنه جيل تحقق له ما لم يكن يحلم به أي جيل قبله. تحققت له أولاً وقبل كل شيء فرصة أكبر للافلات من الموت في سن الطفولة (هبطت نسبة الوفيات إلى تسعة في الألف حتى سن الرابعة) بفضل رفع مستوى المعيشة والخدمات الصحية وإمداد القرى بالمياه النقية والخدمات العلاجية والدوائية المجانية للعمال فأصبح هذا الجيل حين أدرك سن الخامسة عشرة يمثل نصف عدد الشعب تقريباً . وقد كانت نسبة مرتفعة من الأجيال السابقة يحول الموت مبكراً دون أن تواكب جيلها. وفرص التعليم المباح بدون أجر والجامعات المفتوحة لكل قادر ذهنياً بدون قيد، والعمل ينتظره فور تخرجه بدون أن يعرض نفسه لمهانة ” النخاسة ” فلا يباع ويشترى وتحدد له المنافسة الحرة في سوق العمل سعره، كما كان يحدث لأجيال قبله.. وبدون أن يعرض أهله لمذلة استجداء التوصيات من البكوات والباشوات ليحصل على عمل كما كان يذل أهل جيل قبله. لم يتوقف جيل الثورة عند كل هذا لأن ذاتها لم تترك فرصة أو مناسبة لتعليمه وإن كل ما قدم إليه ليس إلا بعض حقه من وطنه وإنه لم يسترد بعد كل حقوقه فطالب- بجسارة صاحب الحق- بما يستحق كاملاً . و لم يزل .
من بين الانجازات الديموقراطية للثورة كان هذا الانجاز ” البشري ” أروعها ، لأنه استولد الشعب العملاق جيلاً يقظاً . واليقظة الشعبية أولى شروط الديموقراطية نظاماً والديموقراطية ممارسة. وهكذا، حين وافت سنة 1970 كان في مصر شعب أكثر تمسكاً بحقه في الديموقراطية من شعب 1961 ومن شعب 1956 ومن شعب 1952 لأن موجة الوعي الشعبي كانت في تصاعد مستمر منذ 1952 بفعل الثورة ذاتها. وكان لا بد أن تحل المشكلة الديموقراطية في شعب شبابه جيل يقظ متوتر لا يقبل أنصاف الحلول أو الانتظار.
إنه الجيل ” الناصري “…
وكان حل مشكلة الديموقراطية في مصر يقتضي التعامل مع هذا الجيل وإتاحة الفرصة له ليتحول من جيل عريض من الأفراد إلى قوة منظمة محررة من رواسب الماضي لتقود المسيرة الاشتراكية والديموقراطية .

الأسلوب:
في بيان أسلوب حل مشكلة الديموقراطية تتجلى قمة نضج موقف عبد الناصر من فهم المشكلة وحلها. عبد الناصر هنا ” عالم ” متمكن من المعرفة الصحيحة بمشكلة الديموقراطية. تقوم معرفته على الوعي بمعطيات موضوعية غير مشوبة بأية أوهام ” مثالية “. وهو أكثر وعياً من أية مرحلة سابقة بالبعد التاريخي لمشكلة الديموقراطية ، وبكيفية حلها ، وبالقوى القادرة على إنجاز هذا الحل وبأساليب حركتها في نضالها الطويل من أجل الديموقراطية..
(1) في يوم 12 نوفمبر 1964 قال عبد الناصر : ” احنا ما بقيناش دولة اشتراكية ، ولا يمكن أن احنا نقول ان احنا النهارده دولة اشتراكية . احنا في مرحلة انتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية “. فإذا تذكرنا انه كان قد قال من قبل في يوم 9 يوليو 1960: ” هناك.. اتصال عضوي بين الاشتراكية والديموقراطية حتى ليصدق القول بأن الاشتراكية هي ديموقراطية الاقتصاد وأن الديموقراطية هي اشتراكية السياسة “.. إذا تذكرنا هذا تكون خلاصة موقف عبد الناصركما انتهى إليه ان مصر ليست دولة ديموقراطية لأنها ليست دولة اشتراكية . وأنها في مرحلة انتقال من الديكتاتورية إلى الديموقراطية لأنها في مرحلة انتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية وأن الديموقراطية في مصر في العالم الثالث النامي- كما قلنا في بداية هذا الحديث، ليست نظاماً نموذجياً قابلاً للتطبيق بالأمر ولكنه نضال طويل يتقدم خلاله الشعب من خلال الوعي والممارسة نحو الديموقراطية.
(2) في خلال مرحلة التحول هذه لا يعني تجريد أعداء الديموقراطية الاشتراكية أسلحتهم أنهم غير موجودين : لا : ” الرجعيين موجودين والرأسماليين موجودين ومستنيين أي غلطة ويتلقفوها .. المجتمع الاشتراكي في مرحلة الانتقال من الرأسمالية المستغلة إلى الاشتراكية لم يتوصل إلى التخلص من آثار الاقطاع والرأسمالية والبيروقراطية (عبد الناصر في 12 نوفمبر 1964) . ” يمكن جردناها من أسلحتها وجردناها من أموالها ولكن هذه الطبقة لا زالت موجودة .. لسه عايزه عشرات السنين لغاية ما تنقرض هذه الطبقة ” (عبد الناصر في 24 ديسمبر 1964) . ” فيه حزب رجعي وحيفضل موجود بدون إعلان وبدون ترخيص وعارفين بعض واتلموا على بعض ومنظمين قوى ” (عبد الناصر في 16 مايو 1965) . ” إن المشكلة هي أن العناصر المضادة للثورة موجودة داخل الاتحاد الاشتراكي وهي عناصر حركية ونحن ينقصنا داخل الاتحاد الاشتراكي نفسه العناصر الحركية المخلصة.. وفي رأيي أن الاتحاد الاشتراكي بوضعه الحالي لا يستطيع أن يقوم بالعمل السياسي ولا بتحقيق تحالف قوى الشعب العاملة. لأن الأعضاء الموجودين فيه اليوم يمثلون عناصر ثورية وعناصر مضادة للثورة . (عبد الناصر- مفهوم العمل السياسي- 1965) .
(3) ” فما هو الحل ؟.. هل نمسك بالاقطاعيين والرأسماليين والرجعيين ونذبحهم ونقول نخلص من شرهم ؟ .. سيقولون إن هذا ليس طريقنا ولا سبيلنا. إن الحل لهذا هو أن تتجمع القوى الاشتراكية وتتعارض وتنظم لتتصدى بكل قوة لمحاولات القوى الرجعية ” (عبد الناصر في 12 نوفمبر 1964). ” قد نستطيع أن نتغلب على هذا النقص بالوسائل الإدارية ونقول ايه دي وسائل إدارية ثورية ولكن أعتقد أن مرحلة الوسائل الإدارية انتهت .. ولا بد أن نعتمد على الوعي الكامل للشعب العامل ” (عبد الناصر في 16 مايو 1965).
(4) ” الحل هو أن يكون لدينا كادر وحزب “.. يجب إذن أن نعمل على أساس هدف .. هل الهدف أن نقيم تنظيماً على الورق.. طبعاً لا.. لأن وجود التنظيمات على الورق لا يحقق هدفنا.. وأنا أعتقد أن الهدف الأساسي هو أن ينشط الاتحاد الاشتراكي كاتحاد جماهيري يجمع كل الجماهير… وفي نفس الوقت نخلق تنظيماً سياسياً ” . ” وإذا اعتبرنا أن عملنا يجب أن ينحصر في العمل السياسي في الوقت الحاضر حتى نستكمل تشكيل الحزب “. ” اننا نريد الحزب الاشتراكي داخل الاتحاد الاشتراكي وبدون هذا الجهاز السياسي الذي أسميه الحزب الاشتراكي فلن نستطيع أن نقود الجماهير أو أن نتصدى للقوى المضادة ” (عبد الناصر- مفهوم العمل السياسي- 1965) ” إحنا حاطين في الاتحاد الاشتراكي تسعة مليون، إذن يجب أن ننظم القوى الاشتراكية الثورية في كادر سياسي أو في تنظيم سياسي، من داخل الاتحاد الاشتراكي، وبهذا نستطيع فعلاً أن نقيم بنيان التنظيم السياسي ودي عملية سايرين فيها دلوقتي… “.

التوقف :
في آخر خطاب عام ألقاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يوم 22 يوليو 1970 لم يذكر كلمة واحدة عن الديموقراطية. والواقع أنه بالرغم من إصداره بيان 30 مارس في أوائل عام 1968 فإنه منذ هزيمة 1967 كان قد تفرغ وأعطى كل فكره وجهده .. ثم أخيراً حياته.. لحل مشكلة التحرير التي تفاقمت بعد الهزيمة بحيث نستطيع أن نقول مطمئنين إلى أن تجربة الديموقراطية كما قادها عبد الناصر توقفت عند 1967. وليس أدل من هذا أنه بالرغم من أنه كان قد شكل لجنة موسعة يوم 30 مايو 1966 لوضع الدستور الدائم . وكانت توالي مهمتها، فإنه في بيان 30 مارس استفتى الشعب على تأجيل وضع الدستور الدائم إلى ما بعد إزالة آثار العدوان فوافق الشعب على التأجيل حتى ” لا يعلو صوت فوق صوت المعركة “.
وفي 28 سبتمبر 1970 توفي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تاركاً مشكلة الديموقراطية وحلولها الممكنة وأسلوب حلها عند الحدود التي أوردناها من قبل . ورشح الاتحاد الاشتراكي العربى الرئيس أنور السادات للرئاسة ، فرشحه مجلس الأمة ، واستفتى عليه رئيساً . وفي شهر مايو 1971 بدأ الصراع في القمة . كان الموضوع ” الظاهر ” للصراع هو إقامة اتحاد ثلاثي بين مصر وليبيا وسوريا. وعرض الأمر على اللجنة التنفيذية العليا وانقسم الرأي وكان الرئيس السادات في صف الاقلية . فاجري تعديل على مشروع الاتحاد يتفق مع رأي الأغلبية فحظي المشروع بالموافقة الإجماعية. ولكن رئيس الجمهورية رأى أن وراء الأكمة ما وراءها فأطاح بالذين عارضوه .. ثم حل جميع المؤسسات الشعبية والدستورية التي رشحته نفسها لرئاسة الجمهورية وكشف فقال إن! كانت كلها، منذ إنشائها، مصطنعة. ثم أعاد إنشاءها مجدداً وأصدر دستور 1971 (11 سبتمبر 1971) فجاء الدستور مضيفاً إلى السلطات التي كانت مخولة للرئيس جمال عبد الناصر سلطات لا مثيل لها في أي دستور مصري سابق أو أي دستور نعرفه في العام . وبذلك تكثفت أكثر من ذي قبل السلطات التنفيذية في يد رئيس الدولة. أما الاتحاد الاشتراكي العربى فقد أصبح – حين صدور دستور- 1971 تجمعاً من الناس على الورق وفي المقرات يفتقد عنصرين من عناصر تكوينه. أولهما التنظيم السياسي داخله والثاني اللجنة التنفيذية العليا لم تشكل أبداً . فكان هو أيضاً اتحاداً شتراكياً عربياً لا يمت بصلة قريبة أو بعيدة لا بالاتحاد الاشتراكي العربى كما جاء في الميثاق ودستور 1971 ولا بالاتحاد الاشتراكي العربي الذي كان قائماً قبل مايو 1971.. وكانت تلك فترة توقف طالت إلى أن يرى الرئيس كيف يكون الاتحاد الاشتراكي العربي.. خلال فترة الانتقال هذه طرحت مشكلة الديموقراطية في مصر للمناقشة، وكان الذي تولى طرحها الرئيس أنور السادات نفسه كما قلنا في بداية هذا الحديث وبالرغم من كل المواقف المختلفة و المتنوعة فقد كان الاختبار الأساسي محصوراً بين أمرين : الأمر الأول : تكملة ” المشوار ” الديموقراطي الذي بدأه عبد الناصر انطلاقاً من آخر ما وصلت إليه المشكلة وحلولها الممكنة، التي أوردناها من قبل.
الأمر الثاني، إلغاء التجربة والاختيار من جديد..
وكانت صعوبة الاختيار، التي أثارت كثيراً من الجدل ، إن وراء الاختيار الديموقراطي كان يكمن الاختيار الاشتراكي… فكيف كان اختيار الرئيس أنور السادات ..؟ إن الإجابة تخرجنا عن موضوع حديثنا. وموضوع حديثنا عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر.. وليس عن أنور السادات ومشكلة الديموقراطية في مصر..

على هامش التجربة:
هناك موضوعان يمثلا جزءاً بارزاً مما يكتبه المؤرخون أو أصحاب المذكرات وهم يتحدثون عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر. و مع ذلك فإننا لم نعطهما مكاناً في هذا الحديث :
أولهما: الجرائم التي ارتكبت ضد بعض المواطنين الذين قبض عليهم خلال مراحل متفرقة من حكم عبدالناصر.
ثانيهما : الصراع بين عبد الناصر قائد الثورة و بين الشيوعيين والاخوان المسلمين وماصاحبه من أحداث كانت في بعض الحالات دموية.
لم نتحدث عن الموضوع الأول لأن ما وقع اكان جرائم . وهي جرائم معاقب عليها بأقصى العقوبات إلى حد الإعدام بمقتضى ذات القوانين التي تشكل ركناً من أركان نظام عبد الناصر.. والجرائم تقع في كل مجتمع وفي كل نظام ولولا هذا لما وجدت القوانين الجزائية و المحاكم والسجون .. ولكنها، مهما بلغت بشاعتها ، لا تؤثر في طبيعة النظام ذاته. ثم أن تلك الجرائم قد تحدد مسئوليتها قضائياً على عاتق الذين كانوا في ظل حكم عبد الناصر يناهضونه ويقيمون دولتهم العسكرية فوق دولته المدنية. ثم، إذا قيل إنه لم يفعل شيئاً ، نقول ، إن عبد الناصر هو الذي صفى المؤسسة العسكرية، وقدم أعضاءها إلى المحاكمة. وفي حياته قضي على شمس بدران عميد المجرمين في القوات المسلحة، وصلاح نصر عميد المجرمين في المخابرات العامة بعقوبات جسيمة بعد محاكمات عادلة. والذي نعرفه أن الرئيس أنور السادات قد أمر بالافراج عنهما وإخراجهما من السجن .. ليتقدم المجنى عليهم، مرة أخرى ، ويأخذون موقف عبد الناصر فيخاصمونهما لدى القضاء الذي يعيد الحكم عليهما مرة أخرى .. وليس في كل هذا ما يمكن أن يغير الموقف من الديموقراطية..
ولم نتحدث عن الصراع بين عبد الناصر قائد الثورة وبين الشيوعيين والإخوان المسلمين أولاً لأننا لا نحبذ النفاق وثانياً لأن ذلك الصراع لا علاقة له بمشكلة الديموقراطية في مصر وثالثاً لأن الصراع على السلطة ليس لعبة رياضية. إن كلأ من الشيوعيين والاخوان المسلمين كان حزباً منظماً يواجه دولة منظمة يقودها عبد الناصر وقد قدر الشيوعيون والإخوان المسلمون ودبروا وخططوا وجهزو ا وأعدوا ما استطاعوا من عدة لإسقاط عبدالناصر عنوة والاستيلاء على السلطة . ولو نجح أي منهما فيما دبر وخطط لقدموا عبد الناصر وكثيراً من رفاقه إلى المشانق ، أو لنجحت محاولات اغتياله .. اختاروا إذن قواعد الصراع بالعنف فتحداهم إليها وسحقهم بدلاً من أن يسحقوه . وقد يكون من حقهم الانساني أن يتألموا.. ولكنهم لا يستطيعون أن ينسبوا إلى عبد الناصر أن خالف قواعد الصراع التي اختاروها . ولا علاقة للشعب في مصر بتلك القواعد وصراعاتها الدموية من أجل الاستيلاء على الحكم .. أي لا علاقة لتلك القواعد وصراعاتها بمشكلة الديموقراطية في مصر فلا توجد دولة في العالم تقبل أن يسقطها أعداؤها بالعنف خشية أن تتهم بأنها غير ديموقراطية .
كل هذا على هامش التجربة وليس من صميمها فلا يستحق أن يذكر.
و أخيراً :
فلقد اجتهدنا ولكل مجتهد نصيب .. من الرضا أو من السخط . ونحن نقبل نصيبنا أياً كان نوعه لأننا ما أردنا- منذ البداية- أن نرضي أحداً أو أن نغضب أحداً . وما يزال باب الاجتهاد مفتوحاً … لمن يريد.
القاهرة مايو- يوليو 1977
دكتور عصمت سيف الدولة

عبد الناصر والإصلاح الزراعي

بعد مرور اقل من الشهر ونصف الشهر فقط من قيام ثورة 23 يوليو 1952 اعلن جمال عبد الناصر صدور قوانين الاصلاح الزراعى , والذي بمقتضاها وزعت الاراضى الزراعية على الفلاحين ليصبحوا للمرة الاولى ملاكا لاراضيهم بعد ان كانوا مجرد اجراء يعملون بالسخرة لدى الاقطاعيين المالكين لكل الاراضى الزراعية
” عدد قليل من الملاك يستأثرون بنحو ثلث الأرض الزراعية ” وهذا رمز لها :
61 مالكا يملك كل منهم أكثر من 2000 فدان ومجموع ملكيتهم 277258 فدانا
28 مالكا يملك كل منهم أكثر من 1500 فدان ومجموع ملكيتهم 97454 فدانا
99 مالكا يملك كل منهم أكثر من 1000 فدان ومجموع ملكيتهم 112216 فدانا
92 مالكا يملك كل منهم أكثر من 800 فدان ومجموع ملكيتهم 86472 فدانا
ومعنى ذلك ان 280 مالكا كانوا يملكون 583400 فدان ، أي ان واحدا من مائة الف من الشعب يملك 12% من الأرض .

قال جمال عبد الناصر 2 مايو 1954 في قرية باتاج بمناسبة حفل توزيع الأراضي

” فلما قامت الثورة وجدت أن الفلاح الذي يعتبر الدعامة الأولى في هذا البلد يجب أن يتحرر، وانه لن ينال هذه الحرية بالكلام وحده ولكن ينالها بالعمل . ولهذا بدأنا بتحديد الملكية الزراعية لنحرر الفلاح من الاستعباد ونحرره من الاستغلال فإن الهدف الأول لهذه الثورة كان مركزاً في كلمة واحدة هي ” الحرية”

وقال في  3 يوليو 1955 في حفل توزيع الأراضي

” ولكن تحرير الأرض يحرر الفرد من كل أنواع الذل والاستعباد والاقطاع . كيف يتحرر هذا الفلاح الذي يعمل عند الاقطاعي ويشعر أنه تحت رحمته يستطيع أن يخرجه متى شاء هو وأولاده . ومعنى هذا أنه لن يطمئن على حريته ولن تتحقق حرية الفلاح إذا كان مهدداً في رزقه وفي حياته. وإذا كانت الحرية كلاماً وخداعاً فاننا لا نوافق على الخداع لأننا نؤمن أن حرية الوطن لا يمكن أن تتم إذا لم يتحرر الفرد. وكيف يتحرر الوطن والغالبية العظمى لم تتحرر؟ ” .

يعيش جمال حتى في موته

ثــورة 23 يولـيو والإخـوان المسلمين

ثــورة يولـيو والأخـوان المسلمين

سامي شرف

واجهت جماعة الإخوان المسلمون على مدى تاريخها إشكالية كبرى ، لقد قامت فى البداية كجماعة دينية تعمل فى مجال الدعوة وتخليص الإسلام من البدع الدخيلة عليه وترسيخ المفاهيم الصحيحة للدين بين أفراد المجتمع ، ولا ننكر أنها بذلك كسبت أرضية واسعة فى المجتمع ، ولكنها فى الوقت نفسه أبدت طموحا سياسيا كبيرا للعب دور مؤثر على المسرح السياسى ليس فى مصر وحدها بل فى العالم العربى كله مستغلة فى ذلك حالة الفوران السياسى التى أعقبت ثورة سنة 1919 وانتشار الاستعمار الأوروبى فى المنطقة ومن ثم تصاعد حركة المقاومة .

والأمر المنطقى أن ينصب الشق السياسى فى نشاط الإخوان المسلمين على مقاومة المحتل الأجنبى والتصدى لألوان الفساد فى الداخل ، لكن ما حدث بالفعل هو سعى قادة الجماعة -وفى مرحلة مبكرة جدا- إلى دخول المعترك السياسى كتيار صالح للاستخدام من جانب الملك وأحياناً من جانب البريطانيين أنفسهم لضرب تيارات أخرى وفى مقدمتها حزب الأغلبية ، واقدم هؤلاء القادة على بعض التصرفات لخدمة هذا الهدف ، لكنها أثارت ردود فعل معاكسة لأجنحة اخرى داخل الجماعة .

وقد تمثل أول هذه التصرفات عندما قبل الشيخ حسن البنا تبرع الشركة الفرنسية التى كانت تدير قناة السويس وقتئذ بمبلغ خمسمائة جنيه لبناء أول مقر للجماعة فى مدينة الإسماعيلية مما أثار اعتراض بعض الأعضاء المؤسسين باعتبار أنها شركة استعمارية لا يهمها الإسلام فى شئ ، لكن الشيخ كان مهتما فى المقام الول بتدبير التمويل اللازم لجماعته الوليد ، والأهم من ذلك هو طمأنة القائمين على الشركة ومن ورائهم الأجانب المنتشرين فى منطقة قناة السويس إلى اقتصار مقاصده على الجوانب الدينية فقط حتى يتمكن من ترسيخ قواعد جماعته فى هدوء .

وفى هذا السياق ارتبطت الجماعة بعلاقات متنامية مع الملك فاروق الذى رأى فيها عونا كبيرا له باعتبارها تنظيما يقاوم النشاط الشيوعى ، وكان الملك فاروق فى نفس الوقت يعمل على دعم وتمويل الجماعة لمواجهة حزب الوفد ، و يعتبر أن جماعة الإخوان المسلمين هى الجماعة الوحيدة التى تحتكم إلى قواعد شعبية تستطيع أن تنافس الوفد فى شعبيته ، ومن الصدف العجيبة أنه فى تاريخنا القريب جدا كان أنور السادات يتبع نفس الأسلوب الملكى ، ولكن بخلاف بسيط ؛ هو أنه أستخدم هذه الجماعة لمواجهة الناصريين مع انقلاب مايو 1971

ومما يؤكد العلاقة الوطيدة بين الملك فاروق وجماعة الإخوان المسلمين أنه فى أكثر من مرة عندما كان حسن الهضيبى المرشد العام للإخوان المسلمين -وهو فى نفس الوقت زوج شقيقة مراد باشا محسن ناظر الخاصة الملكية – يقابل الملك فاروق كان يخرج من كل مقابلة ليصرح بقوله :” زيارة كريمة لملك كريم ” .

وبعد معاهدة1936 ظهرت جماعة الإخوان المسلمين على المسرح السياسى عندما اشتد الصراع بين الملك والوفد ، وكان على ماهر باشا رئيس الديوان الملكى والرجل القريب جدا من فكر وقلب الملك والمستشار الأكثر قربا وتأثيرا على القصر على علاقة طيبة بالشيخ حسن البنا المرشد العام للجماعة وبعض أفراد الجماعة، واعترض بعض أعضاء الجماعة رافضين هذه العلاقة ووجهوا إنذارا للمرشد العام للجماعة مطالبين فيه بقطع هذه العلاقة ، ولكن حسن البنا رفض هذا الإنذار، وطرد هؤلاء الرافضين، وقد كتب أحدهم مقالا يشرح فيه أسباب الانقسام، وذكر فيه ” أنهم خرجوا؛ لأن الجماعة موالية للقصر الملكى ، كما أورد أسبابا أخرى تفيد التلاعب فى الأموال ، وبعض التصرفات غير الأخلاقية ” .

ولقد خصص المؤتمر الرابع للجماعة للاحتفال باعتلاء الملك فاروق عرش مصر ، كما كانوا يقفون فى ساحة قصر عابدين فى المناسبات هاتفين : ” نهبك بيعتنا ، وولاءنا على كتاب الله وسنّة رسوله “.
وقد ورد فى جريدة ” البلاغ ” فى 20ديسمبر 1937 ما يلى :
عندما اختلف النحاس باشا مع القصر خرجت الجماهير تهتف : ” الشعب مع النحاس ” فسيّر حسن البنا رجاله هاتفين : ” الله مع الملك “.

وكتب أحمد حسين فى جريدة ” مصر الفتاة ” فى 17يوليو1946 مايلى :”إن حسن البنا أداة فى يد الرجعية ، وفى يد الرأسمالية اليهودية، وفى يد الإنجليز وصدقى باشا” .

وبمناسبة صدقى باشا ، فإنه عندما تولى رئاسة الوزارة سنة 1946 كان أول ما قام به هو زيارته للمركز العام للإخوان المسلمين فى الحلمية الجديدة ، ووقف أحد أصدقاءه من الإخوان المسلمين يهنئه بتوليه الوزارة قائلا :” واذكر فى الكتاب إسماعيل أنه كان صادق الوعد ، وكان رسولا نبيا”.

وعندما شكل الطلبة والعمال اللجنة الوطنية ، انشق الإخوان المسلمين وشكلوا بالاتفاق مع إسماعيل صدقى رئيس الوزراء ومع الملك ما سمى ” باللجنة القومية “، وإذا رجعنا إلى مذكرات كريم ثابت – المستشار الصحفى للملك فاروق ورئيس تحرير جريدة الزمان – والتى نشرت فى جريدة الجمهورية فى شهر يوليو1955 وجاء فيها متعلقا بجماعة الإخوان المسلمين أنه أى كريم ثابت تدخل لدى النقراشى باشا رئيس الوزراء لإيقاف قرار حل ومصادرة ممتلكات الجماعة باعتبارها عونا كبيرا للملك فاروق وللعرش فى مقاومة الشيوعية ، وأن الملك فاروق كان يعتبر أنهم الهيئة الوحيدة التى يمكنها أن تنافس الوفد، وتشجيعها يؤدى إلى انقسام معسكر القوى الوطنية وبالتالى إضعافه .

ويروى أحمد مرتضى المراغى وزير الداخلية الأسبق فى مذكراته التى نشرت فى مجلة “أكتوبر ” أنه عندما كان مديرا للأمن العام ذهب إليه فى منزله فى حلوان الشيخ حسن البنا وطلب منه إبلاغ الملك الرسالة التالية – وكان فى هذا الوقت يرأس الحكومة النقراشى باشا ، وكان يعادى الإخوان المسلمين الرسالة هى :” الإخوان المسلمين لا يريدون به شرا وأننا لا ننبذ تصرفاته ، إنه يذهب إلى نادى السيارات للعب الورق فليذهب!! ، وإلى النوادى الليلية ليسهر ، فليسهر! نحن لسنا قوامين عليه”.

وفى سنة1950 حصل حزب الوفد على الأغلبية فى الانتخابات وسقط الأمر العسكرى بحل جماعة الإخوان المسلمين وانتخب المستشار حسن الهضيبى مرشدا عاما للجماعة .

وتقول جريدة اللواء الجديد فى 30يناير1950 : ” إن مزراحى باشا محامى الخاصة الملكية كان له دور فى تحسين العلاقات بين الملك والإخوان المسلمين، وأن الصحف البريطانية أظهرت ترحيبا شديدا باختيار الهضيبى مرشدا عاما الذى يؤيده الملك فاروق لقرابته بمراد باشا محسن – زوج شقيقته – كما أنه وطيد الصلة بعائلات ثرية قريبة من السراى ، وكان الملك فاروق عندما يقابل المرشد العام يرسل له سيارة ملكية خاصة لإحضاره.. ” .

وفى عام 1951 عقب إلغاء معاهدة 1936 وإعلان الكفاح المسلح ضد القوات البريطانية فى منطقة قناة السويس صرح حسن الهضيبى لجريدة الجمهور المصرى فى 19أكتوبر 1951 بقوله: “وهل تظن أن أعمال العنف تخرج الإنجليز من البلاد ، إن واجب الحكومة اليوم أن تفعل ما يفعله الإخوان من تربية الشعب . . وذلك هو الطريق لإخراج الإنجليز ” .

كما خطب المرشد العام فى شباب الجماعة قائلا : ” اذهبوا واعكفوا على تلاوة القرآن الكريم ” .

وقد رد عليه خالد محمد خالد – الكاتب الإسلامى فى مجلة ” روز اليوسف” بمقالة عنوانها “أبشر بطول سلامة يا جورج ” ، وجاء فى المقال :” إن الإخوان المسلمين كانوا أملا من آمالنا ، ولم يتحركوا ، ولم يقذفوا فى سبيل الوطن بحجر ولا طوبة، وحين وقف مرشدهم الفاضل يخطب منذ أيام فى عشرة آلاف شاب قال لهم :” اذهبوا واعكفوا على تلاوة القرآن الكريم ” . . وسمعت مصر المسكينة هذا التوجيه فقذفت صدرها بيدها وصاحت . . آه يا كبدى . . . أفى مثل هذه الأيام يدعى الشباب للعكوف على تلاوة القرآن الكريم، ومرشد الإخوان يعلم أو لا يعلم أن رسول الله وخيار أصحابه معه تركوا صلاة الظهر والعصر من أجل المعركة ، ويعلم أو يجب أن يعلم أن رسول الله نظر إلى أصحابه فى سفره فإذا بعضهم راقد وقد أعياه الصوم ، وبعضهم مفطر قام بنصب الخيام فابتسم إليهم ابتسامة حانية راضية وقال : “ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله، فلقد وجد الوطن فى التاريخ قبل أن يوجد الدين ، وكل ولاء للدين لا يسبقه ولاء للوطن فهو ولاء زائف ليس من روح الله”.

والوطن عماد الدين وسنده ولن تجدوا ديننا عزيزا مهيبا إلا إذا كان فى وطن عزيز مهيب، وإذا لم تبادروا بطرد الإنجليز فلن تجدوا المصاحف التى تتلون فيها كلام ربكم . . . أتسألون لماذا؟ لأن الإنجليز سيجمعونها ويتمخطون فيها كما حدث فى ثورة فلسطين سنـة1937 ، وإذا حسبتمونى مبالغا فراجعوا الكتاب المصور الذى أصدره المركز العام عن تلك الثورات لتروا صورة الضباط الإنجليز وهم يدوسون المصاحف ويتمخطون فى أوراقها . إن فى مصر قوى شعبية ضخمة تستطيع رغم ظروفها أن تردم القناة بجثث الإنجليز ، ولكن هذه القوى محتكرة . . . تحتكرها الهيئات والجماعات لصالح من ؟ وإلى متى ؟ ” .
خالد محمد خالد

الإخوان بعملون فى الصفوف الخلفية:

كما كتب إحسان عبد القدوس مقالا فى ” روزاليوسف ” بتاريخ 27نوفمبر 1951 بعنوان “الإخوان . . إلى أين ؟ وكيف . . ؟ ينعى عليهم عدم مشاركتهم فى معركة القناة، ويقول: “إن هذه الأيام أيام الامتحان الأول للإخوان عقب محنتهم ، فإما أن يكونوا أقوياء بإيمانهم ، وإما فقدتهم مصر ” .

وفى شهر يوليو1952 نشرت جريدة المصرى – التى تتبنى أفكار حزب الوفد – خبرا جاء فيه أنه كان قد تم الاتفاق بين الإخوان المسلمين والوفد على أن تشترك كتائب من الإخوان مع الوفد فى معركة القناة، وأن حكومة الوفد ستسلم الإخوان 2000 بندقية و50 رشاشا ومليون طلقة ، وأنه كان قد تحدد يوم 26يناير سنة1952 لتسليم هذه الأسلحة ، ولكن الملك فاروق حدد يوم 26يناير1952 لإقالة حكومة الوفد ، كما نشرت جريدة المصرى تصريحا للمرشد العام عقب مقابلته للملك فاروق جاء فيه إن الملك قال له: “أنه خائف على البلد من اللى بيعمله المصريين فى الإسماعيلية والسويس، وأنه يجب ألا يشترك الإخوان معهم فى هذه الأعمال؛ لأن الحركة دى حا تجر على البلد مصايب ” .

وفى مذكرات اللواء فؤاد علام مفتش النشاط الدينى بمباحث أمن الدولة الأسبق والمنشورة بجريدة عالم اليوم فى 20 أغسطس 1995 قال : ” أن السفير الأمريكى جيفرسون كافرى قدم تقريرا عن اجتماع مع أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين – لم يذكر اسمه- ووصفه بأنه ابن أحد مشايخ الأزهر، وقدم عضو الإخوان المسلمين المعلومات التالية عن موقف الإخوان :

قرر أن الثورة أبلغت الإخوان بأنها سوف تحارب القوات البريطانية فى الوقت المناسب، وأنهم يعتقدون بأن الثورة جادة فى شن حرب فى منطقة القنال .. وأن الإخوان سيلتزمون بالمشاركة فى مثل هذه الحرب من الناحية الأدبية فقط .

أشار إلى وجود مخازن سلاح سرية يمكن الاستيلاء عليها، ولا تعرف الثورة عنها شيئا، وهى عبارة عن أسلحة أوتوماتيكية متنوعة بدلا من النوعيات التى عفى عنها الزمن، وأنه شخصيا عاين أكثر من 100 قطعة سلاح، لكنه تهرب أكثر من مرة من تحديد موعد هذه الحرب.

قرر أكثر من مرة بأن صداما سوف يحدث قبل أكتوبر 1953، سواء ضد الثورة أو الإنجليز، وأكد أن شعورا عاما بالاستياء سوف يعم المواطنين.

وأشار إلى أن الإخوان الذين اعتقلتهم الثورة ليسوا فى الحقيقة إخوانا، وإنما شيوعيون تستروا بالإخوان كغطاء لإخفاء نشاطهم.
وفى صباح 23 يوليو استدعى حسن عشماوى لمبنى القيادة العامة للقاء عبد الناصر ، الذى طلب منه تأييدهم للثورة ، ورفض المرشد العام إصدار البيان ـ وكان فى المصيف بالإسكندرية – ولم يصدر بيان التأييد المقتضب إلا فى ساعة متأخرة من يوم 27يوليو1952 وبعد طرد الملك فاروق من مصر .

ويقول فضيلة الشيخ المرحوم أحمد حسن الباقورى عن خلافه مع جماعة الإخوان، وبين عبد الناصر والإخوان : ” إن العملية كلها منذ جاء المرحوم على باشا ماهر ، وتحرك جماعة من الإخوان مثل الأستاذ عبد الحكيم عابدين وآخرين دون علمى لمقابلته؛ وأنا عضو فى مكتب الإخوان العام، ولابد أن يكون لى وجهة نظر معينة إذا ما أراد الواحد منهم أن يلتقى برئيس الوزراء، ثم التقوا لقاء غريب بالإنجليز .. أنا شعرت أن هذه العملية لعب، وأنهم يلعبون بنا .. وجمال عبدالناصر رحمة الله عليه كان زعلان منهم؛ لأنه فى ليلة القيام بثورة 23 يوليو كان قد اتفق مع بعض الإخوان المسلمين أن يشاركوا.. والذى حدث أنهم لم يحضروا فى الموعد المحدد ورفضوا التحرك ولم يتعاونوا – كما يزعمون – ، واعتبر عبدالناصر موقفهم هذا هروبا ربما يكون قد فكر فى أكثر من الهروب .. بالخيانة مثلاً، ولكن لم يقل شيئاً سوى أنهم خذلوه..!!.

وأعتقد أنه بعد ما ذكر يمكن أن يتفهم القارئ الكريم الأسباب التى أدت بمجلس قيادة الثورة إلى اتخاذ القرار بحل جماعة الإخوان المسلمين 14يناير1954 :

التقاعس فى تأييد المرشد العام للإخوان المسلمين للثورة إلا بعد خروج الملك فاروق من مصر.

عدم تأييد الجماعة لقانون الإصلاح الزراعى ، والمطالبة برفع الحد الأقصى للملكية الزراعية فى حالة تطبيق القانون إلى خمسمائة فدان .

محاولة الجماعة فرض الوصاية على الثورة بعد حل الأحزاب السياسية القديمة .

اتخاذ موقف المعارضة من هيئة التحرير ( التنظيم السياسى ) .

بدء التسرب إلى الجيش والبوليس وقيام الجماعة بتشكيل خلايا سرية تحت إشراف المرشد العام للجماعة مباشرة ( المسئولين العسكريين كانوا أبو المكارم عبد الحى وعبد المنعم عبد الرؤوف وحسين حمودة وصلاح شادى ).

تشكيل جهاز سرى جديد بعد حل الجهاز السرى القديم الذى كان يشرف عليه عبد الرحمن السندى منذ أيام حسن البنا ، والمعروف أن السندى كان على اتصال بالرئيس جمال عبد الناصر من قبل الثورة عندما كان عبد الناصر على علاقة بشكل ما أو بآخر بأغلب التنظيمات السياسية فى مصر هو وبعض الضباط الأحرار الآخرين .

تم اتصال عن طريق د . محمد سالم الموظف فى شركة النقل والهندسة بين المستر إيفانز المستشار الشرقى فى السفارة البريطانية بالقاهرة فى خلال شهر مايو سنة1953 مع كل من منير دلة وصالح أبو رقيق ثم مع حسن الهضيبى بعد ذلك، واعتراض مجلس الثورة وقتها على هذه الاتصالات ولكنهم استمروا فيها وقد تم رصد هذه الاتصالات فى حينه، وتم تسجيل أغلبها بمعرفة أجهزة الأمن المعنية ( المخابرات العامة والمباحث العامة ).

زيارة حسن عشماوى يوم الأحد 10يناير1954 للمستر كروزويل الوزير المفوض بالسفارة البريطانية بالقاهرة مرتين فى نفس اليوم ، الأولى الساعة الرابعة والثانية فى الساعة الحادية عشر مساء.
عبد الناصر والاخوان قبل الثورة وبعدها :

ولنقرأ ما قاله الرئيس جمال عبد الناصر فى نوفمبر1965 بالنص حول علاقة الثورة بالإخوان المسلمين :

” أنا قبل الثورة كنت على صلة بكل الحركات السياسية الموجودة فى البلد ، يعنى كنت أعرف الشيخ حسن البنا ، ولكن ماكنتش عضو فى الإخوان المسلمين 0 كنت أعرف ناس فى الوفد وكنت أعرف ناس من الشيوعيين ، وأنا أشتغل فى السياسة أيام ما كنت فى ثالثة ثانوى ، وفى الثانوى اتحبست مرتين أول ما اشتركت فى مصر الفتاة وده يمكن اللى دخلنى فى السياسة، وبعدين حصلت خلافات وسبت مصر الفتاة ، ورحت انضميت للوفد ، وطبعا أنا الأفكار اللى كانت فى راسى بدأت تتطور، وحصل نوع من خيبة الأمل بالنسبة لمصر الفتاة ، ورحت الوفد وبعدين حصل نفس الشىء بالنسبة للوفد ، وبعدين دخلت الجيش . . . وبعدين ابتدينا نتصل فى الجيش بكل الحركات السياسية ولكن ماكناّش أبدا فى يوم من الإخوان المسلمين كأعضاء أبدا ، ولكن الإخوان المسلمين حاولوا يستغلونا فكانت اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار موجودة فى هذا الوقت، وكان معانا عبد المنعم عبد الرؤوف وكان فى اللجنة التأسيسية ، وجه فى يوم وضع اقتراح قال إننا يجب أن نضم حركة الضباط الأحرار إلى الإخوان المسلمين . . . أنا سألته ليه ؟

قال : ” إن دى حركة قومية إذا إتقبض على حد منا تستطيع هذه الحركة أنها تصرف على ولاده وتؤمن مستقبله ” .

ولكن مش ممكن نسلم حركة الضباط الأحرار علشان مواضيع شخصية بهذا الشكل ، وحصل اختلاف كبير. . صمم عبد المنعم عبد الرؤوف على ضم حركة الضباط الأحرار إلى الإخوان المسلمين وإحنا رفضنا ـ كان طبعا فى هذا الوقت الشيخ حسن البنا الله يرحمه مات، وأنا كان لى به علاقة قوية ولكن علاقة صداقة ومعرفة.. زى ما قلت لكم ما كنتش أبدا عضو فى الإخوان المسلمين، وأنا لوحدى يمكن اللى كان ليه علاقة بحسن البنا وإخواننا كلهم مالهومش ، ولكن كنت بأقول لهم على الكلام اللى يحصل معاه . . . نتج عن هذا إن عبد المنعم عبد الرؤوف استقال وده قبل الثورة بستة شهور ، استقال عبد المنعم عبد الرؤوف وأنا كانت لى علاقة ببعض الناس من الإخوان المسلمين كعلاقة صداقة . . . وكان لهم تنظيم داخل الجيش، وكان يرأس هذا التنظيم ضابط اسمه أبو المكارم عبدالحى . . وقامت الثورة . . فى أول يوم من قيام الثورة جالى بالليل عبد الرؤوف ومعاه أبو المكارم عبدالحى، وطلبوا إننا نديهم أسلحة علشان الإخوان يقفوا جنبا إلى جنب مع الثورة . . أنا رفضت إن إحنا نديهم سلاح ، وقلت لهم إن إحنا مستعدين نتعاون . . وبدأ التعاون بيننا وبين الإخوان المسلمين وقلت لهم يشتركوا فى الوزارة بعد كده، ورشحوا عدد من الناس للاشتراك فى الوزارة ، ولكن جه بعد كده تصادم.. اتحلت الأحزاب كلها ، وما حليناش الإخوان المسلمين ” .

وفى اليوم التاسع والعشرين من يوليو1952 تم لقاء بناء على طلب المرشد العام للإخوان المسلمين فى منزل صالح أبو رقيق ، حضره الرئيس جمال عبد الناصر والمرشد العام الذى طلب أن تطبق الثورة أحكام القرآن الكريم ، وأجابه الرئيس عبد الناصر بأن الثورة قامت حربا على الظلم والاستبداد السياسى والاجتماعى والاستعمار البريطانى ، وهى بذلك ليست إلا تطبيقا لأحكام القرآن الكريم .

فطلب المرشد أن يصدر قرار بفرض الحجاب حتى لا تخرج النساء سافرات ، وأن تغلق دور السينما والمسارح . . فرد الرئيس عبد الناصر – بعدما حسب الأمر – أنت تطلب منى طلبا لا طاقة لى به . .

فأصر المرشد على طلبه . . فقال الرئيس عبد الناصر :

” اسمح لى نتكلم بصراحة وبوضوح . . انت لك بنت فى كلية الطب . . هل بنتك اللى فى كلية الطب بتروح الكلية لابسة حجاب ؟ ! أنا أعرف بأنها بتروح الكلية بدون حجاب ، فإذا كنت فى بيتكم مش قادر تخللى بنتك تطلع فى الشارع حاطة الحجاب ، حاتخللينى أنا أطالب الناس كلهم وأقول لهم حطوا حجاب 000 وبعدين هل بنتك بتروح السينما وإلا ما بتروحش ؟ بتروح السينما.. طيب إذا كان الراجل فى بيته مش قادر يخللى أولاده أو بنته ما تروحش السينما ليه.. السينما إحنا علينا واجب أن نعمل رقابة عليها وعلى المسارح كمان حتى نحمى الأخلاق ، ونحن سوف نمنع من يقل عمره عن 21 سنة من إرتياد الملاهى .

لم يعجب المرشد هذا الكلام وطالب بمنع الناس كلها ، فرد عليه الرئيس عبد الناصر قائلا : “ولماذا لم تتكلم أيام فاروق ؟!! وكانت الإباحة مطلقة وكنتم تقولون ” أن الأمر لولىّ الأمر”.

ودار حوار طويل وبدا أن المرشد العام حدد موقفه من الثورة برفض التعاون ورفض الثورة ، وهذا ما سيتضح فيما بعد ، لكن عبد الناصر كان يتبع سياسة النفس الطويل ، ولا يريد أن يبدأ بالصدام بل فضل أن تتفاعل الأحداث .

وفى الثامن من أغسطس سنة 1952 ، كتب سيد قطب أحد أقطاب الإخوان المسلمين ، مقالا فى جريدة الأخبار فى شكل رسالة للواء محمد نجيب قال فيها :

” إن الدستور الذى لم يسمح بكل ما وقع من فساد الملك وحاشيته فحسب، ولكن فساد الأحزاب ورجال السياسة وما تحمل صحائفهم من أوزار . إن هذا الدستور لا يستطيع حمايتنا من عودة الفساد إن لم تحققوا أنتم فى التطهير الشامل الكامل الذى يحرم الملوثين من كل نشاط دستورى، ولا يبيح الحرية السياسية إلا للشرفاء . . . لقد احتمل هذا الشعب ديكتاتورية طاغية باغية شريرة مريضة على مدى خمسة عشر عاما أو تزيد أفلا يحتمل ديكتاتورية عادلة نظيفة ستة شهور ، على فرض قيامكم بحركة التطهير يعتبر ديكتاتورية بأى وجه من الوجوه ؟” .

وفى شهر أكتوبر 1952 صدر قرار بالإفراج عن 934 مسجونا ومعتقلا معظمهم من الإخوان المسلمين .

وعند تشكيل وزارة محمد نجيب بعد وزارة على ماهر اشترك اثنان من الإخوان المسلمين – الشيخ أحمد حسن الباقورى كوزير للأوقاف والمستشار أحمد حسنى كوزير للعدل- وذلك بعد اتصال تم بين عبد الحكيم عامر والمرشد العام الذى رشح له هذين الاسمين . . إلا أن الرئيس جمال عبد الناصر فوجئ بزيارة محمد حسن عشماوى ومنير دلّة اللذين أبلغاه أن مكتب الإرشاد قد رفض ترشيحهما هما الاثنين للوزارة، وأن ترشيح الباقورى وأحمد حسنى كان تصرفا شخصيا من المرشد العام ، وقد قوبل هذا المطلب باستغراب حيث أن الباقورى وأحمد حسنى كانا سيحضران فى نفس الوقت تقريبا لحلف اليمين الدستورية ، واتصل الرئيس عبد الناصر بالمرشد العام لاستيضاح الأمر، فقال المرشد العام أنه سيجمع مكتب الإرشاد ويرد على مجلس قيادة الثورة، ولكنه لم يتصل ، فأعاد الرئيس عبد الناصر الاتصال به مرة ثانية ، فقال له المرشد العام أن مكتب الإرشاد قرر عدم الاشتراك فى الوزارة، وفصلوا الباقورى عضو مكتب الإرشاد من الجماعة .
استثنيت الجماعة بعد ذلك من قانون حل الأحزاب ، كما شارك ثلاثة من أعضائها فى لجنة الدستور هم صالح عشماوى وحسن عشماوى وعبدالقادر عودة .

وتسجل هذه الفترة سبعة لقاءات تمت بين جماعة الإخوان المسلمين والسفارة البريطانية فى القاهرة ، وكانت هذه الاتصالات مرصودة من جهازين فى الدولة ، الأول إدارة المباحث العامة والثانى القسم الخاص بالمخابرات العامة ، الذى كان هو نواة هيئة الأمن القومى فى المخابرات العامة بعد ذلك ـ كان التنسيق والتعاون كاملا بين هاتين الإدارتين فى متابعة النشاط الداخلى شكلا وموضوعا لدرجة أن القسم الخاص كانت مكاتبه فى نفس مقر المباحث العامة لكى يكون الاتصال الشخصى أيضا ميسر وسهل دون إضاعة للوقت .

تم لقاءين من هذه اللقاءات مع السفارة البريطانية فى منزل الدكتور محمد سالم بالمعادى وحضرهما من جماعة الإخوان المسلمين كل من منير دلة وصالح أبو رقيق ومن الجانب البريطانى المستر إيفانز المستشار الشرقى بالسفارة البريطانية بالقاهرة فى ذلك الوقت.

كما تمت مقابلتين فى منزل إيفانز حضرهما منير دلة وصالح أبو رقيق لتناول الشاى ، ثم مقابلة خاصة فى منزل المرشد العام حضرها الهضيبى ومنير دلة وحسن عشماوى وإيفانز.

وفى مذكرات اللواء فؤاد علام مفتش النشاط الدينى بمباحث أمن الدولة الأسبق والمنشورة بجريدة عالم اليوم فى 20 أغسطس 1995 قال : ” أنه فى 27 يوليو 1953 عقد اجتماع لمدة ثلاثة ساعات بين حسن الهضيبى ومستر التنج السكرتير السياسى للسفارة الأمريكية بالقاهرة.. وتحدث فيه الهضيبى عن موقف الإخوان المسلمين من مجلس قيادة الثورة، مشيرا إلى أن الإخوان يعلمون أن النظام حسن النية، وأنهم كإخوان ضد تحديد ملكية الأراضى الزراعية، ويسعدهم إزالتها، وأنهم يرغبون فى إزاحة بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة مثل ناصر، وأنهم يخططون لعزل العسكريين من السلطة، وإحلال مجموعة مختارة محلهم من الأحزاب، وأن على المعارضة أن تنسق جهودها لتتعامل بالقوة مع الظروف إذا ما سقط النظام.
وأكد الهضيبى أن حكومة الثورة سوف تسقط فى وقت قريب؛ لأنها تبنت أحلاما كبيرة لن تستطيع أن تحققها مثل إخراج الإنجليز من القنال، وإصلاح الأوضاع الاقتصادية.

وقال أن مجلس قيادة الثورة أرتكب خطأ فاحشا بتبنيه رسميا للعمليات العسكرية ضد الإنجليز؛ فقد كان واجبهم أن يتركوا آخرين يفعلوا ذلك !!، وأن يتوقفوا عن التصريحات الرسمية التى جعلتهم فى فوهة المدفع .. كان يمكن للحكومة أن تعمل بشكل سرى ضد الإنجليز دون التورط الرسمى.

هذه عينة من التقارير التى تتضمن اتصالات الإخوان بالأمريكان مثل الصدام المباشر بينها وبين الثورة فى مصر، تؤكد أن المعلومات التى قدمها الإخوان للأمريكان فى مختلف الشئون السياسية والعسكرية والاقتصادية تخضع لوصف الخيانة العظمى فى قانون أى دولة، ولم يجد الهضيبى وأعوانه أى غضاضة فى عقد اجتماعات سرية مع السفراء الأجانب، والعاملين بالسفارات الأجنبية فى مصر؛ فالإخوان كانوا يلعبون على كل الأحبال؛ تارة يعمقون علاقاتهم بالسراى، وتارة يتعاونون مع الإنجليز، ثم يتصلون بالأمريكان من وراء ظهر حكومتهم، وكان هدفهم الرئيسى هو الوصول إلى الحكم، وكانوا يخاطبون كل جهة من هذه الجهات حسب هواها..

والأغرب من ذلك أنهم طلبوا تسوية سلمية مع إسرائيل .. وهنا يثور أكثر من تساؤل حول علاقة الإخوان باليهود؛ وقد اعترف على عبده عشماوى العضو القيادى فى جماعة الإخوان المسلمين بوجود علاقة بين الإخوان واليهود منذ نشأة الإخوان، وكان الإخوان يتصورون أن اللواء محمد نجيب مستعد لعقد اتفاقية سرية مع اليهود، ولكن العقبة كانت جمال عبد الناصر.

ثم عقد لقاءين آخرين فى شهر يناير سنة 1954 بين حسن عشماوى والمستر كروزويل الوزير المفوض بالسفارة البريطانية بالقاهرة ، وهاتين المقابلتين تمتا على فترتين ، الفترة الأولى من السابعة صباحا حتى الظهر ، والثانية فى نفس اليوم من الرابعة بعد الظهر حتى الحادية عشر مساء .

تمت هذه المقابلات السبعة فى الفترة من مارس1953 ، وخلال أشهر أبريل ومايو 1953 ويناير1954 ، وكانت الموضوعات التى أثيرت فى هذه اللقاءات هى مناقشة موقف جماعة الإخوان المسلمين من ثورة 23يوليو ، والقضية الوطنية ، والمفاوضات مع الإنجليز حول جلاء القوات البريطانية عن مصر وكان رأى الإخوان المسلمين أن عودة الإنجليز إلى القاعدة فى القناة يكون بناء على رأى لجنة مشتركة مصرية بريطانية ، وأن الذى يقرر خطر الحرب هى الأمم المتحدة، وهو الرأى الذى تمسك به الإنجليز طوال مراحل المفاوضات، وهو فى نفس الوقت الشىء الذى لم تقبله ثورة 23يوليو1952 ، التى كان مطلبها واضحا ومحددا فى الجلاء الكامل والسيادة الكاملة على الأراضى المصرية ، وأن يكون القرار نابعا من ثورة 23يوليو فيما يتعلق بجميع شئون مصر ، وقد تم التحقيق فى هذا كله خلال محاكمات الإخوان المسلمين أمام محكمة الشعب(. هذا علاوة على ما اكتشف فى هذه الفترة من اتصال عبد المنعم عبد الرؤوف بالسفارة الأمريكية بالقاهرة؛ حيث أبلغهم أنه يتحدث باسم الإخوان المسلمين وأنهم يسعون لقلب نظام الحكم، وأنهم أى الإخوان المسلمين على استعداد للاشتراك فى حلف عسكرى ضد الشيوعية، وأن هذا الحلف لن يتحقق ما دام جمال عبد الناصر على قيد الحياة .
متوازيا مع هذه الأنشطة والمواقف فقد كان نشاط الإخوان المسلمين فى أوساط الجيش والبوليس مستمر، ولم يتوقف منذ أن ترك عبد المنعم عبد الرؤوف الجمعية التأسيسية للضباط الأحرار قبل قيام الثورة بستة شهور ، وكان المسئول عن الجهاز العسكرى مع أبو المكارم عبد الحى ، كما كان المسئول عن البوليس الصاغ صلاح شادى ، وكان الأب الروحى لهم محمود لبيب – ضابط سابق – ، هذا علاوة عن تنظيم عسكرى ثالث كان عماده الصولات وضباط الصف ، وكان تجنيد هذا القطاع يعتمد على إقناعهم بأنهم هم الأحق بالقيادة فى مجال القوات المسلحة والبوليس باعتبارهم عصب العمل فى هذه المؤسسات الحيوية .

ولما ظهر هذا النشاط الأخير على السطح استدعى الرئيس عبد الناصر ، حسن عشماوى وقابله فى مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة، وقال له أن لدينا معلومات بنشاط لكم فى أوساط الجيش والبوليس وصارحه بالتفاصيل ، فلم يرد حسن عشماوى ولكنه وعد بأن يبلغ المرشد العام بالأمر ، ولما سأله الرئيس جمال عبد الناصر عن معلوماته هو عن هذا النشاط – باعتبار أن هناك علاقة شخصية بين عبد الناصر وبينه تسمح بأن يسأله مثل هذا السؤال خارج الإطار الرسمى ، فنفى حسن عشماوى علمه بأى شىء عن هذا النشاط السرى العسكرى .

واستمر النشاط ، بل اتسع أيضا فى مجال طلبة الجامعات فى جامعتى القاهرة والإسكندرية، وفى يوم ذكرى الشهداء أقيم احتفال فى جامعة القاهرة، وبرز بشكل واضح نشاط الجماعة بقيادة حسن دوح، وكان المسئول عن التنظيمات الشبابية والنشاط الجامعى عبد الحكيم عابدين ، صهر حسن البنا والسكرتير العام للإخوان المسلمين، واستمر التبليغ عنه من الأجهزة المعنية فى المباحث العامة والقسم الخاص بالمخابرات العامة ، وقد حضرت مع زغلول كامل مدير مكتب رئيس المخابرات العامة ورئيس الخدمة السرية فيما بعد وآخرين ، بعض لقاءات ضباط الجيش والبوليس، و كان أغلبها يتم فى منزل أحد ضباط البوليس ( كمال صقر ) فى مصر الجديدة، وتم الإبلاغ عن تفاصيل ما كان يدور فى هذه اللقاءات وأسماء المشاركين، ومحاولات تجنيد بعض الحضور ممن يظهر منهم تجاوب مع ما كان يدعون إليه، وكانت العملية تبدأ بالدعوة للصلاة جماعة ثم تتدرج المناقشات إلى الدخول فى الأوضاع العامة وهكذا إلى أن يتم نوع من أنواع غسيل المخ ثم التجنيد لصالح ما يريدون تنفيذه من أنشطة واستدعى الرئيس عبد الناصر حسن عشماوى للمرة الثانية وسأله ماذا فعل ؟ وهل أبلغ المرشد العام ؟ وماذا كان رد المرشد ؟ فرد بأنه أبلغ الدكتور خميس حميدة نائب المرشد العام .

محاولة الاغتيال :

وتطور هذا النشاط بعد ذلك إلى قيام مظاهرات يناير1954 بجامعة القاهرة ، وحدث احتكاك بين الطلبة والبوليس ، وكانت المفاجأة أن ظهرت فى هذه المظاهرات كرابيج وسلاسل حديدية وعصى ، وتبادل إطلاق النار وتم اعتقال حوالى خمسمائة شخص . وكان الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية يزور مصر فى ذلك الوقت وتوسط لدى مجلس قيادة الثورة ، ولدى الرئيس جمال عبد الناصر للإفراج عن المعتقلين ، وتم بالفعل الإفراج عنهم فى مقابل تعهدهم بعدم القيام بأى نشاط سياسى وسط الطلاب والجامعات ، ولكنهم بعد الإفراج عنهم لم يلتزموا بشرط الإفراج ، بل أصدروا منشورا هاجموا فيه الرئيس جمال عبد الناصر مدعين أنه يعمل لحساب نورى السعيد رئيس وزراء العراق فى ذلك الوقت وزاهدى فى إيران ، وطالبوا بالتخلص من جمال ونورى وزاهدى – وتم بعد ذلك توقيع اتفاقية الجلاء – ولقد رصدت أجهزة الأمن فى هذه الفترة اختفاء حسن الهضيبى المرشد العام للإخوان المسلمين من القاهرة من بداية شهر أكتوبر 1954 ، وتمت محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية ، وقبض على محمود عبد اللطيف الذى كان قد كلف بعملية الاغتيال، وشكلت محكمة لمحاكمة الإخوان المسلمين المتهمين فى عملية الاغتيال ، وثبت من خلال التحقيقات والاعترافات فى محاكمة العناصر الرئيسية لجماعة الإخوان المسلمين العناصر الرئيسية التالية وسأتناولها باختصار:

أولا : كان هناك جهازا سريا مهمته القيام بعمليات اغتيالات سياسية .

ثانيا : كانت هناك مخازن للأسلحة والمتفجرات .

ثالثا : كان هناك تمويل من الخارج .

رابعا : اعترف محمود عبد اللطيف المتهم الأول والذى قام بإطلاق الرصاص على الرئيس عبد الناصر ، كتابة بأن هنداوى دوير المحامى سلمه الطبنجة التى استخدمت فى محاولة اغتيال جمال عبد الناصر بميدان المنشية بالإسكندرية ، وتم التسليم فى مكتب عبد القادر عودة وبعلمه ، وكان المفروض أن تنفذ عملية اغتيال عبد الناصر فى ميدان الجمهورية بالقاهرة ، ثم استبدلت الخطة لتتم عملية الاغتيال فى ميدان المنشية بالإسكندرية .

واعترف محمود عبد اللطيف كتابة وبخط يده بأن هنداوى دوير قال له فى بيعة خاصة ما يلى : ” إن الله يحب أن يرى هذا الدم الساخن فى سبيل الله ” .
خامسا : أن هنداوى دوير سلم نفسه للسلطات واعترف بمحض إرادته ومن تلقاء نفسه بالآتى:

1- أن التعليمات التى تلقاها باغتيال جمال عبد الناصر مكتوبة وأن عليه تكليف محمود عبد اللطيف بتنفيذ هذه العملية.

2- أنه سلم محمود عبد اللطيف الطبنجة التى نفذت بها محاولة الاغتيال بحضور عبد القادر عودة فى مكتبه.

3- أن التعليمات المكتوبة كانت تقضى أيضا باغتيال أعضاء مجلس قيادة الثورة فيما عدا محمد نجيب ، على أن تنفذ باقى الاغتيالات بعد اغتيال جمال عبد الناصر.

4- التعليمات المكتوبة تتضمن أيضا التخلص من أكثر من مائة وخمسين ضابطا إما بالاغتيال أو بالخطف من منازلهم.

5- بعد تنفيذ الاغتيالات والخطف تقوم جماعات من الإخوان المسلمين بالسيطرة على مرافق الدولة.

6- يعقب ذلك تشكيل مجلس يتولى إدارة شئون البلاد – بديلا لمجلس الثورة – من بين أعضائه عبد الرحمن عزام باشا ومحمد العشماوى باشا – والد حسن العشماوى .

كان هناك تكليف آخر مشابه لتكليف محمود عبد اللطيف ، وقد عهد به إلى محمد نصيرى الطالب بكلية الحقوق لاغتيال جمال عبد الناصر فى أى وقت أو أى مكان يراه هو مناسبا .

سادسا : تقوم جماعات منتقاه من الجهاز السرى للجماعة بنسف وتدمير منشآت إستراتيجية فى القاهرة والإسكندرية وبعض المحافظات فى نفس الوقت .

سابعا : وضعت خطة بديلة فى حالة فشل اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر بإطلاق النار عليه ، حيث يكلف أحد الإخوان المسلمين بالقيام بعملية انتحارية؛ وذلك بارتداء حزام ناسف من المتفجرات، ويندس بين المواطنين إما فى مجلس قيادة الثورة أو فى مجلس الوزراء ويقوم الشخص المكلف باحتضان الرئيس جمال عبد الناصر فينفجر فيهما الحزام الناسف، ولقد تمت تجربة الحزام الناسف هذا فى أحد أعضاء الجهاز السرى للإخوان المسلمين سنة1953 وهو المهندس فايز عبد اللطيف ، وأعضاء الجهاز السرى يعرفون تفاصيل هذه العملية وأسبابها.

ثامنا : دبّر أبوالمكارم عبدالحى – وكان ضابطا فى الجيش وأحد المسئولين عن الجهاز السرى للإخوان المسلمين فى الجيش – مؤامرة لنسف الطائرة التى قد يستقلها الرئيس جمال عبد الناصر فى تنقلاته .

تاسعا : أعيد تنظيم الجهاز السرى للإخوان المسلمين سنة1953 ، وتولى قيادته يوسف طلعت الذى كان له الفضل الأكبر فى انتخاب حسن الهضيبى مرشدا عاما للإخوان المسلمين ، كما كان أحد المدبرين الرئيسيين لعملية اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية .

وكان ثابتا لدينا فى هذه الفترة أن المسئولية بالنسبة للجهاز السرى للإخوان المسلمين تقع على عاتق لجنة الإشراف المكونة من :

(يوسف طلعت – إبراهيم الطيب ، مسئول القاهرة – أحمد حسن ، مسئول الأقاليم – صلاح شادى ، مسئول البوليس -أبو المكارم عبدالحى ، مسئول الجيش – وشكلت لجنة عليا للجهاز تمثل سلطته العليا من كل من :

الشيخ سيد سابق – الدكتور محمد خميس حميدة – محمود الصباغ – الشيخ محمد فرغلى – أحمد زكى ) .

أعود بالأحداث للفترة التى أعقبت محاولة الاغتيال ، فقد سارعت قيادات الإخوان المسلمين إلى محاولة تبرئة نفسها فى أعقاب محاولة الاغتيال، وتصوير الحادث على أنه تصرف فردى قام به أحد عناصر الإخوان المسلمين دون أن يكون لمكتب الإرشاد أو لهذه القيادات أى دور فى تدبيره .

وكان أن قام حسن الهضيبى المرشد العام للجماعة وقتها بإرسال خطاب إلى الرئيس جمال عبد الناصر يسعى فيه إلى استرضائه ، ويستنكر الحادث ويطالب بتجاوزه ، ونفى التورط فى تدبيره ، وكان نص الخطاب كما يلى:

” السيد جمال عبد الناصر رئيس مجلس الوزراء .
السلام عليكم ورحمة الله . . أحمد الله إليكم ، الله تعالى ( كذلك فى النص )، وأصلى وأسلم على رسوله الكريم .

وبعد – فقد وجدت نفسى أثناء قدومى من الإسكندرية أمس محوطا بمظاهر توحى بأن الحكومة تتوقع قيام الإخوان المسلمين بحركة ، ربما كانت لأخذى عنوة ، ولو أن الحكومة أعلنت رغبتها فى مجيئى لبادرت والله بالمجىء أسعى إليها من تلقاء نفسى دون أن يحرسنى حارس .

على أن هذه المظاهر قد أورثتنى حسرة وجعلتنى أتمنى لو وهبت البلد حياتى فى سبيل جمع الكلمة وصفاء النفوس 0 فأحببت أن أبادر بالكتابة إليك أرجو أن يتسع صدرك للقائى بضع دقائق أشير عليك فيها بما يحقق أمانيك ، وأمانىّ ، وأنا أعلم أنك قد تكون راغبا عن هذا اللقاء، ولذا تركت أمر تدبير الجماعة من نحو خمسة أشهر إلى غيرى ، فلم يصلوا معك إلى شىء ، وأريد الوصول إلى شىء حتى تتجه البلد كلها اتجاها واحدا ، ثم لا يجدنى أحد فى مكانى الذى أنا فيه من الإخوان .

وأبادر فأقول لك : إن ما سمى اختفاء قد أدهشنى . . . وأن ينسب إلىّ تدبير جرائم ، فهذا كان مفاجأة لى ، وأقسم بالله العظيم وكتابه الكريم أنى ما علمت بوقوع جريمة الاعتداء عليك إلا فى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالى ، ولا كان لى بها علم، وقد وقعت من نفسى موقع الصاعقة؛ لأننى ممن يعتقدون أن الاغتيالات يؤخر حركة الإخوان، ويؤخر الإسلام والمسلمين ويؤخر مصر ، وقد كنا بحثنا هذه المسألة “الاغتيالات ” فى الجماعة منذ زمن بعيد وأستقر رأينا على ذلك ، وأخذنا نوجه الشباب إلى هذه الحقيقة ، حتى لقد مضى على وجودى بينهم ثلاث سنوات لم يقع فيها شىء من العنف، ولست أجد سببا لذلك بنعمة الله ، ولا اختلفنا على كثير وإنما حسم الخلاف أنه لم يسمح لى بإدلاء رأيى .

فأما المعاهدة فأنى كنت أخبرتكم أن الإخوان لا يوافقون على معاهدات وأعداؤهم فى داخل البلاد، ولكنهم يصرحون أن هذه المعاهدات قد قربت من أمانيهم قربا كبيرا ، ونلح فى استكمال الباقى حتى لا يطمع الإنجليز فينا ، وهذا هو محصل رأيك أنت فى المسألة .

وأما مسألة الحملة التى شنها عليك الإخوان فى سوريا فإنى لا أعلم بها ولا بتفاصيلها، فإن عبد الحكيم عابدين ( عضو مكتب الإرشاد ) ودعنا فى المطار يوم 3يونيو ولم أره إلى الآن ، ولم يكن بينى وبينه أى نوع من الاتصال ، وحين عدت بعد عيد الأضحى وجدته ذهب لأداء فريضة الحج، ومن هناك إلى دمشق ، ويجب أن نتحقق عما إذا كان قد اشترك فى هذه الحملة وحضر اجتماعاتها ، وقد بلغنى أنه رماك بأنك قابلت رجلا من إسرائيل فى أثناء سياحتك فى البحر . . وهذه على وجه الخصوص إذا كان قالها فإن أحدا لا يقره عليها بل يستنكره كل الاستنكار ، وفوق ذلك فإنها واقعة قول عبد الحكيم عابدين بذلك ، حصلت أيام اعتكافى .

وأما هذا الاعتكاف فقد أشار علىّ به بعض الإخوان لسبب ما ، ولقد كنت أخبرت الإخوان بأن أضع استقالتى تحت تصرفهم إذا وجدوا فى وجودى ما يعطل الاتفاق بينهم وبين الحكومة ، و أكدت ذلك لهم بخطاب أرسلته لهم من هناك ، تركت لهم التصرف فى شئونهم من تلقاء أنفسهم.

هذا وقد يكون فى المشافهة خير كثير – إن شاء الله – وقد يكون فى نفسك أشياء تحب أن تسجلها .

ولا أنكر التحقيق الذى يجرى ، فإنى متحمل كل ما يمس شخصى ، وسأدفعه بإذن الله بما يريح نفسك إلى الحق الذى هو بغية الجميع ، هذا وأسأل الله تعالى ، أن يوفقكم ويوفق البلاد كلها للخير والحرص على الوئام ، والسلام عليكم ورحمة الله
المخلص حسن الهضيبى”

أما خطاب عبد القادر عودة فلم يكتفى بنفس الخطوط التى تضمنها خطاب الهضيبى، بل زاد عليه بإعلان مبادرة شاملة لتسوية الموقف بين الإخوان المسلمين والثورة، كما انطوى على اعتراف صريح بوجود تنظيم عسكرى فى صفوف الإخوان المسلمين، وهو ما ظلت قيادة الإخوان تنفيه لسنوات عديدة قبل ذلك . . وكان نص خطابه :

” الأخ الكريم جمال عبد الناصر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد .

فأهنئك وأهنئ نفسى بنجاتك من تلك المحاولة الآثمة، وهنيئا لك رعاية الله التى تظللك وتحوطك وإنها لخير ما يهنأ به الإنسان . . ولقد سمعت أن الشخص الذى حاول الاعتداء عليك يتمرن فى مكتبى، فإن صح هذا فأرجو ألا تكون نسيت آرائى ، وكل ما أستطيع أن أقوله لك مخلصا أنى لا أعلم شيئا عن هذه الجريمة، ولست أرضاها لأى إنسان ولا من أى إنسان ، وإذا ثبت يا أخى أن لى أى صلة بهذا الموضوع فأنا أحل لك دمى .

ولقد استطعت يا أخى بما منحك الله من حكمة وسعة أفق أن تضع حدا لعداء دام بيننا وبين الإنجليز أكثر من سبعين عاما ، وأن تمهد لجو من المودة، وأنه لأولى بك بعد ذلك أن تضع حدا للخصومة القائمة بين الإخوان ورجال الجيش ، وهى بنت عام واحد ، تلك الخصومات التى تأكل مستقبل هذا البلد الذى وضع الله بين يديك مصائره ، وإن فيك من سعة الصدر وسعة الأفق والتسامح ما يجعلك قادرا على أن تهيئ جو مودة وتعاون بين رجال هذا البلد وهيئاته وبين الحاكمين والمحكومين ، ولقد رأيتك فعلا تشرع فى هذا ، فتمد يدك إلى الجميع ، ولكنى أحب أن أطمئن إلى أن حادث الإسكندرية لن يكون عقبة فى سبيل ما وعدت ، وأحب أن تثابر على هذه الدعوة وترصد لها من وقتك وجهدك ما يتفق مع جلالها وما ينتظر من خيرها .

وإنى أحب أن تعلم أن هذا الحادث الأليم قد حفزنى إلى أن أعمل على إنهاء النزاع القائم بين الإخوان وبينكم حفظا للمصلحة العامة ، وضنا بالجهود أن تصرف فيما يعود على البلد بالضرر، وإنى أقترح فى هذا السبيل من الحلول ما يذهب بالشكوك ويطمئن النفوس ويعيد الثقة ، وإذا عادت الثقة فقد انتهى كل شىء ، وانطوى الماضى بما فيه فى طى النسيان .

وقد ترى فى اقتراحى نقصا أو قصورا ، وأرجو ألا يمنعك ذلك من أن تنبهنى إلى النقص والقصور ، فإنى والله لن أقف فى وجه طلب معقول .

أما اقتراحاتى فقد بنيتها على ما أعلم من آرائك فى مقابلاتنا السابقة ، وما كنت أحس أنه أساس النزاع ومثار الشكوك والظنون ، ولا زلت أذكر اقتراحاتك بحل تشكيلات الإخوان فى الجيش والبوليس وتشكيلة النظام الخاص ، ولعل مشكلة الجيش والبوليس قد انتهت ، ولذلك فلن أعمل لها حسابا فى اقتراحاتى على أن هذا لا يمنع معالجة ذيولها – إن كان لها ذيول – معالجة تريحك ، وتشعر بأننا مخلصون فيما نقول وفيما نفعل .

وعلى هذا الأساس أقترح ما يأتى :

أولا : نقدم من ناحيتنا :

أ- يحل النظام الخاص ويسلم ما قد يكون لديه من أسلحة وذخائر فى مدة تتراوح بين عشرة أيام أو أسبوعين من بدء اليوم الذى توافقون فيه على هذه المقترحات .

ب- تبتعد الجماعة عن السياسة المحلية ، وتصرف همها إلى الدعوة الإسلامية والتربية – على الأقل – حتى تنتهى فترة الانتقال ، ويكفى الجماعة الاشتغال بالسياسة الإسلامية العامة 000 على أن يتم تنظيم الجماعة على هذا الأساس فى ظرف أسبوعين أيضا .

ج- تعمل الجماعة على وقف حملات الإخوان فى الخارج فى ظرف أسبوعين ولو اقتضى الأمر إرسال مندوبين للخارج لتنفيذ هذا التعهد .

ثانيا : نرجو أن تقوموا من ناحيتكم بما يأتى :

أ- إصدار قانون بوقف عمل قانون الأسلحة والذخائر لمدة أسبوعين ، ليمكن تسليم ما قد يكون موجودا من الأسلحة والذخائر دون خشية المحاكمة . . ولذلك سوابق كثيرة .

ب- إطلاق سراح جميع الإخوان المعتقلين بمجرد تنفيذ التعهد الأول ، ثم النظر بعد ذلك فى محو آثار الماضى . . . حتى نفتح عهدا جديدا خاليا من الشوائب .

ج- السماح لى بأن أجتمع بالإخوان الموجودين فى السجن الحربى وسجن القلعة لأخذ موافقتهم على هذه المقترحات ، والسماح بعقد اجتماعات فى الخارج للموافقة على هذه المقترحات وتنفيذها ثم الموافقة من ناحيتكم على وقف حركة القبض والإعتقالات بتاتا لمدة تنفيذ الاتفاق – وهى أسبوعان – حتى يساعد ذلك على التنفيذ.
هذه هى الاقتراحات الرئيسية من وجهة نظرى ، وأحب أن أعرف وجهة نظركم إن كانت مخالفة، فإن كانت موافقة فأرجو أن تتفضلوا بإخبارى .

ونستطيع بعد أن ننظر فى كل ما يوطد العلاقة بين الطرفين ويعيد الصداقة القديمة والله أسأل أن يوفقك إلى الخير وأن يهدينا جميعا سواء السبيل .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
28/10/1954

عبد القادر عودة”

وبدأت التحقيقات في القضية…

استمع احمد راضي رئيس النيابة إلى أقوال شهود الإثبات وهم اليوزباشي محمد جمال النادي وعبد الحميد محمد حبيب حرب العامل بمديرية التحرير وخميس محمد الشيخ الموظف بالموانئ وعبد السلام الشاذلي الجندي بحكمدارية مطافئ الإسكندرية والأومباشي محمد حسنين واحمد عبدالله.

وقال اليوزباشي محمد جمال النادي أنه شاهد محمود عبد اللطيف يصوب المسدس نحو الشرفة التي كان يقف بها الرئيس.. ولم يكن قد أطلق الرصاص بعد.

وقال الشاهد الثاني أنه احتضنه بطريقة لا شعورية وحاول منعه من الضرب، وبعد أن أطلق عدة رصاصات ضربه محمود عبد اللطيف بقبضة المسدس وبعد ذلك أطلق عدة أعيرة.

وفي القاهرة.. بدأ عطية إسماعيل المحامي العام ومصطفى الهلباوي رئيس نيابة أمن الدولة وفخري عبد النبي وكيل أول نيابة أمن الدولة التحقيق تحت إشراف حافظ سابق النائب العام.

كان الحادث قد أشعل النار في جماعة الإخوان، وكانت التحقيقات تجرى حتى ساعة متأخرة من الليل، وكان الكل متلهفا على كشف أسرار محاولة الاغتيال الفاشلة.

وكانت كل أصابع الاتهام تشير إلى الإخوان، وفي صباح يوم الجمعة 29 أكتوبر 1954 صدرت صحيفة “الأخبار” وهي تقول في المانشيت الرئيسي “اعترافات الجاني”..

أما بقية العناوين فكانت:

“حاولت اغتيال جمال عبد الناصر في مؤتمر الموظفين وفشلت!”

“الإخوان قدموا لي المسدس والطلقات!”

“وقالوا: اقتل عبد الناصر !”

وقالت “الأخبار” : “اعترف الجاني محمود عبد اللطيف بأن الإخوان هم الذي أصدروا إليه الأمر بقتل الرئيس جمال عبد الناصر، وأنهم دربوه ستة أسابيع على إطلاق الرصاص، وأنه أجاد إصابة الهدف على مسافات طويلة، وبعد نجاحه في التدريب صدر إليه الأمر “اقتل جمال عبد الناصر” .. حاول الجاني أن يقتل الرئيس جمال عبد الناصر يوم الخميس 21 أكتوبر في احتفال الموظفين في ميدان الجمهورية.. ذهب الجاني إلى الاحتفال، وهو يحمل المسدس لكنه لم يستطيع ارتكاب الجريمة فانصرف ليستعد لقتل الرئيس في مكان آخر” .

واعترف محمود عبد اللطيف بأنه عضو في خلية بالإخوان، وأن الخلية قدمت له المسدس والطلقات، وأن الخلية دفعت له جنيهين ليسافر إلى الإسكندرية. واعترف بأن الرصاصة الأولى انطلقت على بعد 3 مليمترات من الرئيس جمال عبد الناصر، وأن عاملا أمسك به فاهتزت بقية الرصاصات وطاشت فاختل التصويب.

وفي نفس اليوم.. كشفت الصحف أن عمليات القبض على الإخوان قد بدأت على نطاق واسع وفي كافة أنحاء أقاليم مصر.

وصدرت الصحف في نفس اليوم وهي تحمل عنوانا مثيرا يقول: “ضبط مدافع ومفرقعات عند الإخوان”.

وقالت الصحف: توصل البوليس إلى مخبأ سري للإخوان في بورسعيد.. المخبأ داخل حائط في متجر موبيليات، صاحب المتجر من الإخوان.. فتح البوليس المخبأ السري، وضبط عددا من القنابل شديدة الانفجار، وعددا آخر من القنابل الحارقة، وكمية من رصاص المسدسات، وأسلحة نارية أوتوماتيكية، وأسلحة بيضاء وقطع غيار لكل الأسلحة.

وضع الإخوان في المخبأ أيضا محطة إرسال لاسلكية.. المخبأ يحتوي أيضا على درج خفي خشبي مليء بمنشورات طبعها الإخوان لترويج الإشاعات وبلبلة الأفكار، وقد تولت النيابة التحقيق.

وفي نفس اليوم كشفت الصحف أيضا عن ضبط بعض أوكار التنظيم السري للإخوان في القاهرة، وقالت: ” وضع بوليس محافظة مصر يده أمس على أخطر خطة دبرها الجهاز السري لتنظيم الإخوان.. فقد ضبط لدى أفراد هذا الجهاز خرائط وخططا تبين ما يلزمه الفاعلون في حالتي النجاح أو الفشل. كما عثر على صندوق ضخم مليء بالأسلحة، وقنابل لم يتحمل المهندس الذي عاينها مسؤولية نقلها نظرا لخطورتها الشديدة”.

وعثر البوليس على كتب خطية في فن التكتيك والهجوم على البلاد، وقوائم كاملة بأسماء الضباط المراد القبض عليهم، وأرسل طالب بالزقازيق إلى أحد أفراد الجهاز يخبره باستعداده للهجوم.

ولما سيق المتهمون إلى النيابة ووجدوا أنفسهم في مواجهة بعضهم البعض اعترفوا بما لديهم، وكان القائم مقام صديق فريد مأمور الضبط بحكمدارية بوليس القاهرة قد تلقى تقريرا من اليوزباشية عبد الفتاح رياض وحمدي الشقنقيري وفتحي الغمري جاء فيه أن بعض أفراد الجهاز السري لجماعة الإخوان التي تهدف إلى قلب نظام الحكم الحاضر بواسطة استعمال وسائل العنف يخفون في منازلهم بدائرة حلوان قنابل محرقة وأسلحة ومنشورات.

وبعد أن ناقش المأمور الضباط الثلاثة في تقريرهم رفعه إلى اللواء عبد العزيز علي حكمدار البوليس الذي كلفه بالقيام بحملة على منازل أفراد هذه الجماعة ومخابئهم. وفي الساعة الثالثة من صباح أمس قام مأمور الضبط ومعه الضباط الثلاثة على رأس قوة كبيرة من البوليس، وحاصروا العزبة البحرية والغربية والقبلية بقسم حلوان.

وعثروا في غرفة أحدهم على 30 قنبلة محرقة ومسدس وكتب في التكتيك الحربي وأخرى في تركيب القنابل، وضبطوا لدى آخر بندقية وطلقات ومنشورات ولدى شخصين آخرين منشورات وخرائط عن المواقع الحربية المهمة بحلوان.

كما ضبط البوليس قوائم بأسماء الضباط والشخصيات التي سيقبضون عليها في حال نجاح خطتهم. وخرائط أخرى تبين طريق هروبهم إلى الجبل بالصحراء الشرقية في حال فشلهم، وعثروا على خطاب من طالب يقول “نفذنا التعليمات ونحن على أتم الاستعداد”.

وقد اعترف جميع المتهمين بانضمامهم إلى جماعة الإخوان وبملكيتهم للمضبوطات وأمر المحقق بإيداعهم السجن.

فتح حادث المنشية وإطلاق الرصاص على الرئيس جمال عبد الناصر النار على الإخوان في كل مكان من مصر، وبدأ الإخوان يتساقطون في كل مكان.

وفي فجر يوم السبت 30 أكتوبر 1954 داهم القائم مقام يوسف القناص رئيس مباحث القاهرة والبكباشي حسن طلعت بيت أحد أفراد الإخوان في إمبابة، وضبطا لديه لغما خطيرا ضد الأفراد وحزاما من الدمور بداخله 10 أصابع “جلجانيت” صالح للاستعمال ومهيأ للانفجار من خلال دائرة كهربائية، كما عثرا لديه على ملابس عسكرية وجرابندات لحمل الذخيرة!

وفي مؤتمر صحافي وقف الصاغ صلاح سالم ليذيع بعض اعترافات المتهمين في حادث إطلاق الرصاص على الرئيس جمال عبد الناصر.
وقالت الصحف: إن الصاغ صلاح سالم صرح بأن الأمر بقتل جمال عبد الناصر صدر من رئاسة التنظيم السري للإخوان، وأنه كان إشارة أولية لتنفيذ مؤامرة دموية تبدأ بقتل جميع أعضاء مجلس الثورة ما عدا محمد نجيب، والتخلص من 160 ضابطا بالقتل أو الخطف.
وقال صلاح سالم: “إن الإخوان كانوا يدبرون لحركة شعبية تعقب هذه الاغتيالات، ثم يقومون بتكليف محمد عشماوي وزير المعارف الأسبق وعبد الرحمن عزام الأمين العام السابق للجامعة العربية ليحلا محل مجلس قيادة الثورة”.

وأضاف صلاح سالم: “إن محمود عبد اللطيف اعترف بأنه تلقى الأمر بالقتل من هنداوي دوير المحامي الذي يعمل بمكتب عبد القادر عودة عضو مكتب الإرشاد للإخوان، وأن هنداوي اعترف بأن هذه هي أوامر التنظيم السري، وأنه خشي عدم تنفيذها، واعترف بأنه سلم محمود عبد اللطيف طبنجة ورصاصا ليقتل الرئيس جمال عبد الناصر، وأن الطبنجة كانت صغيرة فلم يستطع محمود عبد اللطيف استخدامها في قتل الرئيس جمال عبد الناصر في مؤتمر الموظفين فسلمه طبنجة اكبر ليقتله في الإسكندرية.

وكشف صلاح سالم انه كان هناك شخص آخر مكلف بقتل جمال عبد الناصر

فقال: أنه صدر أمر ثان لقتل الرئيس جمال عبد الناصر إلى محمد نصيري الطالب بالحقوق وأن البوليس قبض عليه بعد اعتراف هنداوي، وأن هذا الطالب اعترف. أما قيادة التنظيم السري للإخوان فهي تتكون من البكباشي عبد المنعم عبد الرؤوف ضابط الجيش بالمعاش والصاغ صلاح شادي ضابط البوليس بالمعاش، وأن هنداوي دوير المحامي كان ينفذ أوامر التنظيم السري في منطقته وهي إمبابة، وأنه جمع الأسلحة الخاصة بمنطقة إمبابة وأودعها لدى عبد الحميد البنا الذي يقطن بوراق العرب؛ ومنها مدفعان و15 قنبلة و60 قالب نسف وتوصيلات كهربائية للنسف.

وأضاف صلاح سالم في المؤتمر الصحافي الذي عقده برئاسة الوزراء: “عقب القبض على الجاني محمود عبد اللطيف اعترف انه تلقى تعليمات من الأستاذ هنداوي دوير المحامي الذي يعمل بمكتبه الأستاذ عبد القادر عودة عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين لاغتيال الرئيس جمال عبد الناصر وقد استلم محمود عبد اللطيف من هنداوي دوير طبنجة ورصاصات وترك له حرية اختيار الزمان والمكان للقيام بالاغتيال. وقد اعترف محمود عبد اللطيف بأنه حاول اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في مؤتمر الموظفين في ميدان الجمهورية لكن الطبنجة كانت صغيرة والمسافة بينه وبين الرئيس كانت بعيدة فأجل العملية إلى مناسبة أخرى.

وفي مساء الاثنين الماضي في الليلة السابقة للحادث ذهب محمود عبد اللطيف إلى هنداوي دوير واستلم منه طبنجة اكبر وأقوى وأخبره بأنه سيسافر إلى الاسكندرية لتنفيذ المأمورية في الاحتفال الذي سيعقد في ميدان المنشية.

وبعد أن اعترف محمود عبد اللطيف بكل ذلك، صدرت أوامر للبوليس بالقبض على المحامي هنداوي دوير.

وداهم البوليس منزله صباح يوم الأربعاء لكنهم لم يجدوه في المنزل، وتبين أنه غادر المنزل مع عائلته قبل حضور البوليس.

لكن في الساعة الثانية من ظهر نفس اليوم سلم هنداوي دوير نفسه إلى مأمور بندر شرطة إمبابة وقال له انه يطلب مقابلة المسؤولين للإدلاء بما عنده من أمور خطيرة ليرضي ضميره.

وقال هنداوي دوير للمحققين انه عندما سمع من الإذاعة بخبر الاعتداء على الرئيس جمال عبد الناصر ذهب إلى منزله في إمبابه وأخذ زوجته إلى عائلتها في المنيا وعاد إلى القاهرة في اليوم التالي حيث سلم نفسه للشرطة

وفي التحقيقات مع هنداوي بدأت تتكشف أسرار خطيرة فقد اعترف بكل شيء، وأصبح الإخوان يواجهون أصعب موقف في تاريخهم؛ خاصة أنه في نفس اليوم تم القبض على مرشدهم العام الأستاذ حسن الهضيبي!

في تلك الأيام كانت دار “أخبار اليوم” الصحافية مليئة بالعشرات من نجوم الصحافة والكتابة في مصر، وكانت حادثة المنشية وإطلاق الرصاص على الرئيس جمال عبد الناصر مناسبة لهذه الأسماء اللامعة في بلاط صاحبة الجلالة لكي ترصد الحدث وتسجل تفاصيله المثيرة.

وصباح يوم 30 أكتوبر 1954 صدرت جريدة “أخبار اليوم” الأسبوعية بمانشيت رئيسي يقول ” الجاني يتكلم”. أما قصة المانشيت فقد كتبها على الصفحة الأولى الكاتب الصحافي الشهير محمد حسنين هيكل، وكان في هذه الفترة أحد نجوم “أخبار اليوم”.

استطاع محمد حسنين هيكل أن يدخل إلى زنزانة الجاني في السجن الحربي ويمكث معه ساعتين كاملتين، وروى الجاني لماذا أطلق الرصاص على “جمال عبد الناصر؟ وماذا كان شعوره وهو يسمعه يتكلم. وماذا شعر بعد أن نجا جمال عبد الناصر، من هم الذين حرضوه؟

ماذا قالوا له عن جمال؟ كيف يبدو المجرم؟ كيف يفكر؟ هل ندم على جريمته أم لا يزال مصرا عليها؟ هل أراد أن يقتل جمال؟ ما هو شعوره عندما رأى الشعب يستنكر جريمته؟

إن محمد حسنين هيكل يأخذك معه إلى الزنزانة لترى الجاني وتسمع حديثه!

هكذا قدمت “أخبار اليوم” للحديث الذي أجراه هيكل مع محمود عبد اللطيف الذي حاول قتل الرئيس جمال عبد الناصر. فماذا كتب هيكل في هذا الحديث؟

قال هيكل:
” قابلت محمود عبد اللطيف الذي وجه إلى الرئيس جمال عبد الناصر ثماني رصاصات في ميدان المنشية.. قابلته على ضوء الشموع؛ لأن أسلاك الكهرباء في سجن البوليس الحربي كانت قد أصيبت بخلل وساد الظلام! بدا وجهه على ضوء الشموع غريبا عجيبا..

أثار في نفسي مجموعة من الانفعالات لا أظن أنني شعرت بها من قبل.. كان شعر رأسه هائشا، ولم يكن ذقنه حليقا، وكانت في عينيه نظرة زائغة ضائعة، وكان لا يزال يرتدي نفس الملابس التي ارتكب بها جريمته! قميص أزرق مخطط بخطوط بيضاء، وقد شمر أكمام القميص.. وبنطلون ازرق اللون، وكانت يداه مقيدتين بالحديد خلف ظهره، وجلس على مقعد،. وبدأ يتخذ الوضع الذي يريحه ويداه إلى الوراء، وتحركت يداه ولمحت أصابعه وتأملتها على ضوء الشموع المرتعشة.

كانت هناك ظلال مقبضة على هذه الأصابع، لمحت آثار ندب قديم..
قلت له: ما هذا؟ قال: كنت أتدرب على ضرب المسدسات فانطلقت رصاصة خاطئة. لم تخرج من الفوهة بل خرجت من الوراء، وأصابت شظاياها أصابعي.

وكان وهو يتكلم قد ترك أصابعه تأخذ وضع الذي يمسك بمسدس ويصوبه، وأحسست بشعور مقبض.. لقد وقفت وجها لوجه أمام قتلة كثيرين، ولكني لم اشعر نحو قاتل منهم بالشعور الذي أحسست به وأنا أتأمل وجه محمود عبد اللطيف على ضوء الشموع.

شيء غريب لفت نظري فيه! لقد أحسست أني استمع إلى اسطوانة معبأة تكرر الذي ألقي إليها حرفا بحرف، ولست أريد أن أتعرض لتفاصيل التحقيق.. فإن الحظر الذي فرضته النيابة موضع احترامي”.

هكذا قدم محمد حسنين هيكل لحديثة مع الرجل الذي حاول اغتيال جمال عبد الناصر ثم دخل مباشرة في تفاصيل الحديث.

هيكل : لماذا أطلقت الرصاص على جمال عبد الناصر؟

المتهم : مضى في صوت كأنه الفحيح يردد مجموعة مثيرة من المعلومات.. “إذا حصلت حرب في كوريا الجنوبية – هكذا بالحرف الواحد فسوف يعود الإنجليز إلى احتلال مصر من الإسكندرية إلى أسوان”.

هيكل : في أي مادة من اتفاقية الجلاء قرأت هذا؟

المتهم بنفس الصوت الذي يشبه الفحيح: في الاتفاقية.. قرأناها معا ودرسناها.

ومضى يتحدث عن الرجل الذي شرح له الاتفاقية.. لم يكن يتحدث عنه وإنما كان يردد كلماته، كان يقول كلاما لا يمكن أن يكون من عنده أو من وحي أفكاره، كان ببغاء من نوع يثير الأعصاب.

هيكل : انت بتشتغل ايه؟

المتهم : اصلح وابورات الجاز!

هيكل : هل تذكر آخر وابور جاز أصلحته؟

المتهم : نعم قبل الحادث بيومين.. كان الوابور ملك أحد الجيران اسمه محمد سليمان ويعمل نقاشا. وكان قد أعطاني الوابور لإصلاحه فتركته للصبي، ولكن الصبي لم يحسن إصلاحه فأعاده صاحبه لأصلحه من جديد.

هيكل : وبينما أن تصلح وابور الجاز كنت تدرس اتفاقية الجلاء؟
عاد المتهم يقول بنفس الصوت.. بنفس الفحيح: كنا ندرسها معا، ولم تكن معلوماته عن اتفاقية الجلاء هي وحدها صلته بالببغاوات بل إن معلوماته عن السلاح كانت هي أيضا من نفس النوع! سمعته يتحدث عن الضرب بالطبنجة، وأستطيع أن أؤكد من الطريقة التي سمعته يقول بها كلماته أنها عبارات محفوظة.

هيكل : أين كنت تتدرب على استخدام السلاح؟.

المتهم: في المركز العام للإخوان المسلمين.

هيكل : هل تطيع أي أمر يصدره لك الهضيبي؟

المتهم : في حدود..هو مؤسس الدعوة.

هيكل : وهل الدعوة تبيح القتل وترضى عنه؟

المتهم: سكت ولم يرد.

هيكل: هل القرآن يبيح القتل؟

المتهم: لا يبيحه إباحة صريحة.

هيكل : لماذا كنت تريد أن تقتل جمال عبد الناصر؟.. كنت تتدرب على إطلاق الرصاص منذ أربعة شهور.. والاتفاقية وقعت منذ أسبوع.
المتهم: كنا نظن أنها لن توقع.

وبمهارته الصحافية وموهبته المميزة يستدرج هيكل الجاني إلى نوع من الأسئلة الذكية التي لا يجيدها سوى الصحافي الموهوب.

هيكل: هل عرفت ماذا صنع جمال عبد الناصر بعد أن أطلقت عليه الرصاص؟.

المتهم: علمت انه استمر في إلقاء خطابه.

هيكل: وما رأيك في هذا؟

المتهم: شجاع.

هيكل: كيف إذن تفسر أنه لم يصب؟

المتهم: إرادة الله.

هيكل: معناها أن الله يحبه؟.

المتهم: لا أعرف.

كما أجرى الأستاذ محمد حسنين هيكل تحقيقا صحفيا مع حسن الهضيبى المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين فى محبسه فى السجن الحربى، جاء فيه:

جلس حسن الهضيبي على مقعد، وعلى مقعد المكتب جلس قائد البوليس الحربي، وجلست أنا على المقعد الثالث في مواجهة الهضيبي.. ومرت لحظات صمت..كنت خلالها أتأمل وجهه وأدقق النظر فيه، ويبدو أنه أحس بالذي أفعله فأطرق برأسه، ثم رفعه وحاول أن يبتسم، لكن أعصابه خذلته فلم تكمل الابتسامة على شفتيه! وإنما مر عليها شبح باهت شاحب لمحاولة ابتسامة، وكان الصمت ثقيلا على أعصابي!

هيكل : هل يبيح القرآن القتل والإرهاب؟

الهضيبي: يسأل عنها الذي أطلقها.

هيكل: ألم يكن التنظيم السري تابعا لك مباشرة؟

الهضيبي: أنا كنت مرشدا عاما ابحث رؤوس المسائل وأقررها ولا ادخل في التفاصيل، وعلى سبيل المثال أنا أقول مثلا إن من أهدافنا أن ننشر الدعوة، وهذا رأس مسألة اتركها لمعاونيّ يبحثون التفاصيل ويشرفون على التنفيذ. ولا أذهب أنا مثلا لكي انشر الدعوة بنفسي، أحض ملايين الناس على الفضيلة شأن هذا شأن التنظيم السري كنت اعلم أنه موجود، ولكنه كان بالنسبة لي رأس مسألة أما التفاصيل فقد كان يشرف عليها اثنان.. خميس وفرغلي.

هيكل : إذن أحور سؤالي.. هل ترى أن الإسلام يبيح إنشاء تنظيمات سرية مسلحة للإرهاب وهل السياسة في هذا البلد والحريات التي نتطلع إليها يمكن أن تسمح بقيام منظمات سرية مسلحة؟

سكت الهضيبي فترة.. أطرق خلالها برأسه إلى الأرض، ثم قال: من قال هذا؟ لست أنا الذي انشأ التنظيم السري، هذا التنظيم أنشأه حسن البنا سنة 1946، وكان الغرض الأول منه محاربة أعداء الإسلام، والذي حدث بعدها أن هذا التنظيم السري انحرف عن هدفه الأصيل؛ واتجه إلى أعمال العنف والاغتيال، فلما جئت أنا منذ ثلاث سنوات وتوليت منصب المرشد العام كان أول ما فعلته أن قلت أنني لا أريد تنظيمات سرية، وأخرجت من الجماعة فعل..ا أولئك الذين عرفت أنهم كانوا يتزعمون الإرهاب المسلح، وأقمت مكان النظام القديم نظاما جديدا حددت له أهدافه، وهي أن يقوم أفراده بنشاط رياضي وكشفي.
هيكل : وهل التدريب على السلاح والمفرقعات يدخل ضمن الأعمال الكشفية والرياضية؟

الهضيبى: لقد أعدت النظام الخاص إلى أصل دعوته.. أعدته لكي يحارب أعداء الإسلام وحاولت أن أبعده عن الإرهاب.

هيكل: هذا سيقودنا مرة أخرى إلى الرصاصات الثماني التي أطلقها أحد أفراد التنظيم الخاص المسلح.

قال الهضيبي والمحاولة التي كان يبذلها للتمسك بالثبات تتخلى عنه كما تخلت الابتسامة: اذن يكون التنظيم الخاص قد انحرف مرة أخرى ولكن ذلك كان بغير علمي.

ومرت فترة صمت أخرى….اطرق فيها برأسه مرة أخرى

هيكل: إذا تركت جانبا الرصاصات الثماني ومخازن السلاح التي ليس لها عدد.. لبقي شيء آخر.

الهضيبي: أنا.. هل أنا وزعت منشورات سرية؟ ما ذنبي إذا كان الشيوعيون والوفديون لا يملكون الشجاعة لكي يوقعوا بأسمائهم الصريحة على المنشورات التي يوزعونها فينتحلون اسمي؟ أنا لم اكتب أي منشورات لكن الوفديين والشيوعيين طبعوا منشورات ووضعوا اسمي في ذيلها وأنا لا اعلم من أمرها شيئا.

ومن جديد مرت فترة صمت.. وكنت أفكر في السؤال التالي الذي أوجهه للهضيبي لكنه رفع رأسه فجأة.. وقال أ ن أسرته قتلوا جميعا..قتلوهم كلهم.. أبادهم الجيش..اقسم بالله العظيم أن هذا حدث.. لقد بلغني بطريقة لا اشك في صحة روايتها أبدا.

هيكل: لا أستطيع أن اصدق.

الهضيبى في إصرار عنيف: يا رجل لقد أقسمت لك بالله العظيم قتلوهم جميعا.. أنت لا تعرف ولكنهم قتلوهم.. ولست أريد منهم الآن إلا أن يقتلوني أنا أيضا!

وهنا تدخل في المناقشة البكباشي أحمد أنور مدير البوليس الحربي قائلا: ولكن هذا الذي تقوله غير صحيح.

ووقف الهضيبي.. هم عن مقعده.. وتشنجت ملامحه، وقال: والله العظيم والله العظيم إن الذي قلته صحيح.. صحيح ..صحيح.. وأن أولادي كلهم وأزواجهم وزوجاتهم قد قتلوا وزوجتي قتلت أيضا.
أحمد أنور: كيف تطلق يمينا مقدسة بهذه الطريقة؟ كم رقم تليفون منزلك؟

الهضيبي: 27024.

وهنا بدأ احمد أنور يدير قرص التليفون ،ويبدو أن الذي رد سأل عن شخصية المتكلم..

أحمد أنور: قل لها صديق للهضيبي يحمل رسالة منه.

….مرت فترة صمت….

وأنظارنا معلقة على التليفون وآذاننا مسلطة عليه ثم تسرب صوت نسائي وبدأ أحمد أنور يتحدث إلى زوجة الهضيبي.

واقتربنا جميعا برؤوسنا من جهاز التليفون نقرب آذاننا منه بقدر المستطاع، وتسرب منه صوت السيدة تقول إنها بخير..

أحمد نور: وأولادك كلهم بخير؟

ونظر الهضيبي إلى احمد أنور نظرة الذي يرى شيئا لا يستطيع أن يصدقه ناوله احمد أنور السماعة وقال له: خذ وتحدث إليها أنت وتأكد أنها زوجتك!

أمسك الهضيبي سماعة التليفون بحذر وإسترابة تماما كرجل سلموه في يده لغما يمكن أن ينفجر! وقال: أنا حسن الهضيبي! ثم استطرد: اسمعي.. كيف حال الأولاد!

وأخذ يهز رأسه في ذهول.. وعاد ليقول في التليفون: لم يقتلوهم.. غريبة! وبدأ يهرش رأسه بيده..

ومد احمد أنور يده يأخذ سماعة التليفون.. ويقول لزوجة الهضيبي كلمة ينهي بها المحادثة ثم يضع السماعة مكانها.

..صمت من جديد..

هيكل: أنت طلبت أن توجه لي سؤالا.. فهل أستطيع أن اوجه لك سؤالا أخيرا؟ ما رأيك في الأيمان التي أقسمتها بالله العظيم ثلاثا.. مؤكدا أن أولادك قتلوا!

الهضيبى: كنت أظن!!.

هيكل: هل تقسم بالله العظيم ثلاثا على الظن؟

الهضيبي وهو يضحك: بسيطة.. يميني باطلة اكفر عنها.

هيكل: هكذا ببساطة؟ ما اسهل اليمين إذا؟

الهضيبى: لقد ضاعت عليّ ساعة الفسحة.. أمضيت معظمها هنا.

أحمد أنور: لا تحمل هما.. سوف أعطيك ساعة أخرى.

توقيع: “محمد حسنين هيكل”

تم تشكيل محكمة مخصوصة برئاسة قائد الجناح جمال سالم وعضوية القائمقام أنور السادات والبكباشي حسين الشافعي لمحاكمة المتهمين بخيانة الوطن والعمل على قلب نظام الحكم الحاضر وأسس الثورة.
والعقوبات التي تطبقها المحكمة هي كل العقوبات من الإعدام إلى الحبس. ولا يجوز تأجيل القضية أكثر من 48 ساعة للضرورة القصوى ولمرة واحدة.. على أن يحضر المتهم شخصيا أمام المحكمة وتنطق المحكمة بأحكامها في جلسات علنية، ويجوز لمجلس قيادة الثورة تخفيفها.

وكان مجلس قيادة الثورة قد أصدر أمرا بتشكيل محكمة الشعب يقول:
“تشكيل محكمة مخصوصة وإجراءاتها.. بعد الاطلاع على المادة 7 من الدستور المؤقت قرر مجلس قيادة الثورة:

مادة (1) تشكل محكمة على الوجه الآتي.. قائد الجناح جمال مصطفى سالم عضو مجلس القيادة (رئيسا) قائمقام أنور السادات عضو مجلس القيادة (عضوا) بكباشي أركان حرب حسين الشافعي عضو مجلس القيادة (عضوا).

وتنعقد المحكمة بمقر قيادة الثورة بالجزيرة بمدينة القاهرة أو في المكان الذي يعينه رئيسها وفي اليوم والساعة اللذين يحددهما.
مادة (2) تختص هذه المحكمة بالنظر في الأفعال التي تعتبر خيانة للوطن أو ضد سلامته في الداخل والخارج. وكذلك الأفعال التي تعتبر موجهة ضد نظام الحكم الحاضر. أو ضد الأسس التي قامت عليها الثورة. ولو كانت قد وقعت قبل هذا الأمر.

كما تختص المحكمة بمحاكمة كل من أخفى بنفسه أو بواسطة غيره متهما بارتكاب الأفعال المنصوص عليها في الفقرة السابقة وتطلبه المحكمة. وكذلك كل من أعان بأي طريقة كانت على الفرار من وجه القضاء.

كما تختص هذه المحكمة بالنظر فيما يرى مجلس قيادة الثورة عرضه عليها من القضايا أيا كان نوعها حتى ولو كانت منظورة أمام المحاكم العادية، أو غيرها من جهات التقاضي الأخرى مادام لم يصدر فيها حكم. وتعتبر هذه المحاكم أو الجهات متخلية عن القضية؛ فتحال إلى المحكمة المخصوصة بمجرد صدور الأمر من مجلس قيادة الثورة بذلك.

مادة (3) يعاقب على الأفعال التي تعرض على المحكمة بعقوبة الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة أو بالسجن أو بالحبس، المدة التي تقدرها المحكمة أو أي عقوبات أخرى تراها المحكمة.
مادة (4) ينشأ بمقر قيادة الثورة مكتب للتحقيق والادعاء يلحق به نواب عسكريون وأعضاء من النيابة العامة يتولى رئاسته البكباشي أركان حرب زكريا محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة. وعضوية كل من البكباشي محمد التابعي نائب أحكام والبكباشي إبراهيم سامي جاد الحق نائب أحكام. والبكباشي سيد سيد جاد نائب أحكام والأستاذ عبدالرحمن صالح عضو النيابة.

ويتولون التحقيق ورفع الدعوى بالادعاء بالجلسة. في الأفعال التي تختص هذه المحكمة بنظرها. ولهم حق الأمر بالقبض على المتهمين وحبسهم احتياطيا، ولا يجوز المعارضة في هذا الأمر.

مادة (5) يخطر المتهم بالتهم، ويوم الجلسة بمعرفة المدعي قبل ميعادها بأربع وعشرين ساعة على الأقل. ولا يجوز تأجيل القضية أكثر من مرة واحدة، ولمدة لا تزيد على 48 ساعة للضرورة القصوى.

ويجب على المتهم أن يحضر بنفسه أمام المحكمة وإذا تخلف جاز القبض عليه وحبسه.

مادة (6) للمحكمة أن تتبع من الإجراءات ما تراه لازما لسير الدعوى، ولا يجوز المعارضة في هيئة المحكمة أو أحد أعضائها.
مادة (7) تجري المحاكمة أمام هذه المحكمة بطريقة علنية إلا إذا قررت جعل الجلسة سرية لأسباب تراها، ويصور الحكم ويتلى في جلسة علنية ويصدق عليه مجلس قيادة الثورة ويجور له تخفيف الحكم إلى الحد الذي يراه.

مادة (8) أحكام هذه المحكمة نهائية ولا تقبل الطعن بأي طريقة من الطرق أو أمام أي جهة من الجهات. وكذلك لا يجوز الطعن في إجراءات المحاكمة أو التنفيذ.

مادة (9) يعمل بهذا الأمر من تاريخ صدوره. القاهرة في أول نوفمبر 1954.

ولم تكن هذه القضية وحدها التي تقرر أن تنظرها المحكمة، بل كان هناك أربع قضايا أخرى تخص الإخوان؛ الأولى هي قضية الأسلحة التي ضبطت في عزبة عشماوي بالشرقية، والمتهم فيها حسن العشماوي وابنه محمد حسن العشماوي، والثانية قضية تجمهر أول مارس 1954 والمتهم فيها عبدالقادر عودة واثنان آخران بالتجمهر والتظاهر في ميدان الجمهورية ومحاولة قلب نظام الحكم؛ مما أدى إلى وفاة بعض الأشخاص نتيجة الاحتكاكات بين البوليس وبينهم.

والقضية الثالثة قضية العمل على قلب نظام الحكم المتهم فيها إسماعيل الهضيبي وحسن دوح و11 آخرون اتهموا بالتجمهر، والدعوة لقلب نظام الحكم في مسجد الروضة والاعتداء على رجال البوليس. أما القضية الرابعة فكانت قضية مسجد طنطا المتهم فيها خطيب مسجد عزيز فهمي بالتحريض على قلب نظام الحكم.

وكان من أخطر الاعترافات التي أدلى بها المتهمون ونشرتها الصحف؛ اعتراف المحامي هنداوي دوير التي أدت إلى كشف شخصية الضابط السابق البكباشي عبدالمنعم عبدالرؤوف وتورطه مع الإخوان والجهاز السري.

وقال هنداوي دوير في هذه الاعترافات: “جاءني الضابط السابق عبدالمنعم عبدالرؤوف وهو أحد زعماء الجهاز السري ومكث عندي ثلاثة أيام، وقال إن الجهاز السري وضع خطة الاغتيال جمال عبدالناصر بطريقة النسف!” ، وطلب مني عبدالمنعم عبدالرؤوف البحث عن فدائي ليتولى هذه العملية. وهذه الطريقة هي تجهيز حزام مواد ناسفة وديناميت متصل بسلك كهربائي وبطارية، ويرتدي الفدائي هذا الحزام تحت ملابسه، ثم يتقدم ويعانق الرئيس جمال عبدالناصر ويضغط على السلك، وهنا ينفجر الديناميت في الرئيس والفدائي!

وقد عرضت على محمود عبداللطيف قبل قيامه بمحاولة اغتيال جمال عبدالناصر أن ينفذ هذه العملية بالحزام الناسف لكنه رفض أن يعرض نفسه للنسف، وقال إنه يفضل اغتيال جمال عبدالناصر بإطلاق الرصاص عليه! فعرضت على محمود نصيري الطالب بكلية الحقوق أن يتولى هذه العملية الفدائية فرفض كذلك، لكنه وافق على أن ينفذ عملية الاغتيال بإطلاق الرصاص!.

هكذا اعترف هنداوي دوير أن هذا الحزام الناسف موجود في منزل عبدالحميد البنا وهو أحد أعضاء الجهاز السري، فانطلق رجال البوليس إلى منزل البنا في منطقة وراق العرب حيث عثروا على الحزام، وداخله الديناميت وقبضوا على عبد الحميد البنا.

وفي نفس اليوم تم الإعلان عن ضبط مخبأ جديد للإخوان يحوي كميات هائلة من المفرقعات تكفي لنسف القاهرة والإسكندرية معا! وكان الكشف عن هذا المخبأ عملية مثيرة.

فقد وصلت معلومات إلى البكباشي حسين حتاتة قائد مخابرات السواحل في الإسكندرية أن عصابة لها اتصال بجهة سياسية ستدخل كمية من المفرقعات إلى مدينة الإسكندرية لاستخدامها في أغراض خطيرة بعد توزيعها على أعضاء العصابة، وبالفعل وصلت سيارة كبيرة تحمل المفرقعات، وخبئت هذه المفرقعات في قبو تحت الأرض بجوار مطار الدخيلة.

لكن رجال المخابرات أسرعوا إلى المكان وأخرجوا المفرقعات، والتي كانت عبارة عن 590 صفيحة كبيرة، بها 554 قطعة جلجانيت، وعشرة جوالات بها قطع ديناميت وبندقيتين و40 طلقة رصاص، وتم الإعلان عن أن المحاكمات سوف تبدأ بعد يومين.

وتقرر أن تكون القضية الأولى التي تنظر هي قضية محمود عبداللطيف وحده، على أن يحاكم شركاؤه في جلسات أخرى.

وفى يوم المحاكمة سمع صوت حارس الجلسة الصول عبد الرحمن الحفناوي يعطي تعليماته بصرامة.. ويلقي أوامره إلى الجنود الذين يعاونونه في مهمته.. وفي هذا الجو جلسنا.. وفي الساعة العاشرة إلا خمس دقائق دخل المتهم محمود عبداللطيف قاعة الجلسة!

وواصل الصحافي محمد لطفي حسونة نقل الصورة المثيرة قائلا:

“كان محمود عبداللطيف يجر قدميه، وينتقل ببصره في كل اتجاه بقميصه الأزرق ذي الخطوط البيضاء وبنطلونه الرمادي.. واتجهت إليه كل الأنظار وكل العدسات.. وهي تمعن في ذلك المخلوق الذي اختار لنفسه هذا المصير حين أسلم قياده إلى فئة ضالة مضللة.. تحركه فيتحرك، وتأمر فيأتمر، وتدفعه إلى أبشع جريمة فيسافر إليها أميالا طويلة ليرتكبها في استهتار!”.

وجلس محمود عبداللطيف وإلى يساره حارسه اليوزباشي محمود محمد محمود الضابط بالبوليس الحربي، وإلى يمينه حارس آخر.. وظل بصره ينتقل في أرجاء القاعة؛

تارة يبصر إلى الخلف متمعنا في وجوه المتفرجين وكأنه يبحث عن أحد بينهم، وتارة ينظر إلى علم التحرير، ويثبت بصره على عبارة “الثورة.. محكمة الشعب” ، وتارة ينظر إلى المصورين الذين ركزوا عدساتهم عليه.

وبعد دقائق تهيأ جو المحكمة لدخول قضاة الشعب.. وتحول بصر محمود عبداللطيف إلى الباب الذي سيدخلون منه.

وظل هكذا حتى صاح حارس المحكمة بصوت مرتفع: محكمة!

ودخلت هيئة المحكمة.. قائد الجناح جمال سالم، والقائمقام أنور السادات، والبكباشي حسين الشافعي، وممثلا الادعاء البكباشي محمد التابعي، والأستاذ مصطفى الهلباوي، ووقف كل من في القاعة.. ثم جلسوا عندما جلست هيئة القضاة.

ثم فتح قائد الجناح جمال سالم رئيس المحكمة الجلسة!

قائد الجناح جمال سالم “رئيس المحكمة”: فتحت الجلسة.. أولى جلسات محكمة الشعب ..

المتهم موجود؟

ممثل الادعاء البكباشي محمد التابعي : المتهم موجود والقضية جاهزة.

رئيس المحكمة: المتهم محمود عبداللطيف؟

…..وقف محمود عبداللطيف من مكانه…..

المتهم: أفندم.

رئيس المحكمة: أنت متهم بأنك في يوم 26 أكتوبر 1954 وما قبله في مدينتي القاهرة والإسكندرية أولا بالاشتراك مع آخرين في تنفيذ اتفاق جنائي. الغرض منه إحداث فتنة دامية لقلب نظام الحكم. وذلك بإنشاء نظام خاص سري مسلح للقيام باغتيالات واسعة النطاق، وارتكاب عمليات تدمير بالغة الخطورة وتخريب شامل في جميع أرجاء البلاد تمهيدا لاستيلاء الجماعة التي تنتمي إليها على مقاعد الحكم بالقوة. وثانيا بالشروع في قتل البكباشي أركان حرب جمال عبدالناصر رئيس الحكومة تنفيذا للاتفاق الجنائي المشار إليه في الفقرة الأولى.. مذنب أم غير مذنب؟

….لم يرد المتهم محمود عبداللطيف…

قال رئيس المحكمة: سمعت الادعاءات اللي قلتها.. فاهم الادعاء اللي عليك؟

المتهم: أيوه.

رئيس المحكمة: مذنب ولا غير مذنب؟

المتهم: مذنب!

المدعي العام: المتهم لما أعلناه بالادعاءات سألنا إذا كان له محام فقال معندهوش محام. وقانون تشكيل المحكمة لا يستلزم وجود محام مع المتهم، والقضية جاهزة ونطلب نظرها.

رئيس المحكمة: المتهم عايز حد يدافع عنه؟

المتهم: عايز.

رئيس المحكمة: عايز مين؟

المتهم: محمود سليمان الغنام.

رئيس المحكمة: مين؟

المتهم: محمود سليمان الغنام المحامي.

رئيس المحكمة: وإذا كان سليمان غنام ما يرضاش؟

المتهم: فتحي سلامة.

رئيس المحكمة: وإذا كان سلامة ما يرضاش؟

المتهم : مكرم عبيد.

رئيس المحكمة: وإذا كان سلامة ما يرضاش؟

المتهم: يبقي أي واحد!

رئيس المحكمة: أي واحد؟ طيب.. الادعاء يتصل بالمحامين اللي قال عنهم المتهم بحسب ترتيبهم فإذا رفضوا ينتدب له محام للدفاع عنه.. وتتأجل القضية 48 ساعة لجلسة الخميس 11 نوفمبر الساعة العاشرة صباحا.. رفعت الجلسة!

ورفض كل من محمود سليمان غنام، وفتحى سلامة، ومكرم عبيد الدفاع عن المتهم؛ لأنهم جميعا استنكروا الجريمة التى أقدم عليها، وقال الأستاذ مكرم عبيد : “أنها جريمة موجهة إلى قلب الوطن؛ فمن المستحيل أن أدافع عنه .. مستحيل!”.

وفى صباح يوم الخميس 11 نوفمبر 1954 وقف المحامي هنداوي دوير أمام محكمة الشعب ليدلي بأخطر اعترافاته.
ولأول مرة في قضية محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر يظهر اسم الرئيس محمد نجيب على لسان أحد المتهمين “كمتورط” مع جماعة الإخوان.

هنداوي دوير: أبلغني إبراهيم الطيب رئيس الجهاز السري أن الإخوان على اتفاق مع اللواء محمد نجيب أن “يمشي معنا” بعد قتل جمال عبد الناصر وأعضاء مجلس الثورة، وأن هناك اتصالا بمحمد نجيب، على أن يتولى تهدئة البلاد بعد الاغتيالات! وتأكدت من هذا عندما كنت في بيت المرشد العام للإخوان حسن الهضيبي يوم عودته من سوريا، واتصل محمد نجيب بالتليفون الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وطلب أن يتحدث إلى الهضيبي.. إن الهضيبي كان من رأيه أن تتولى الحكم حكومة تتجه بالبلاد نحو الاتجاه الإسلامي ولا تكون حكومة إخوان مسلمين؛ لأن البلاد غير مستعدة الآن لتقبل النظم الإسلامية بأكملها.

وأضاف هنداوي؛ أنه سأل قبل أن يسلم محمود عبد اللطيف المسدس هل الهضيبي موافق على اغتيال جمال عبد الناصر؟؛ فقال له إبراهيم الطيب رئيس الجهاز السري إن الهضيبي وافق على هذا، وبناء على ذلك أمر محمود عبد اللطيف بتنفيذ الخطة، وقال دوير انه صدرت إليه الأوامر بدراسة منزل القائم مقام أنور السادات ومقر عمله تمهيدا لقتله، وقد نفذ هذه الأوامر.

وكشفت أقوال هنداوي دوير أمام المحكمة أن القرار باغتيال جمال عبد الناصر كان يقضي بقتله بثلاث طرق؛ أولا بالمسدس وقد كلف اثنان بذلك، وثانيا بأن يرتدي أحد الفدائيين حزام ديناميت ويعانقه فينسفه وينسف معه، ثالثا بعمل كمين له وقتله بالمدافع وهو في الطريق إلى بيته.

عقدت محكمة الشعب جلستها الثانية في الساعة العاشرة صباحا لاستئناف محاكمة المتهم محمود عبد اللطيف. وقد جيء بالمتهم في حراسة البوليس الحربي، ولزم مكانه في مقعد الاتهام، وجلس إلى يساره محاميه الأستاذ حمادة الناحل.

عقدت المحكمة جلستين الأولى صباحية، والثانية مسائية بدأت في السادسة مساء وانتهت قرابة منتصف الليل.

رئيس المحكمة: فتحت الجلسة.. المتهم موجود؟ ..جاهزين؟.
المدعي: جاهزين .

رئيس المحكمة: سمعت الادعاء اللي عليك. وقلت انك مذنب أيه أقوالك؟ السيد حمادة الناحل رايح يترافع عنك.. وأحب أقول إن المحكمة تشكره على تطوعه للدفاع عنك.

المحامي حمادة الناحل: وأنا بدوري أشكر المحكمة على هذه الثقة وأدعو الله أن يوفقني في مهمتي.

رئيس المحكمة للمتهم محمود عبد اللطيف: اتفضل قول للمحكمة ايه أقوالك.. تتكلم انت أو السيد المحامي يتكلم؟

المتهم: السيد المحامي.

رئيس المحكمة: بس يقول إيه أقواله؟

المحامي حمادة الناحل: يقول وبرضه نناقشه تاني!

المتهم: أنا في الإخوان من سنة 1942 ومن مدة 4 شهور بس.. انضميت للمنظمة السرية، ودي مكونة من 3 أشخاص محمود عبد اللطيف وهنداوي دوير المحامي وسعد حجاج.

رئيس الحكمة: على صوتك شويه وإتكلم على مهلك.. وخليك هادي.

المتهم: وكنا احنا الثلاثة نجتمع كل أسبوع يوم الاثنين من نصف ساعة إلى ساعة في بيت هنداوي دوير لحفظ القرآن ودراسة السيرة والجهاد في سبيل الله، وقبل الحادث بأسبوع واحد هنداوي قال لنا على حكاية اتفاقية الجلاء. وإن الرئيس وقعها وإن دي خيانة في حق البلد ولازم نقتل الرئيس جمال، واتفقنا احنا الثلاثة إن اللي تتاح له فرصة ينفذ الاغتيال. وقبل الحادث بيومين هنداوي جاب لي المسدس، وقال لي مسدس سعد ماجاش نفذ انت الخطة. وقبل الحادث بيوم قرأت في جريدة القاهرة إن الرئيس مسافر إلى الإسكندرية لحضور المهرجانات.. فرحت لهنداوي وقلت له إني رايح إسكندرية.. فقال على بركة الله!

والصبح جاني سعد وقلت له، فأبدى تأسفه لأن سلاحه لم يكن موجودا، وتوكلت ومشيت على الإسكندرية.. رحت المحطة ركبت قطار الساعة التاسعة صباحا، ووصلت هناك الساعة 12 ومشيت في شارع محرم بك، واتغديت ورحت لوكاندة دار السعادة، وأخذت حجرة خاصة وغيرت ملابسي، ورحت المحطة وبعدين رحت ميدان المنشية.
ولما وصلت وقفت لغاية ما جه الرئيس وهو بيلقي كلمة ألقيت عليه طلقات من المسدس. والناس قبضوا عليّ.. ورحت البوليس الحربي في الإسكندرية وقلت كل الأقوال على يد النائب العام وهو اللي كتب المحضر.

ينظر جمال سالم رئيس المحكمة إلى البكباشي محمد التابعي المدعي في القضية ويقول له: عايز تسأله؟

المدعي: أيوه.. ما دور المنظمة السرية للجماعة؟.

المتهم: محاربة أعداء الإسلام والدعوة الإسلامية .. الإنجليز واليهود واللي يقف في سبيل الدعوة، وقبل الحادث بأسبوع اجتمعنا احنا الثلاثة ودرسنا اتفاقية الجلاء، وقررنا أنها أعطت الإنجليز حقوقاً في البلد وخيانة وطنية.

المدعي: قرأت الاتفاقية؟

محمود عبد اللطيف: قرأت.. وقرأت بعض الملاحق، وقرأت في الجرائد أنها استبدلت 500 مليون جنيه الديون بتاع مصر بمبلغ 33 مليون جنيه.

رئيس المحكمة: يعني ده اللي كان مزعلك من الاتفاقية؟!!

..يسكت محمود عبد اللطيف ولا يرد..

رئيس المحكمة: ده بس اللي مزعلك.. والا فيه حاجة تانية؟

المتهم: فيه حاجه تانية.. هي أنه مش ضروري الاتفاقية.. وهم سنة 1956 كانوا رايحين يرحلوا؛ لأنهم يبقوا قاعدين غير شرعيين، وهم رايحين يطلعوا ويفرقوا قواتهم من القنال خوفا من القنابل الذرية.

رئيس المحكمة: يعني انت كمان جنرال تعرف في الشؤون العسكرية كويس؟

المدعي الآخر مصطفى الهلباوي: إذا لم تعمل الاتفاقية.. كان الإنجليز حايخرجوا ازاي؟.. إيه رأيك كأخ مواطن؟

المتهم: خروجهم يحتاج لجهاد، والجهاد جربناه قبل كده لما راحت كتائب الجامعة للقنال، وانزعج الإنجليز وقالوا انهم مستعدون للجلاء بس نوقف حرب العصابات.. ومعاهدة 1936 دي كانت تعطي للإنجليز كل حق في البلد بالثمن.. التموين المواصلات بالفلوس.. وعشان كده ترتبت ديون لمصر على إنجلترا.

رئيس المحكمة: تفتكر مافيش داعي للمناقشة في المعاهدات

المدعي: ثقافتك ايه؟

المتهم: درست أربع سنين في قسم ليلي بعد الابتدائية!

المدعى: ماذا درست؟

المتهم: الجهاد في سبيل الله ودراسة القرآن والسيرة.

المدعى: الجهاز السري كان بيشتغل لحساب مين؟

المتهم: الإخوان .. الإخوان المسلمين.

رئيس المحكمة: يعني كنتم تحاربوا أعداء الإسلام عشان الإخوان المسلمين يتريسوا، والحكومة يعني عدوة الإسلام، وعشان كده رحت تقتل رئيسها، والا فهموك أن الرئيس بس هو اللي عدو الإسلام؟

المتهم: فهمونا إن الرئيس هو عدو الإسلام.

رئيس المحكمة: لوحده؟

المتهم: آه.

رئيس المحكمة: ده اللي فهموه لك؟

المتهم: أيوه.

رئيس المحكمة: وجهازكم كان لحساب الإخوان المسلمين؟

المتهم: لا.. بس اعرف أن رئيسنا هنداوي.. لكن الرئيس العمومي معرفهوش.

رئيس المحكمة: هل بينك وبين الرئيس جمال حاجة؟.

المتهم: لا

رئيس المحكمة: كلمته؟

المتهم: لا.

رئيس المحكمة: سلمت عليه؟

المتهم: لا .

رئيس المحكمة: آمال ايه اللى خلاك تحاول تقتله؟

المتهم: فهموني إن الاتفاقية خيانة

رئيس المحكمة: مين اللي فهمك؟

المتهم: هنداوي دوير.

رئيس المحكمة: طيب.. اطلبوا هنداوي دوير نسمع كلامه.
لكن قبل استدعاء هنداوي دوير لسماع أقواله يستكمل المدعي محمد التابعي سؤال محمود عبد اللطيف، ويقول له: هل سبق أن طلب منك لبس حزام وتنسف به الرئيس؟

المتهم: هنداوي عرض علي الساعة 12 مساء ليلة الحادث؛ وقال لي فيه عندنا حزام تلسبه.. وتعانق الرئيس ينفجر وينسف الرئيس وينسفك ..رفضت.

رئيس المحكمة: مارضيتش له؟

..لا يرد محمود عبد اللطيف..

رئيس المحكمة: خفت على نفسك؟

المتهم: لا.. ماخفتش على نفسي.

رئيس المحكمة: ليه.. دي أضمن من المسدس؟

..لا يرد محمود عبد اللطيف..

رئيس المحكمة: اتكلم.. حد ماسكك؟ ما تخافش

المتهم: أنا قلت له ما ينفعش عشان الزحمة!

المحامي حمادة الناحل: ويمكن ما يرضاش الرئيس يحضنه!

رئيس المحكمة : ايه معلوماتك الدينية؟

المتهم: جزء من سورة البقرة!

رئيس المحكمة: وايه تاني.

المتهم: بعض آيات!

رئيس المحكمة: تقدر تقول شوية منها؟

المتهم: سورة يس وثلاثة ارباع آل عمران.

* جمال سالم: بس؟

المتهم: وسورة صغيرة.

في محكمة الشعب أطاحت اعترافات الإخوان باللواء محمد نجيب، وبرغم أن هذه الاعترافات كانت بمثابة صدمة عامة للمصريين الذين كان كثير منهم يعجبون بمحمد نجيب، فهو رئيس الجمهورية، وهو الرجل الأكبر سنا والأكثر حكمة بين الضباط الأحرار الذين صنعوا الثورة.

برغم كل ذلك فقد وضعت هذه الاعترافات فصل النهاية لوجود محمد نجيب على رأس الثورة.. وعلى رأس الحكومة المصرية، وصدرت الجرائد في صباح يوم 15 نوفمبر 1954تحمل الأخبار الأكثر إثارة:

“إعفاء نجيب” ..

“مجلس الثورة يقرر بقاء منصب رئيس الجمهورية خالياً ”

تولى اللواء عبدالحكيم عامر القائد العام ووزير الحربية، وقائد الجناح حسن إبراهيم وزير القصر إبلاغ هذا القرار لمحمد نجيب في الساعة الحادية عشرة في قصر عابدين، وغادر محمد نجيب القصر بعد إبلاغه القرار.

واجتمع مجلس الوزراء وأحيط بقرار مجلس قيادة الثورة، وأقام اللواء محمد نجيب مع أسرته في قصر المرج، وهو القصر الذي كانت تملكه السيدة زينب الوكيل زوجة مصطفى النحاس باشا.

وصرح الدكتور محمود فوزي وزير الخارجية عقب الاجتماع بأن الرئيس جمال عبدالناصر رئيس مجلس الوزراء كلفه بإبلاغ قرارات مجلس قيادة الثورة إلى جميع السفارات والمفوضيات المصرية في الخارج، وقال الدكتور محمود فوزي أنه سيجتمع في وزارة الخارجية باللواء علي نجيب سفير مصر في سوريا لاطلاعه على تفاصيل الموقف في سوريا.

وكان البوليس في فجر اليوم السابق قد ألقى القبض على إبراهيم الطيب رئيس الجهاز السري للإخوان، وبمجرد القبض عليه سالت اعترافاته الخطيرة، وكانت أكثرها خطورة هي اعترافاته على اللواء محمد نجيب؛ فقد اعترف إبراهيم الطيب بأن محمد نجيب كان على صلة سرية بالإخوان من شهر أبريل بنفس العام، وأنه قبل أن يلعب دورا هاما في انقلاب الإخوان الدموي، وأن محمد نجيب أفهم الإخوان أنه يستطيع أن يسيطر على الموقف بعد اغتيال جمال عبدالناصر

واعترف إبراهيم الطيب بأن حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان وفي بعض الأحوال عبدالقادر عودة أو صلاح شادي كانوا صلة الاتصال السري بين الإخوان واللواء محمد نجيب، وأحيانا تكون الصلة أشخاصا آخرين من المتصلين بالهضيبي
وتوالت اعترافات إبراهيم الطيب.. فقد اعترف بأن المجلس العالي للجهاز السري هو الذي وضع خطة الاغتيالات والانقلاب، وأن هذه الخطة لا علاقة لها باتفاقية الجلاء، وإنما وضعت للتخلص من النظام الحاكم، وأن المرشد العام حسن الهضيبي أقر هذه الخطة وصدق عليها

وقال ابراهيم الطيب لقد كنت مستمرا في تنظيم باقي الإخوان الذين لم يعتقلوا، وكنت أبذل محاولة نهائية لتنفيذ خطة الانقلاب؛ كانت الخطة تتلخص في إعداد الإخوان وتعبئتهم وتدريبهم، والقيام بحوادث اغتيالات للجهاز الحكومي كله من رئيس الوزراء جمال عبدالناصر إلى كل معاونيه وعدد من ضباط الجيش، وقد تقرر في الخطة أن نقتل جمال عبدالناصر بأي شكل في منزله أو في مكتبه أو في الشارع؛ لأننا كنا نعتبره المسؤول عن الجهاز الحكومي
وبعد اغتيال جمال عبدالناصر نقوم بحركة شعبية ومسلحة، وأن يتم تأمين الجيش بواسطة محمد نجيب، وفي الوقت نفسه يقوم الإخوان بمظاهرات شعبية مسلحة، ومن أجل هذا جمعنا السلاح لاستعماله في هذه المظاهرات، وقد أبلغت يوسف طلعت هذه الخطة وأبلغني أن المجلس العالي هو الذي وضعها، وأنه عرضها على المرشد العام الأستاذ الهضيبي فصدّق عليها، وكان المتفق عليه بعد الاغتيالات وقيام المظاهرات المسلحة أن يتولى محمد نجيب تأمين الثورة الجديدة، وإلقاء بيان للتهدئة؛ فإذا حصلت مقاومة بعد ذلك تحدث اغتيالات جديدة

ويضيف إبراهيم الطيب أنه عندما تلقى هذه التعليمات من يوسف طلعت أبلغها إلى جميع قادة الفصائل لتنفيذها، وأن القصد من اغتيال جمال عبدالناصر ألا يقع صدام بين الشعب وبعضه، وأن محمد نجيب أفهمهم أنه يستطيع أن يسيطر على الموقف

ويقول الطيب : ” وكنا نظن أن الذين سينجون من الاغتيالات سوف يسلمون أنفسهم حقنا للدماء؛ وخصوصا عندما يرون أن رئيس الجمهورية محمد نجيب هو القائم على رأس الوضع الجديد، والخطة ليس لها أية علاقة باتفاقية الجلاء، ولكن السبب في وضعها هو التخلص من الوضع الحالي.. وعندما فشل حادث اغتيال جمال عبدالناصر لم أيأس
وكنت أحاول من مخبأي إعادة تنظيم الفصائل التي بقيت بعد الإعتقالات لنحاول أن نقوم بالخطة التي وضعها المجلس العالي، وكنت أستعين ببعض الأخوات المسلمات في نقل التعليمات إلى أعضاء الفصائل. وكان محمد نجيب قد وعدنا في شهر أبريل بأن الجيش معه، فلما تبين أن هذا غير صحيح رأينا أن نستعيض عن الجيش بالمظاهرات الشعبية المسلحة

ولم يكن هذا فقط هو كل ما اعترف به ابراهيم الطيب؛ فقد قال فيما بعد أمام محكمة الشعب: ” أن اللواء محمد نجيب كان يكتب المنشورات ويكلف الإخوان بطبعها وتوزيعها

وأن عبدالقادر عودة سلمه منشورا مكتوبا بالقلم الرصاص ليس بخطه وبتوقيع محمد نجيب يهاجم فيه اتفاقية الجلاء، وأن الجهاز السري أعد خطة الاغتيالات بعد أن تم التفاهم مع محمد نجيب، وأنهم قرروا اغتيال كل من يقف ضد ثورتهم المسلحة

وقال إبراهيم الطيب أيضا: ” إن حزام الديناميت كان معدا لتفجيره في الرئيس جمال عبدالناصر وزكريا محيي الدين وزير الداخلية
ومن اغرب ما قاله أنه قرر قتل جمال عبدالناصر رغم انه لم يقرأ اتفاقية الجلاء، واكتفى بما قاله له عبدالقادر عودة بأنها تنص على عودة الإنجليز إلى القنال في حالة خطر الحرب، وهذا معناه أن الإنجليز لن يخرجوا من مصر لأن خطر الحرب قائم

وفي محكمة الشعب.. كشف جمال سالم رئيس المحكمة عن أسرار خطيرة، فقال إن الإخوان طلبوا من مجلس قيادة الثورة خلال شهري يوليو وأغسطس سنة 1952 -أي فور قيام الثورة- إقامة حكم عسكري مطلق دون دستور أو برلمان لمدة عشر سنوات ليكون الحكم تحت وصاية الإخوان!

وقال جمال سالم: إن مجلس قيادة الثورة رفض هذا العرض وطلب من الأحزاب تطهير نفسها تمهيدا لإعادة الحياة النيابية لكنها لم تفعل!

ولم تكن الاعترافات فقط هي التي قدمها إبراهيم الطيب.. لكن أيضا فور القبض عليه أرشد عن مخبأ يوسف طلعت رئيس الجهاز السري الهارب. وكانت وزارة الداخلية قد أعلنت عن مكافأة قدرها ألفا جنيه لمن يرشد عن يوسف طلعت، وكان رجال البوليس يعملون ليل نهار في البحث عنه.. لكن إبراهيم الطيب بعد القبض عليه وفي الساعات الأولى أرشد عن الأماكن التي يتردد عليها يوسف طلعت، ومن هذه الأماكن شقة في مصر الجديدة، وأسرع رجال البوليس إلى هذه الشقة وحطموا بابها ودخلوا ليجدوا يوسف طلعت جالسا بالبيجامة حليق الذقن يقرأ في جريدة ” أخبار اليوم “، وكان بجوار يوسف طلعت مدفع معد للاستخدام في أية لحظة.. لكنه بمجرد أن وجد رجال البوليس في الشقة يحيطون به استسلم ورفع يديه إلى أعلى

وعثر رجال البوليس في الشقة التي كانت تقع بالطابق الرابع في العمارة رقم 9 بشارع الوالي على مدفع “تومي جن” ومدفعين “برن” وخمسة مدافع “استن” وتسع بنادق “لي انفيلد”، وماسورة مدفع عيار 11 ومدفع “فيكرز” و23 قايش بندقية مشحون بالرصاص، و19 خزانة مدفع، وصندوق كبير مليء بالمتفجرات والمواد الناسفة والقنابل، وماكينة طبع “رونيو” لطبع المنشورات. ولم يكتف رجال البوليس بالصيد الثمين وهو القبض على يوسف طلعت؛ فقد حملوه بعيدا وأصلحوا باب الشقة وظلوا داخلها وانتظروا وصول زواره من رجال الإخوان، ثم قبضوا عليهم جميعا.

وبدأت بقية رموز الإخوان الكبيرة تتساقط، وكان من بين الذين تم القبض عليهم سيد قطب، ونشرت “أخبار اليوم” بعضا من اعترافاته فقالت:

اعترف الأستاذ سيد قطب أحد زعماء الإخوان اعترافات خطيرة. اعترف بأنه زار المرشد العام حسن الهضيبي عقب عودته من سوريا وأبلغه الأستاذ الهضيبي بأنه سيحدث انقلابا في الحكم قريبا، وأن هذا الانقلاب سيتم مع بقاء محمد نجيب رئيسا للجمهورية.

وقال سيد قطب للهضيبي: خلي بالكم شوية واعملوا احتياطات من الناحية الدولية؛ لأن منطقة الشرق الأوسط منطقة حساسة وقد تتدخل بعض الدول.
المرشد العام حسن الهضيبي: لقد اتخذت احتياطيات دولية والإخوان قاموا بالاتصالات في هذا الشأن حتى تعترف الدول بانقلاب الإخوان.

واعترف سيد قطب بأنه كان يصدر نشرة سرية للإخوان بعنوان “هذه المعاهدة لن تمر” ، ونشرة أخرى بعنوان ” لماذا أكافح “؟!

صدم الشعب فى جماعة الإخوان الذين كانوا –كعادتهم دائما- يتسترون بعباءة الدين للوصول إلى أهدافهم فى السيطرة على الحكم فى مصر، وبدأ الناس يشعرون بكراهية شديدة للإرهابيين من جماعة الإخوان للأعمال الإجرامية التي ارتكبوها، واخذوا يساعدون رجال البوليس في الكشف عنهم وعن مخابئ ذخيرتهم؛ فكان بعد أن انتهت صلاة الجمعة في مسجد الظاهر أن شعر الناس بأن الأستاذ صالح عشماوي كان يؤدي الصلاة بين المصلين فظنوه حسن عشماوي المطلوب القبض عليه، فقاموا بالقبض عليه وساقوه إلى قسم الظاهر ولكن رجال البوليس أخلوا سبيله!

لكن اخطر ما حدث كان القبض على بعض عناصر الإخوان في الجيش، وكشف هؤلاء عن أنه كانت توجد خطة لنسف طائرة جمال عبدالناصر. فقد اعترف الضابط طيار محمد علي الشناوي بأنه تلقى أمرا من البكباشي أبو المكارم عبدالحي قائد الجهاز السري للإخوان في الجيش بأن ينسف طائرة الرئيس جمال عبدالناصر التي سافر بها الى أسوان، وانه كلف الأونباشي فاروق حسن المسيري والأونباشي سعيد ندا من قوة الطيران بوضع قنبلة زمنية داخل محرك طائرة جمال عبدالناصر!

وكان على الطائرة مع الرئيس جمال عبدالناصر جمال سالم وصلاح سالم والدكتور احمد حسن الباقوري وزير الأوقاف ونور الدين طراف وزير الصحة والشرباصي وزير الأشغال وحسن مرعي وزير التجارة وحسني فهمي رئيس مجلس الإنتاج، والبكباشي احمد أنور قائد البوليس الحربي، وأمين حشاد قائد اللواء الجوي وسعد رفعت قائد السرب، وعبداللطيف الجيار سكرتير الرئيس، وكان معهم أيضا الكاتب الصحافي الأستاذ محمد حسنين هيكل.

واعترف الأونباشي سعيد ندا من سرب المواصلات بأن الطيار الشناوي كلفه بوضع قنبلة في طائرة الرئيس جمال عبدالناصر؛ فسأله لماذا نقتل جمال عبدالناصر، قال له الطيار الشناوي لأنه عدو للإسلام ويحل دمه.

قال له الأونباشي: ما دام الأمر كذلك فلنقتل جمال عبدالناصر، ولكن ما ذنب زملائه الذين سيكونون في الطائرة؟

فأفتى له البكباشي أبو المكارم بأنهم سيكونون شهداء! وقال أنهم سيدخلون الجنة.

وعاد الطيار الشناوي ليبلغ هذه الفتوى للأونباشي سعيد ندا، لكن الأخير لم يستطع وضع القنبلة في طائرة الرئيس جمال عبدالناصر لأسباب خارجة عن إرادته.

لم تكن هذه القصة مثيرة فقط لكنها كانت أيضا خطيرة، لأنها كانت المرة الأولى التي يتم فيها الكشف عن عناصر للإخوان داخل الجيش المصري غير الضابط الهارب السابق عبدالمنعم عبدالرؤوف، ولم تكن الشرطة العادية هي التي كشفت هذه القضية بل البوليس الحربي، وكان قائد البوليس الحربي هو احمد أنور، والذي كان مفروضا أن يقتل في نفس الطائرة مع جمال عبدالناصر.

وبالعودة إلى المحاكمات، تحولت شهادة حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين في القضية المتهم فيها محمود عبداللطيف الذي حاول قتل الرئيس جمال عبدالناصر واطلق عليه ثماني رصاصات في ميدان المنشية بالإسكندرية إلى ما يشبه المحاكمة العلنية للجهاز السري للإخوان ولجماعة الإخوان وأفكارها وأعمالها.

وكان مشهد الهضيبي داخل قاعة محكمة الشعب يدعو للرثاء، وهو يقول أمام القضاة والشهود بأنه لم يكن على علم بما يفعله الجهاز السري، وأنه كان مجرد ” واجهة لا اكثر ولا اقل للإخوان”؛ كل مهمته السفر وتوقيع الأوراق كل شهر.. والتحدث إلى الصحافيين!

وكان الهضيبي يتحدث عن لقائه بيوسف طلعت رئيس الجهاز السري في مخبئه بالإسكندرية، وكيف أنه لم يسمح إلا بالمظاهرات، وطالب بأن تشترك عناصر الأمة في هذه المظاهرات.

وواصل حمادة الناحل محامي محمود عبداللطيف سؤال المرشد العام للإخوان.. وسأله عن نتيجة التصادم الذي سيحدث في المظاهرات بين الناس والحكومة.

– فقال الهضيبي: نتيجة سيئة!

المحامي حمادة الناحل: هل يمكن أن تكون مذبحة؟

الهضيبي: ممكن!

المحامى: ماذا قلت ليوسف طلعت بهذا الشأن؟

الهضيبي: أنا ما قلتش ليوسف طلعت إلا الكلام اللي قلته.

المحامي: هل تؤمن بالحديث الذي يقول: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده.. الخ”؟

– الهضيبي: أيوه.

جمال سالم”رئيس المحكمة”: لا تتدخل في إيمان الشاهد؛ لأن هذا بينه وبين ربه.

رئيس المحكمة: ما فيش حد من اللي هنا كان عايز يقعد القعدة دي.. لا احنا ولا الحاضرين.. ولا كنا عايزين ده كله.. ولكن نعمل ايه؟ امرنا لله.. هل اتصل بك الرئيس جمال عبدالناصر على يد أعضاء مكتب الإرشاد وطالبك بحل الجهاز السري ونشاط الإخوان في الجيش والبوليس؟

الهضيبي: حصل!

رئيس المحكمة: ماذا عملت لتنفيذ ذلك؟

الهضيبي: الأول هو طلب ألا يكون لنا تنظيمات في الجيش، فأنا قلت أنى لا اعلم انه فيه تنظيمات في الجيش.. يجوز فيه ناس قابلين الدعوة بس، وقلت إن الضابط محمود لبيب جاني في الفترة اللي كنت فيها رافض تولى رياسة الإخوان، وعرض عليّ أسماء ضباط في الجيش منضمين للإخوان، وأنا اعتذرت له عن معرفتهم لأني ماكنتش قبلت الرياسة.. وأنا قلت الكلام ده لجمال عبدالناصر.

رئيس المحكمة: وماذا عملت بالنسبة للجهاز السري المدني الذي طلب منك رئيس الحكومة حله. وطلب ذلك منك مباشرة وبواسطة أعضاء الجماعة.. وطلب منك تسليم أسلحتهم؟

– الهضيبي: لا.. أنا ماكنتش أعرف إن فيه أسلحة أو إن الجهاز فيه منه خطر.

كان الإرهاق قد بدأ يظهر واضحا على حسن الهضيبي..

جمال سالم “رئيس المحكمة”: انت تعبان من الوقوف؟

الهضيبي: أيوه.

نظر جمال سالم إلى احد الجنود في القاعة.. وقال له: هات له كرسي من فضلك!

لكن الهضيبي قال: لا معلهش

رئيس المحكمة: إذن نأخذ راحة إلى أن تستريح.. توقف الجلسة ربع ساعة.

كانت هذه أجزاء من وقائع محاكمات المتآمرين من جماعة الإخوان على قلب نظام الحكم أمام محكمة الشعب.
وهذه هى التمثيلية التى يدعون أن الرئيس عبد الناصر قد دبرها ، وبعد ذلك فالزعم بأن حادث محاولة الاعتداء على الرئيس جمال عبد الناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية سنة 1954 هو حادث مدبر من الرئيس عبد الناصر ، لا يقول به إلا أحد اثنين :

إما أن يكون هو نفسه شريكا فى تدبير الاعتداء .

أو أن يكون من الذين يحرصون على أن يقذفوا بالغيب من مكان بعيد .

لقد قال الشيخ أحمد حسن الباقورى حول هذا الحادث ما يلى :

” إن الذى يصر على أن ما حدث فى المنشية كان مفتعل من جانب الرئيس جمال عبدالناصر فهو مخطئ؛ فقد كنت أجلس فى شرفة هيئة التحرير بميدان المنشية، وكنت أجلس بالقرب من الرئيس ، وبجوارى الأستاذ ميرغنى حمزة وزير الزراعة السودانى.. ورفع يده بعد إطلاق الرصاص، وإذ بيده غارقة فى الدماء نتيجة تناثر شظايا الزجاج فى يده .. هذه واحدة، أما الأخرى ؛ كان هناك سكرتير هيئة التحرير بالإسكندرية وأصيب برصاصة فى بطنه ونقل إلى المستشفى، وذهبنا لزيارته مع جمال عبد الناصر فى اليوم التالى .. هل هذا كله تلفيق”.

ومن واقع حديث لجمال عبد الناصر مع رئيس تحرير الجمهورية كامل الشناوى يوم30مايو1956 جاء فيه :

“الشناوى : لقد قررتم رفع الرقابة على الصحف نهائيا ، فهل سيتبع ذلك اتخاذ قرار بتخفيض قيود الأحكام العرفية ؟

الرئيس : إن الأحكام العرفية استمرار لقرار آخر برلمان فى 26يناير1952 مع فارق أنها كانت تستخدم ضد المواطنين ، أما الثورة فقد استخدمتها ضد أعداء الوطن ، وسأعلن وجهة نظرى فى نهاية الأسبوع .

الشناوى : والمعتقلون ؟

الرئيس : لقد قررنا الإفراج عنهم .

الشناوى : جميعا ؟

الرئيس : جميعا وبلا استثناء ، ولكن هل تعرف عدد المعتقلين ؟

الشناوى : ليس عندى معلومات أكيدة من عددهم، ولكن كل ما أعلم أن كثيرين ممن اعتقلوا أو ممن صدرت ضدهم أحكام قضائية ونشرت قوائم بأسمائهم قد تم الإفراج عنهم فى صمت ولست أعرف الحكمة من كتمان هذه الأنباء .

الرئيس : سأذيع خلال أيام قليلة بيانا عن من تم اعتقالهم ومن أفرجنا عنهم، وسيفاجأ الرأى العام حين يعلم أن حملات التضليل قد ضربت الرقم الحقيقى للمعتقلين فى عشرة أو عشرين ، وسيعلم الرأى العام أيضا أننا لم نؤذ معتقلا فى رزقه لم نهمل شأنه أو شأن أحدا ممن يعولهم ، وأن الاعتقال كان إجراء تحفظيا لسلامة الدولة وحماية مصلحتها العليا، وأن الاعتقال بالنسبة إلى كثيرين من المتعقلين لم يكن عقوبة بل كان علاجا ووقاية .

الشناوى : هل أستطيع أن أعرف عددهم ؟

الرئيس : إن عدد المعتقلين الآن 571 معتقلا سيفرج عنهم جميعا قبل يوم22يونيو”.

وبعد يومين من هذا الحديث أعلن الرئيس عبد الناصر ضمن الحملة الإعلامية لإعلان الدستور سنة1956 ما يلى:

“إ ن أكبر عدد للمعتقلين طوال هذه الأيام بلغ فى 24 أكتوبر 1954 عدد 942 معتقلا بعد اكتشاف القنابل ومخازن السلاح والمنظمات السرية وكلكم تعلمون الفترة التى مررنا بها وقبل هذا الوقت وهذه الحوادث كان أكبر عدد للمعتقلين فى أكتوبر 1954 وكان عددهم فى عامى 1952 و1953 حوالى 237 شخص فقط ، ولما قامت الحوادث المؤسفة باسم الدين قام بعض الناس ممن خدعوا وغرر بهم ودفعوا دفعا لمقاومة هذه الثورة ورغم هذا كله فإن عدد المعتقلين وصل إلى 2943 وفى سنة 1948 و1949 لم تكن البلاد تحكم أحكاما استثنائيا وصل عدد المعتقلين إلى خمسة آلاف شخص وأنتم تعلمون أن هذه الأرقام مع فارق واحد هو أن المعتقلين فى الماضى كانوا الذين يعملون من اجل الوطن والحرية وتحقيق الآمال والمعتقلين الذين اعتقلوا فى الثورة كانوا وبالا على الشعب وآماله وأهدافه وكانوا يمثلون خطرا على مستقبل هذا الوطن وكيانه الذى يسعى إلى التحرر من الاستعمار وأعوانه”.
ثم شرح الأسباب التى دفعت للاعتقال قائلا :

” فإن علينا أن نفكر فى الأسباب والدوافع قبل الحكم على قرار ما حتى نستطيع أن نحكم عليه حكما سليما.

إنه فى السنوات الماضية أقيمت محاكم عسكرية وحكمت على الأشخاص الذين كانوا يقاومون هذه الثورة والذين كنا نعتبر أن أى نجاح لهم يعد انتكاسا لهذه الثورة، وأن أى نجاح قد يثبت الاستعمار وأعوانه ، المحاكم العسكرية حكمت على 254 فردا بأحكام متفاوتة وعلى ما أعتقد أحكاما لا يتجاوز أقصاها 8 سنوات. كما أقيمت محاكم الشعب التى حاكمت الجهاز السرى والتنظيمات المسلحة التى كانت موجودة فى مصر والفصائل التى كانت موجودة فى شبرا ومصر القديمة وفى إمبابة وفى كل مكان ، التنظيم المسلح والتنظيم العسكرى ولم يكن المقصود به جمال عبد الناصر أبدا كان المقصود به أنتم ، كان المقصود به حريتكم .

وبعد أن انتهت معركة الجهاز السرى ، ولم تكن خسائر هذه المعركة كبيرة ـ حكمت محاكم الشعب على 867عضوا فى الجهاز السرى البالغ عددهم حوالى أربعة آلاف أو خمسة آلاف موجودين فى شعب وخلايا مسلحة يمثلون فصائل وجماعات ومناطق ، جيش حر فى داخل البلاد .

فى المحاكم العسكرية حكم على 254 وفى محاكم الشعب حكم على 867 ولو قارنا هذه الثورة بثورات العالم أجمع نجد أنه ما من ثورة قامت فى العالم واستطاعت أن تثبت أقدامها وتقاوم الرجعية والانتهازية والسيطرة والتحكم إلا ببحر من الدماء .

محكمة الثورة كانت درسا سمعتم ما كان فيها وعرفتم ماذا كان يجرى فى الماضى وراء الستار وعرفتم كيف كانت تحكم مصر ومن أين كانت تحكم كان يحكمها الخدم والشماشرجية .

هذا هو الدرس الذى أخذناه من محكمة الثورة ، أما من حكم عليهم من محكمة الثورة فقد أفرج عنهم جميعا تقريبا ، ولم يكن الغرض انتقاما ولم يكن الغرض حقدا ، ولم يكن هناك أى عامل شخصى ” .

مؤامرة 1965:
هذا ما حدث سنة 1956؛ أما ما حدث سنة 1965 فكانت الصورة أعنف وأشد ضراوة من جانب الجهاز السرى للإخوان المسلمين ـ وهى قصة أخرى ـ وكانت الإعتقالات حوالى خمسة آلاف فرد أخذا بالأحوط؛ لأن الصورة كانت غير واضحة من حيث نوايا وقدرات المتآمرين، وخصوصا أن هذه المؤامرة أكتشفت بواسطة التنظيم الطليعى وليس بواسطة أجهزة الأمن .

لم يكن أسلوب الرئيس عبد الناصر هو تصفية الحسابات مع خصومة، ولكنه كان يرفض وبإصرار تصفية البشر عزوفا منه عن سفك الدماء باسم الثورة أو حتى طلبا لحمايتها. وكان فى نفس الوقت يتصرف كإنسان، يخطئ ويصيب، ومن أول يوم للثورة وقف ضد إعدام الملك فاروق، ورفض منذ البداية الديكتاتورية العسكرية .

وفى عام 1960 أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قرارا بالإفراج أيضا عن كل المسجونين من الذين كانت قد صدرت ضدهم أحكام من الإخوان المسلمين، وتم صرف جميع مستحقاتهم بأثر رجعى بموجب قانون جرى استصداره من مجلس الأمة ينص على أن تعاد لجميع المفرج عنهم حقوقهم كاملة، وأن يعودوا إلى وظائفهم بمن فيهم أساتذة الجامعات الذين يملكون حرية الاتصال والتوجيه للنشء الجديد… هذا هو جمال عبدالناصر الإنسان والقائد والزعيم.

خرج الإخوان المسلمين من السجون بفكر إرهابي مبنى على تكفير الحكم ، وضعه سيد قطب فى كتابه “معالم على الطريق ” ، وأمكن بواسطته أن يجذب إليه العديد من العناصر التى كانت بالسجن معه ، كما وجدوا فى انتظارهم مجموعة موازية على قدر عال من التنظيم ويعملون على نشر فكر الجماعة فى مختلف المحافظات؛ وخاصة فى الدقهلية والإسكندرية والبحيرة ودمياط ، وكان على رأس هؤلاء على عشماوى وعبدالفتاح إسماعيل وعوض عبدالعال ومحمد عبدالفتاح شريف وغيرهم .

وتوفر لهم تمويل خارجى كان الشيخ عشماوى سليمان هو حلقة الاتصال المسئول عن توصيل هذا التمويل إلى الداخل .

والتفت المجموعات المختلفة من الإخوان حول فكرة واحدة هى تكفير الرئيس عبد الناصر ومن ثم استباحة اغتياله ، كما اتضح فيما بعد كما كان مقررا أن تشمل عملية الاغتيالات عدد كبير من رجال الدولة والكتاب والأدباء والصحفيين والفنانين وأساتذة فى الجامعات وغيرهم رجالا ونساء ، وبيان تفاصيل هذا الأمر محفوظ فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى ، وأرشيف المباحث العامة وأرشيف المخابرات الحربية .

خطط هؤلاء على إدخال بعض عناصرهم كضباط فى القوات المسلحة عن طريق الالتحاق بالكلية الحربية كما حاولوا اختراق الشرطة أيضا بنفس الأسلوب ، يضاف إلى ذلك تجنيد عدد لا بأس به من شباب الجامعات خاصة فى الكليات العلمية، وبالذات كليتى العلوم والهندسة التى يمكن لعناصرهم فيها أن يتمكنوا من إعداد المتفجرات بأيسر الطرق ، كما كان داخل التنظيم قسم لتجميع المعلومات يتولى مسئوليته أحمد عبد المجيد الموظف بإدارة كاتم أسرار حربية بوزارة الحربية 0 كما أجمعت قيادات التنظيم على اختيار سيد قطب لتولى رئاسة هذا التنظيم الجديد ، وتم الاتصال به داخل السجن وأعرب عن موافقته، وقدم لهم كتابه ” معالم على الطريق “، ونشط فى بناء التنظيم وتوسيع بنائه وقواعده بعد خروجه من السجن .

فى 7 أغسطس1965 كان الرئيس جمال عبد الناصر يتحدث إلى الطلبة العرب فى موسكو خلال زيارة كان يقوم بها للاتحاد السوفيتى، وأعلن فى هذا الحديث عن ضبط مؤامرة جديدة للإخوان المسلمين فقال :

” بعد أن رفعنا الأحكام العرفية منذ سنة وصفينا المعتقلات ، وأصدرنا قانونا لكى يعودوا إلى أعمالهم نضبط مؤامرة وسلاحا وأموالا وصلت إليهم من الخارج، وهذا دليل على أن الاستعمار والرجعية بيشتغلوا من الداخل ” .

وتوالى بعد ذلك كشف تفاصيل المؤامرة …
كانت نقطة البداية فى الكشف عن التنظيم الإخوانى هى رصد بعض مجموعات التنظيم الطليعى فى محافظة الدقهلية نشاطا لعناصر من الإخوان أخذ شكل جمع تبرعات قيل أنها لعائلات الغير قادرين منهم ، لكن اتضح أن هذه التبرعات بعد متابعة هذا النشاط كانت تستهدف تجنيد عناصر جديدة ليس لها تاريخ سابق فى جماعة الإخوان المسلمين أو فى سجلات أجهزة الأمن ، وتبين بعد ذلك أن هذا النشاط لا يقتصر على محافظة الدقهلية وحدها ، بل تبعه إلى عدد من المحافظات الأخرى .

والحقيقة أن الرئيس عبد الناصر عندما تلقى معلومات التنظيم الطليعى ، طلب تأكيدها عن طريق أجهزة الأمن التى لم يكن لديها بعد مؤشرات عن هذا النشاط، وبناء على ذلك شكلت مجموعة عمل خاصة من شعراوى جمعة وسامى شرف وحسن طلعت لتلقى المعلومات وتحليلها كما تم التنسيق مع شمس بدران فيما يتعلق بالقوات المسلحة .

وبعد إجراءات التنسيق التى تولت المتابعة بشكل جدى ودقيق ورصد كل تفصيلاته، وكان كتاب سيد قطب ” معالم على الطريق ” قد صدر ، لكن مشيخة الأزهر الشريف طلبت مصادرة الكتاب لما يحويه من أفكار جديدة مستوردة ومستوحاة من تعاليم أبو الأعلى المودودى الباكستانى، وبعبارات مختصرة فقد قام فكره على تكفير الحاكم والمجتمع وتغريبه بما يشمل استباحة التخلص من الأنظمة التى لا تتماشى فى الحكم مع هذه التعاليم والمبادئ ، وبعد إطلاع الرئيس عبد الناصر على الكتاب طلب السماح بطبعه وتداوله فى سوق الكتاب مع المتابعة بالنسبة لتوزيعه ، وقد ثبت أن الكتاب قد أعيد طبعه فى أربع طبعات على مدى قصير وبدون إعلان أو دعاية للكتاب ، وعندما قدم التقرير إلى الرئيس كان قراره وتحليله أنه مع تزايد التوزيع وإعادة الطباعة فهذا يعنى شىء واحد فقط هو أنه هناك تنظيم وراء هذا العمل، وبدأت أجهزة الأمن تتابع هذا النشاط بالنسبة للمشترين والموزعين ومن يحصلون على الكتاب .. الخ، وكان هناك أيضا وفى نفس الوقت تكليفات للتنظيم الطليعى بمتابعة هذا الموضوع جماهيريا وسياسيا، وكانت كل البيانات تجمع وتعرض على اللجنة الخاصة التى تولت تحليلها.

وحدث أنه أثناء قيام الرئيس جمال عبد الناصر بزيارة الجامع الأزهر فى شهر أغسطس 1965 أن اكتشف وجود شخص يحمل مسدس ويندس بين صفوف المصلين، وكان ذلك قبل وصول الرئيس فقبض عليه وبدأ التحقيق معه .

كذلك أفادت المعلومات عن نشاط مكثف يقوم به سعيد رمضان وهو من قادة الإخوان المسلمين، وكان هاربا ومقيما فى ألمانيا ، وأنه دائم التنقل بين مقر إقامته وبيروت وجدة و طهران – إيران الشاه – وبعض العواصم الأوروبية الأخرى، وكان وقتها يحمل جواز سفر دبلوماسى أردنى .

وكانت جماعة مصر الحرة التى يقودها أحمد أبو الفتح – من زعماء حزب الوفد فى مصر والذى كان يقيم متنقلا بين سويسرا وفرنسا – قد حصلت على مبلغ مائتان وخمسون ألف جنيها إسترلينيا من الملك سعود ووقع خلاف بين هذه الجماعة من جانب ، وبين سعيد رمضان من جانب آخر على أسلوب اقتسام هذا المبلغ بعد أن كان الطرفان قد شكلا جبهة عمل واحدة للعمل ضد نظام ثورة يوليو1952 و الرئيس جمال عبد الناصر بالذات.

لقد كان كتاب سيد قطب ” معالم على الطريق ” هو الدستور الذى ارتكز عليه فكر التنظيم وبرنامجه فى التحرك التآمرى إلى بناء طليعة تقاوم الجاهلية التى يعيش فيها العالم الإسلامى كله، وأن هذه الجاهلية تمثل الاعتداء على سلطان الله ، وأخص خصائص الإلوهية الحاكمة، ويرى أن المهمة الرئيسية لهذه الطليعة هى تغيير داخل المجتمع الجاهلى من أساسه، ولا سبيل لهذا التغيير سوى الجهاد واستخدام كل وسائل الحرب ضد الحكام وضد المجتمع.

وكانت الترجمة العملية لهذه الأفكار المنحرفة هى وضع مخطط لصنع المواد الحارقة والناسفة وجمع المعلومات ، كما وضعت خطط لنسف العديد من الكبارى والقناطر وبعض المصانع ومحطات توليد الكهرباء ومطارى القاهرة والإسكندرية، والمبنى الرئيسى لمصلحة التليفونات ومبنى ومحولات الإذاعة والتليفزيون.

كان هدف المخطط الإخوانى الجديد هو إحداث شلل عام فى جميع المرافق، وقد أعدوا خرائطها التى تم ضبطها مبينا عليها البيانات التى تفيد أسلوب وكيفية التدمير والتخريب . . . كما شمل المخطط أيضا تنفيذ موجة من الاغتيالات تبدأ من الرئيس جمال عبد الناصر وكبار المسئولين وغيرهم كما ذكرت آنفا .

شملت هذه القضية أيضا تخطيطا ضبط؛ كان هدفه اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر أثناء تحركه فى أى موكب رسمى فى القاهرة أو فى الإسكندرية علاوة على خطة أخرى لنسف القطار الذى كان يستقله الرئيس عبد الناصر فى طريقه للإسكندرية للاحتفال بعيد الثورة ، وخطة ثالثة لاغتياله وهو فى طريقه إما إلى منزله فى منشية البكرى أو فى طريقه إلى قصر القبة، وقد ضبطت فعلا هذه المحاولة باكتشاف محاولة وضع متفجرات فى أحد بالوعات المجارى فى شارع الخليفة المأمون .

لم يكن هذا المخطط ” إخوانيا ” خالصا بل شاركت فيه قوى دولية كان أبرزها حلف بغداد، وتنسيق مخابرات الحلف مع الموساد الإسرائيلى، وكان يشرف على التخطيط مع الإخوان المسلمين لجنة داخل الحلف تسمى ” لجنة مقاومة النشاط المعادى ” ، كما قدمت السعودية ربع مليون جنيه إسترلينى .

والحقيقة أنه لم تنقطع المخابرات المركزية الأمريكية عن محاولات التدخل فى الشأن المصرى للثورة اعتبارا من 1952 إلا أنه فى سنة 1965 بالذات فقد تم الكشف عن أكثر من قضية كان للمخابرات المركزية الأمريكية يد فيها .

ففى 21يوليو1965 تم القبض على الصحفى مصطفى أمين فى منزله بالإسكندرية، وكان بصحبته مندوب المخابرات المركزية الأمريكية فى السفارة الأمريكية بالقاهرة ” بروس تايلور أوديل “، والذى كان يتخذ غطاء لنشاطه صفة مستشار السفارة اعتبارا من أغسطس1964 الشىء الذى لم يخفى علينا حقيقته منذ أن قدم للقاهرة . وقد سرب مصطفى أمين لبروس أوديل من المعلومات والوثائق الكثير وبصفة خاصة معلومات عن القوات المسلحة المصرية وفى اليمن بالذات، وكذلك نشاط المشير عبد الحكيم عامر وزياراته للاتحاد السوفيتى واليمن، وعن مغادرة علماء الذرة الألمان للبلاد، وإيفاد علماء مصريين للصين وما ادعاه عن النشاط الشيوعى فى القوات المسلحة المصرية والأخطر عن جهاز سرى يتعامل معه وسيتحرك عند اغتيال جمال عبد الناصر ومحاولته تهريب وثائق تخص مصطفى أمين ومبلغ عشرين ألف جنيه قدمها له ، وضبطت على الطاولة ، وذلك لتحويلها فى السوق السوداء إلى ليرات لبنانية وفتح حساب له بها فى لندن .

ولقد أفرج السادات عنه إفراجا صحيا سنة 1974 بتدخل من هنرى كيسينجر ، كما أصدر قرارا بإسقاط الحكم عنه وتبرئته !! فى الوقت الذى كان كمال حسن على مدير المخابرات العامة المصرية فى تلك الفترة وبعد انقلاب مايو1971 ، إتخذ قرارا بأن تعتبر قضية مصطفى أمين قضية تخابر متكاملة ويتم تدريسها فى معهد المخابرات العامة كقضية نموذجية كاملة للتخابر .

وفى نفس الوقت الذى قبض فيه على مصطفى أمين فى أغسطس سنة1965 ، فقد تم ضبط عدة تنظيمات لجماعة الإخوان المسلمين يقودها سيد قطب، ووجهت لهم عدة اتهامات منها محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، وتدبير انفجارات وحرائق عدة فى مختلف أنحاء البلاد للمنشآت العامة والكبارى ومحطات الكهرباء ، علاوة على اغتيالات تتم لبعض رموز الدولة من السياسيين والمثقفين وبعض الفنانين .. الخ.

ولقد نشرت اعترافات سيد قطب فى كتابه ” لماذا أعدمونى ” الصادر عن كتاب الشرق الأوسط الشركة السعودية للأبحاث والتسويق ـ ص 58 . وتم نشر هذا الكتاب بعد إعدام سيد قطب بسنوات، وأهم ما جاء فيه كان ما ذكره ” أن منير دلة ـ من قيادات الإخوان المسلمين ـ قد حذره من شباب متهورين يقومون بتنظيم، ويعتقد أنهم دسيسة على الإخوان بمعرفة قلم مخابرات أمريكى ، عن طريق الحاجة زينب الغزالى ” .

وفى كتاب ” آلن جيران ” عن المخابرات المركزية الأمريكية أن الإخوان المسلمين كانوا ورقة دائمة فى يد المخابرات الأمريكية ـ كيرميت روزفلت ـ وأن منظّرى الحركة تأثروا إلى حد كبير بالنظام الإقتصادى والسياسى فى ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية . وأن الإخوان المسلمين هم سلاح ممتاز تستخدمه بعض الدول الغربية التى رأت منذ سنة 1940 أن هذه الحركة هى حاجز متين ضد النفوذ الشيوعى والتغلغل السوفيتى . ومن كل الذين استخدموا هذه الحركة فإن ” كيم ” ـ كيرميت روزفلت ـ كان دون شك الأكثر مثابرة .

كما كان ” كلود جوليان ” يعطى مثالا جيدا عن الشكل الذى أستخدم فيه الإخوان عندما يقول : “فى سنة 1965 ، وبالتواطؤ مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية نظمت جماعة الإخوان المسلمين المحافظة جدا ، مؤامرة واسعة ، للإطاحة بالنظام الناصرى ، إلا أن المسئولين الرئيسيين عنها اعتقلوا . ”

لم تكن هذه المخططات بعيدة بأى حال عما تنفذه المخابرات المركزية الأمريكية فى سائر دول العالم الثالث؛ مستهدفة التخلص من مجموعة القيادات التى أفرزتها حركة التحرر الوطنى بعد الحرب العالمية الثانية، وسببوا إزعاجا خطيرا لقوى التحالف الغربى بوجه عام، وفرضوا وجودهم على ساحة التوازنات الدولية ، ولقد انساقت هذه العناصر المضللة وراء حالة من الهوس الفكرى صاغها سيد قطب واستغلتها أجهزة المخابرات والقوى المعادية لثورة يوليو أفضل استغلال، ولم يفطن أى من هؤلاء المخدوعين إلى أنهم – إذا ما نجح المخطط – سيستلمون دولة لا تقوم إلا على الخراب – لكن الله سلم مصر التى كرمها كمهبط لأنبيائه، وبذكرها فى كتابه الكريم وأوصى خاتم الأنبياء بشعبها وجنودها الذين كتب عليهم الرباط إلى يوم الدين .

فى الواقع فإننا لا نحتاج إلى أدلة كثيرة لكى نثبت تآمر الإخوان المسلمين؛ فتاريخهم فى الإرهاب قبل الثورة وبعدها يشهد على دموية هذه الجماعة، وهو تاريخ لا أعتقد أنهم يمكن أن يقولوا أنه كان تمثيليات مسلسلة مدسوسة عليهم:

هل كان اغتيال النقراشى باشا تمثيلية؟

هل كان اغتيال الخاذندار رئيس محكمة استئناف مصر تمثيلية؟

هل كانت محاولة اغتيال إبراهيم عبدالهادى تمثيلية؟

هل كان اغتيال حامد جودة تمثيلية؟

ولا نريد أن نستطرد فى ذكر التاريخ الإرهابي للإخوان المسلمين ..

ولكنى أريد أن أذكر بعبارة قالها مؤرخ مصر الكبير عبد الرحمن الرافعى عن إرهاب جماعة الإخوان المسلمين : ” أن العنصر الإرهابي فى هذه الجماعة كان يرمى من غير شك إلى أن يؤول إليها الحكم، ولعلهم استبطئوا طريقة إعداد الرأى لعام لتحقيق هذه الغاية عن طريق الانتخابات فرأوا أن القوة هى السبيل إلى إدراك غاياتهم”.

ويؤكد ما قاله الرافعى منذ أكثر من نصف قرن ما قال به مرشد الإخوان العام السابق الهضيبى حينما قال ردا على سؤال وجه إليه بشأن ما ذكره الهلباوى لجريدة القدس بأن الإخوان المسلمين جماعة لا تخلو من الخطايا، والمعروف أن الهلباوى هو أبرز قادة الإخوان المسلمين فى لندن.. فى معرض تعليقه على الهلباوى قال الهضيبى:

” أنا مع الهلباوى فيما يقول؛ فنحن كنا متسرعين فى بعض حساباتنا مثل طريقة وصولنا للسلطة، ومحاولة اغتيال عبدالناصر”. ووصف الهضيبى من قام بمحاولة اغتيال عبدالناصر بأنهم بعض الشباب الهايف. وشهد شاهد من أهلها.. إذن يا سادة لم تكن تمثيلية كما يروج المدعين والمنافقين..!! أليس كذلك؟!!

بل كانت عملية دنيئة من مجموعة هايفة .. وأسف لاستخدام هذه الألفاظ، ولكننى أستخدم نفس الوصف الذى وصف به المرشد العام للإخوان جماعته.

كما أن الأمير نايف وزير الداخلية السعودى قال فى حديث له مع صحيفة السياسة الكويتية: ” إن مشكلاتنا كلها جاءت من الإخوان المسلمين، فقد تحملنا منهم الكثير، ولسنا وحدنا من تحمل منهم، ولكنهم سبب المشاكل فى عالمنا العربى وربما الاسلامى”.

ومن المناسب هنا أن أذكر قصة خاصة بى توضح أسلوب جماعة الإخوان فى تصفية حساباتهم مع خصومهم، وتأكيد استمرار السياسة الثأرية من جانبهم حتى بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر وهى باختصار..

قصة كمال ناجى وأنور السادات وشخصى البسيط، وهى رسالة من قيادة الإخوان المسلمين لشعراوى جمعة وسامى شرف تطلب منهما إعلان التوبة وطلب الصفح :

ففى أحد أيام شهر ديسمبر 1970 أضاءت اللمبة الحمراء للتليفون المباشر بينى وبين الرئيس السادات فى مكتبى بقصر القبة ودار الحديث التالى :

الرئيس السادات: صباح الخير يا سامى .

سـامى شـرف: صباح الخير يا فندم .

الرئيس السادات: عايزك تسيب خبر لمكتبك . . فيه واحد أنا حا أبعته لك دلوقت ومعاه

رسالة حا يبلغها لك . . ونبقى نتكلم فى الموضوع بعدين .

سـامى شـرف : طيب ممكن يا فندم أعرف إيه هو موضوع الرسالة علشان لو فيه رد لها أجهّزه .

الرئيس السادات : ( ضاحكا ) . . لا . . هو حا يبلغك بنفسه بالرسالة، وهيه فى الغالب مش محتاجة لرد . . وعلى العموم حا نتكلم بعدين . . سلام .

وبعد حوالى نصف ساعة دخل محمد السعيد ـ سكرتيرى الخاص ـ وقدم لى ورقة مكتوب فيها الآتى حسبما أذكر : ” أفندم ـ الضيف الذى جاء فى سيارة من الجيزة موفدا من سيادة الرئيس وصل وفى انتظار مقابلة سيادتك . ” .

ودخل الضيف الذى ما أن رأيته حتى عرفته على الفور من واقع تقارير الأمن، وكان كمال ناجى عضو جماعة الإخوان المسلمين والمقيم من مدة فى قطر ، وقلت له :

أهلا يا أخ كمال .. إنت وصلت القاهرة إمتى ؟

فرد باندهاش بالغ ـ لعدم سابق المعرفة أو اللقاء ـ والله أنا وصلت إمبارح، ولم أقابل أحد سوى الرئيس أنور الذى طلب منى أن أقابلك .

قلت له : خير .

فسكت وتشاغل بشرب فنجان القهوة الذى كان قد وضع أمامه . .

وطبعا فقد سكتت أنا بدورى فى انتظار إبلاغى بالرسالة التى يحملها حسب مكالمة الرئيس لى .

طال السكوت والصمت الذى قطعته بقولى : يا أخ كمال .. سيادة الرئيس أبلغنى أنك تحمل رسالة ستبلغها لى .

فهمهم وأشار بيديه وبرأسه يمينا وشمالا ، ولم يتكلم ولم ينطق بحرف.

وبعد دقائق معدودة وبعدما شرب فنجان القهوة طلب الاستئذان فى الانصراف ، فطلبت من السكرتير أن يوصله للسيارة التنى حضر بها ، وغادر المكتب ناسيا حتى أن يصافحنى !

ضغطت على زر التليفون المباشر بين الرئيس وبينى وجاء صوت الرئيس السادات على الطرف الآخر من الخط وكأنه كان منتظر هذه المكالمة وقال :

الرئيس السادات : أيوه يا سامى . . خير ؟

سـامى شـرف : خير يا فندم .

الرئيس السادات : جالك الزبون ؟

سـامى شـرف : أيوة جالى كمال ناجى عضو الإخوان الشهير اللى عايش فى قطر من مدة.

الرئيس السادات : هو إنت كل حاجة تعرفها ؟! هيه ؟ المهم بلغك الرسالة ؟

سـامى شـرف : لأ والله يا فندم اللى حصل كيت وكيت.. وحكيت له ما حدث بالضبط .

فضحك السادات ضحكة عالية طال زمنها ثم قال :

تلاقيه خاف منك ! ! حاكم إنت بتخوف الناس اللى ما تعرفكش . . سمعتك كدة ! حا تعمل إيه فى قدرك؟! مع إن اللى يعرفك ويقعد معاك بتتغير فكرته عنك تماما .. أنا حا أقول لك بقى الرسالة:

“كمال جاء لى بعدما أمنت مقابلته عن طريق الأخوة فى قطر ـ ما إنت عارف ـ وهو قال لى إنه بيحمل رسالة من قيادة الإخوان المسلمين الدولية والمصرية بتقول إن ثأر الدم اللى كان بينهم وبين المعلم ـ يقصد عبد الناصر ـ قد انتقل إلى شعراوى جمعة وسامى شرف ..! !

ثم ضحك وأضاف :أنا قلت له طيب ما تبلغ سامى إنت بنفسك الرسالة دى .. وآهو جالك، وأكيد خاف منك ولم يبلغك الرسالة . وبالمناسبة يا سامى أنا بأنصحكم تشددوا الحراسة عليكم اليومين دول إنت وشعراوى ” .

لم أعلق على كلام السادات لأننى فهمت أن الرسالة ذات شقين ، الأول من الإخوان المسلمين، والثانى من أنور السادات الذى أعتبر نفسه غير مسئول عن النظام، واعتبر نفسه شىء ثانى غيرنا كلنا، وانتهت المكالمة عند هذا الحد، وبلّغت شعراوى بما دار ولم نعمل على تشديد الحراسة ، لأن الحارس هو الله .

وكما سبق أن ذكرنا أن الرئيس السادات حاول استغلال جماعة الإخوان المسلمين لضرب أفكار ومبادئ الرئيس جمال عبد الناصر، وكل من ساروا على درب الرئيس جمال عبد الناصر؛ فأخرج أعضاء جماعة الإخوان المسلمين من السجون، وأعطاهم مساحات كبيرة من حرية الحركة وخاصة فى الجامعة وفى أوساط الشباب ظنا منه أنهم سيكونون أداه فى يده وسلاح يضرب به على يد معارضيه، ولكن ما حدث – كما يعلم الجميع- كان العكس؛ فقد انقلب السحر على الساحر، وكانت نهاية الرئيس السادات على يد نفر من أعضاء الجماعة وبمباركة منهم.

كما عانت مصر بعد ذلك من دوامة العنف والإرهاب على يد جماعة الإخوان المسلمين بهدف زعزعة استقرار مصر، والاستيلاء على السلطة. وتحت ضربات النظام تارة ومهادنة النظام تارة تم الاتفاق على فترة هدنة بين النظام والجماعة، وادعى أقطاب الجماعة أنهم سيتخلون عن العنف كوسيلة لتحقيق أهدافهم.. ففى الآونة الأخيرة سلكت جماعة الإخوان المسلمين فى مصر تكتيكا فى العمل السياسى غريبا على تاريخها السياسي الدموى؛ فقامت بالاتصال بأحزاب سياسية من بينها -للأسف- الحزب العربى الديمقراطى الناصرى ، وحزب التجمع التقدمى الوحدوى، وحزب الوفد الجديد، ولكن هل هذا التعاون مع الحزب العربى الديقراطى الناصرى يعنى غلق ملف العداء بين جماعة الإخوان المسلمين وثورة يوليو ، وقائدها الرئيس جمال عبد الناصر؟!! الإجابة بالطبع ..لا؛ فالحزب العربى الديقراطى الناصرى لا يمثل ثورة يوليو، ولا قائد الثورة..

هذا بالإضافة إلى أن الموقف المعادى للثورة وقائدها من قبل جماعة الإخوان المسلمين مستمر الى الآن وأعتقد أنه سيستمر؛ فالخلاف على ثوابت العمل الوطنى، والخلاف أيضا على الأهداف والمنهج والأسلوب؛ فثورة يوليو وقائدها أرادا لمصر النهوض والتقدم والازدهار، وجماعة الإخوان المسلمين تريد لمصر العودة لعصور قديمة بعيدة عن التقدم، والدخول فى دوامة من عدم الاستقرار والعنف .. ولهذا فالاختلاف سيستمر، فلازال أقطاب الجماعة يروجون بين مريديهم افتراءات حول مثالب نظام ثورة يوليو، وأنها كانت تهدف للقضاء على الإسلام، ويروجون لكل شئ يسئ للثورة وقائدها؛ حتى لو كانت مجرد إشاعات نابعة من أعداء مصر – وهم على علم بذلك – إلا أن موقفهم من الرئيس جمال عبد الناصر قد أعمى بصيرتهم وأبصارهم عن إدراك حقائق الأمور، وما قدمته ثورة يوليو وزعيمها لمصر وللأمة العربية؛ حتى أنهم وصلوا بحقدهم إلى اتهام الرئيس جمال عبدالناصر بالشيوعية والكفر؛ حتى ينقصوا من مكانة الرئيس جمال عبدالناصر عند الشعوب العربية والاسلامية، ولكن هيهات .. فقصة استغلالهم للدين، واللعب على وتر الشعور الدينى للشعب المصرى باتت عملية مكشوفة، وأفقدت الجماعة الجزء القليل الباقى من مصداقيتهم، فالشعوب العربية والإسلامية يدركوا أن الإسلام رسالة حق إيمانية تدعو إلى العدل والمساواة والحرية، والقضاء على الظلم والفساد والاستغلال، وما كانت مبادئ عبدالناصر إلا هذا، واعتبر أن الإسلام هو التعبير الإيماني للقومية العربية.

أما علاقة الرئيس جمال عبدالناصر بالإخوان المسلمين فليس لها أدنى صلة بالإسلام كدين وحضارة، ولكنها كانت علاقة قوة، وصراع على السلطة منذ اليوم الأول إلى الآن، غير أن جماعة الإخوان المسلمين استغلوا كل شئ من أجل تشوية الثورة وقائدها بما فيها استغلال الدين ظلما وافتراء، وهذه عاداتهم؛ فهم على استعداد لفعل أى شئ والتحالف مع أى جهة مقابل الحصول على السلطة والمال. فمرشد الاخوان المسلمين الحالى الأستاذ مهدى عاكف أعلن أن الجماعة ليس لديهم مانع من تأييد الرئيس مبارك لفترة ولاية خامسة ليكمل مدة الثلاثين عام فى حكم المصريين؛ بشرط أن يعترف النظام الحاكم بجماعته – جماعة الإخوان المسلمين – ، وقد سبق هذه التصريحات بفترة قليلة تصريحات أخرى ممعنة فى التزلف والرياء السياسى، والانتهازية المعهودة دائما فى جماعته، وكان نصها أنه هو وجماعته رجال الرئيس الأوفياء.. يا لها من بهلوانية سياسية وأشياء أخرى. نحن نسأل بدورنا المرشد العام للإخوان .. يا ترى هل تبايعون على إرادة الشعب المصرى مقابل اعتراف النظام الحاكم وسعيكم للوصول إلى السلطة؟!.

أخيرا إذا كان هناك من فرصة فى العمل السياسى بين الناصريين وتلك الجماعة .. فإن اللقاء مع تلك الجماعة يتطلب الإجابة الصريحة أولا، والمعلنة ثانيا من المرشد العام لتلك الجماعة حول عدد من الأسئلة، والمتعلقة بموقفهم من القائد الخالد جمال عبد الناصر وثورته العظيمة كخطوة أولى:

هل كان الاعتداء على الرئيس جمال عبد الناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية مسرحية من صنع النظام؟

هل كان الرئيس جمال عبد الناصر كافرا ومعاديا للإسلام؟ وهل سعى لهدم الإسلام، وإحلال الشيوعية؟

هل كان الرئيس جمال عبد الناصر طاغية، ومن يتمسك بمشروع النهضة الناصرى من الطغاة؟

هل ارتكب الرئيس جمال عبد الناصر جرم تعذيب خصومه أو أعدائه بمنهج تطبقه إسرائيل، أو بأى منهج آخر خارج عن حدود القانون؟

هل أهدر الرئيس جمال عبد الناصر المال العام؟

هل كانت زعامة الرئيس جمال عبد الناصر فى الوطن العربى زعامة شخصية زائفة؟

هل النعوت السفيهة التى أطلقتها الجماعة ضد الرئيس جمال عبد الناصر صحيحة؟

هل كان الرئيس جمال عبد الناصر وراء حريق القاهرة؟

هل كانت مظاهرات 9و10يونيو عام 1967 مدبرة من قبل النظام الناصرى؟

هل تراجعت الجماعة عن تحالفها مع الثورة المضادة التى قادها السادات .. ؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة أكاد أدركها مسبقا، ولكنى أطرحها لمن يدعون بالباطل أنهم ورثة عبدالناصر، وفى نفس الوقت يتعاونون مع تلك الجماعة بزعم أنها غيرت من موقفها إزاء ثورة يوليو وقائدها..

أردت فقط أن أكشف كذب هؤلاء وهؤلاء أمام البسطاء الواعين من أبناء الشعب المصرى العظيم الحافظين الحقيقيين لتراث ومبادئ الرئيس جمال عبد الناصر، وتمتلأ قلوبهم بالحب له، وتؤمن بأن ذلك الرجل أخلص لوطنه وشعبه، واجتهد بقدر ما استطاع أن يحقق آمال الشعب فى الحرية والكرامة والازدهار ؛ ولكى لا ينخدعوا بحديث تجار السياسة.

كلمة أخيرة لهؤلاء من مدعى الحنكة بأمور السياسة .. إن الإخوان حاليا يعانون من الانحسار والانكشاف فى عدد من الدول لأسباب لم تعد خافية على أحد، وعلينا أن ندرك أن من يقومون به من تقارب من عدد من الأحزاب والتيارات هى مسألة تكتيكية، وليست من ثوابت الجماعة أو نابعة من تغيير حقيقى فى استراتيجيتهم التى يتبنونها؛ فالمتتبع لأدبيات الجماعة منذ نشأتها يرى إقصاء غريبا للآخر ووصم فكرة التعددية، ومن يعتنقونها بمخالفة صحيح الإسلام الذين يعتبرون أنفسهم الممثل الشرعى والوحيد له، وهم لذلك دخلوا فى تحالفات سياسية انتهازية مع القصر الملكى أيام فاروق، ومن قبله فؤاد ضد حزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية قبل الثورة، وتحالفوا مع أسوأ رئيس وزراء وهو إسماعيل صدقى فى عام 1946 ، وفى عام 1953 أيدوا ثورة يوليو فى حل الأحزاب السياسية، وفى عام 1974 أعادوا إصدار مجلة الدعوة الشهرية وظلوا يكتبون فيها وفى مجلة الاعتصام ضد التعددية الحزبية التى أخذ بها السادات عام1976، ولم يغيروا موقفهم منها إلا بعد اعتقالات سبتمبر 1981، إذ أعلنوا إيمانهم بها وشاركوا أحزاب المعارضة فى أنشطتها واجتماعاتها.. إلا أن ذلك لم يكن تغيير إستراتيجي فى فكر الجماعة، بل كان مجرد مناورة سياسية تكتيكية قصدوها لمجرد تجنب ضربات النظام لهم، إلا أنهم فى واقع الأمر لا يؤمنون بمبدأ التعددية فهو يتناقض مع ما يدعونه من أنهم الوحيدون وكلاء الله فى الأرض، أو على الأقل ملائكة يعملون بالسياسة ولا يخطئون!!.. فأفيقوا يا سادة .. أو أعلنوها صراحة ..أنكم لستم منا وبعتم القضية.

(المصدر المستشار طارق البشرى فى كتابه الحركة السياسية فى مصر طبعة فبراير1965 ) . (والوثائق محفوظة فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى وكذا فى أرشيف الأجهزة المعنية) .

(هاتين المقابلتين مسجلتين ووثائقها محفوظة فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى وأرشيف كل من المباحث العامة والمخابرات العامة ) .
( تسجيلات هذه المحاكمة موجودة فى أرشيف مجلس قيادة الثورة بالجزيرة مع باقى المحاكمات الأخرى التى تمت فى هذا المبنى .
(هذه المحاكمات مسجلة بالكامل ووثائقها محفوظة فى أرشيف مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة فى مكتب الإدعاء الذى كان يرأسه البكباشى ابراهيم سامى جاد الحق والبكباشى محمد التابعى).
(لم يكن هناك طائرة خاصة لجمال عبد الناصر أو لرئاسة الجمهورية بل كان يتنقل بأى طائرة من طائرات مصر للطيران الخالية من الخدمة أو ننتظر عودة إحدى الطائرات من أى رحلة ليستقلها الرئيس.
(أنظر فى الملحق الوثائقى اعترافات قادة جماعة الإخوان المسلمين فى مؤامرة 1965، ومن أهمها أقوال سيد قطب.
)تفاصيل كل هذه القضية بالكامل محفوظة فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى وأرشيف المباحث العامة بوزارة الداخلية بما فيها محضر الاجتماع الذى عقد برئاسة المشير عبد الحكيم عامر فى مبنى القيادة العامة بمصر الجديدة عقب اكتشاف محاولة اغتيال الرئيس فى الجامع الأزهر، والذى حضره كل من على صبرى و كمال الدين رفعت وعباس رضوان وعبد العظيم فهمى وصلاح نصر وشعراوى جمعة وسامى شرف وشمس بدران ومحمد على عبد الكريم مدير المخابرات الحربية ، وذلك لوضع المخططات اللازمة لمقابلة النشاط المعادى الجديد

عبد الناصر والإسلام

الإسلام في عهد جمال عبد الناصر
بقلم : عمرو صابح

كاتب وباحث عربى من مصر..

الخليفة الراشد أبو بكر الصديق هو أول من بدأ جمع القرآن الكريم فى مصحف وذلك بعد إلحاح من عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد مقتل معظم حفظة القرآن فى حروب الردة ، والخليفة الراشد عثمان بن عفان هو صاحب أول مصحف تم جمع وترتيب سور القرآن الكريم به ، والرئيس جمال عبد الناصر هو أول رئيس مسلم فى التاريخ يتم فى عهده جمع القرآن الكريم مسموعا ( مرتلا و مجودا ) فى ملايين الشرائط و الأسطوانات بأصوات القراء المصريين .
لنلقي نظرة أكثر شمولا على أوضاع الدين الإسلامى فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر …
– فى عهد الزعيم الخالد جمال عبد الناصر تم زيادة عدد المساجد فى مصر من أحد عشر ألف مسجد قبل الثورة إلى واحد وعشرين ألف مسجد عام 1970 ، أى أنه فى فترة حكم 18 سنة للرئيس جمال عبد الناصر تم بناء عدد ( عشرة ألاف مسجد ) وهو ما يعادل عدد المساجد التى بنيت فى مصر منذ الفتح الإسلامى وحتى عهد عبد الناصر.
– فى عهد عبد الناصر تم جعل مادة التربية الدينية ( مادة إجبارية ) يتوقف عليها النجاح أو الرسوب كباقى المواد لأول مرة في تاريخ مصر بينما كانت اختيارية في النظام الملكي.
– فى عهد عبد الناصر تم تطوير الأزهر الشريف وتحويله لجامعة عصرية تدرس فيها العلوم الطبيعية بجانب العلوم الدينية.
– أنشأ عبد الناصر مدينة البعوث الإسلامية التى كان ومازال يدرس فيها عشرات الآلاف من الطلاب المسلمين على مساحة ثلاثين فداناً تضم طلاباً قادمين من سبعين دولة إسلامية يتعلمون في الأزهر مجانا ويقيمون فى مصر إقامة كاملة مجانا أيضا ، وقد زودت الدولة المصرية بأوامر من الرئيس عبد الناصر المدينة بكل الإمكانيات الحديثة وقفز عدد الطلاب المسلمين في الأزهر من خارج مصر إلى عشرات الأضعاف بسبب اهتمام عبد الناصر بالأزهر الذى قام بتطويره وتحويله إلى جامعة حديثة عملاقة تدرس فيها العلوم الطبيعية مع العلوم الدينية.
– أنشأ عبد الناصر منظمة المؤتمر الإسلامى التى جمعت كل الشعوب الإسلامية .
– فى عهد عبد الناصر تم ترجمة القرآن الكريم إلى كل لغات العالم .
– فى عهد عبد الناصر تم إنشاء إذاعة القرآن الكريم التى تذيع القرآن على مدار اليوم .
– فى عهد عبد الناصر تم تسجيل القرآن كاملا على أسطوانات وشرائط للمرة الأولى فى التاريخ وتم توزيع القرآن مسجلا فى كل أنحاء العالم .
– فى عهد عبد الناصر تم تنظيم مسابقات تحفيظ القرآن الكريم على مستوى الجمهورية ، والعالم العربى ، والعالم الاسلامى ، وكان الرئيس عبد الناصر يوزع بنفسه الجوائز على حفظة القرآن .
– فى عهد عبد الناصر تم وضع موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامى والتى ضمت كل علوم وفقه الدين الحنيف فى عشرات المجلدات وتم توزيعها فى العالم كله.
– فى عهد عبد الناصر تم بناء آلاف المعاهد الأزهرية والدينية فى مصر وتم افتتاح فروع لجامعة الأزهر فى العديد من الدول الإسلامية .
– ساند جمال عبد الناصر كل الدول العربية والإسلامية فى كفاحها ضد الإستعمار.
– كان الرئيس جمال عبد الناصر أكثر حاكم عربى ومسلم حريص على الإسلام ونشر روح الدين الحنيف فى العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس .
– سجلت بعثات نشر الإسلام فى أفريقيا وأسيا فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر أعلى نسب دخول فى الدين الإسلامى فى التاريخ ، حيث بلغ عدد الذين اختاروا الإسلام دينا بفضل بعثات الأزهر فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر 7 أشخاص من كل 10 أشخاص وهى نسب غير مسبوقة و غير ملحوقة فى التاريخ حسب إحصائيات مجلس الكنائس العالمى .
– في عهد عبد الناصر صدر قانون بتحريم القمار ومنعه ، كما أصدر عبد الناصر قرارات بإغلاق كل المحافل الماسونية ونوادى الروتارى والمحافل البهائية ، كما تم إلغاء تراخيص العمل الممنوحة للنسوة العاملات بالدعارة التى كانت مقننة فى العهد الملكى وتدفع العاهرات عنها ضرائب للحكومة مقابل الحصول على رخصة العمل والكشف الطبى.
– فى عهد عبد الناصر وصلت الفتاة لأول مرة إلى التعليم الديني كما تم افتتاح معاهد أزهرية للفتيات، وأقيمت مسابقات عديدة في كل المدن لتحفيظ القرآن الكريم، وطبعت ملايين النسخ من القرآن الكريم ، وأهديت إلى البلاد الإسلامية وأوفدت البعثات للتعريف بالإسلام في كل أفريقيا و أسيا ، كما تمت طباعة كل كتب التراث الإسلامية في مطابع الدولة طبعات شعبية لتكون في متناول الجميع، فيما تم تسجيل المصحف المرتل لأول مرة بأصوات كبار المقرئين وتم توزيعه على أوسع نطاق فى كل أنحاء العالم .
– كان جمال عبد الناصر دائم الحرص على أداء فريضة الصلاة يومياً كما كان حريصاً أيضاً على أداء فريضة صلاة الجمعة مع المواطنين فى المساجد.
– توفى الرئيس جمال عبد الناصر يوم الأثنين 28 سبتمبر 1970 والذى يوافق هجريا يوم 27 رجب 1390، صعدت روح الرئيس جمال عبد الناصر الطاهرة إلى بارئها فى ذكرى يوم الإسراء والمعراج ، وهو يوم فضله الدينى عظيم ومعروف للكافة .
– هذه بعض أعمال الزعيم الخالد جمال عبد الناصر فى خدمة الإسلام .
– الإسلام ليس هو حسن البنا و لا سيد قطب ولا الأخوان المسلمين ولا كل الجماعات
المتأسلمة .